الأربعاء 23 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

«الفراودة».. بنية العالم وفخ اللغة في رواية دينا الحمَّامى

حرف

فى روايتها الأولى «الفراودة- سيرة الفقد والإلهاء» تشيِّد دينا الحمَّامى عالمها الروائى الخاص «المُمكِن» فى قرية مصرية، تحفظ لهذا العالم خصوصيته الريفية- جغرافيته ومفرداته الثقافية الخاصة من طبائع وألفاظ وأغنيات وملابس وأطعمة.. إلخ، كما تجعله منفتحًا على الموضوعات العالمية بابتكارها شخصيتى أميرة وفخر؛ فالأولى عاشت بالعاصمة عيشة منفتحة وتعرف الكثير عن الفلسفة وفن الباليه، والثانى عاش بباريس ويعمل رسامًا؛ بذلك تتمكن الشخصيتان من مقارنة الواقع العالمى بالحاصل فى قرية الفراودة، ومن ثم تفتح المسارات السردية أمام المتلقى وتشحذ ذهنه. 

فى قرية تساير التطور التكنولوجى لكن روحها تتسم بالرجعية، يتحرك السرد فى مسارين: الماضى التأسيسى والحاضر الذى يندفع للأمام إثر لعنة أصابت «الفراودة». تؤسس الحمَّامى بنية شاقة- خاصة فى العمل الأول- إذ تلجأ لتقنية الأصوات المتعددة، فتقسِّم الرواية إلى سرديات صغرى- متجاورة ومتتابعة- تسهم جميعها فى تشييد السردية الكلية. كل صوت يضع بصمته فى الحكاية «يستعرض خلفيته الماضوية عبر الفلاشباك ويمنحنا صورًا من العام الحاصل بالقرية»، أحيانًا يتوقف الصوت فى منتصف حدث فارق، ويتركنا متشوقين لبقيته التى تأتى على لسان صوت آخر، أى أن كل حكاية تحيلنا لأخرى، فتصبح البنية الزمانية ذات وجهين: واحد متطور دراميًا يتناول اللعنة وأصداءها، وآخر يتعمق فى ماضى المكان وشخوصه ويقارب بين الواقعين المحلى والخارجى. 

تجيد الكاتبة لعبة التصعيد الدرامى، تُقطِّر الحبكة فى جرعات بينها مسافات محسوبة، تولِّد اللعنات تباعًا: تنتشر العنوسة وفق إرادة غير مرئية، يتيبس البلح على النخل، يشتد القيظ، تكتسى القرية بالجراد والأفاعى، ويواجه الناس مجاعة موحشة. يتخلل هذا التطور العام تطور فى وعى الشخصيات وأفعالها: أميرة تراود نائل بينما أخوه فخر يضمر لها حبًا كبيرًا ولا يصرح به، لتتزوج فى النهاية من ميسر بك، المستثمر الأجنبى. عناية ومنصف يهزمان الشبق واللعنة والتقاليد فى لقاء خفى. تتجلى الصراعات فى مستويات متعددة: صراع الأجيال ورغبة الأبناء فى «قتل الأب»، صراع الواقع مع الخرافة «الشيخ عبدالقادر»، صراع الفقر مع رأس المال «نائل وميسر بك»، صراع الناس مع السلطة «نائل»، اتحاد السلطات السياسية والدينية والمالية متمثلة فى نائل الذى يحكم القرية ويتحكم فى اقتصادها ويخطب فى الناس فى بيته وفى المسجد. تعرِّج الرواية على مضامين كالدجل والنميمة والاستسلام الجمعى، كما تناقش قضايا شائكة كالمساكنة وجرائم الشرف. ترتقى دينا بالفراودة لتصبح رمزًا لواقع مهزوم، تقول «المواطن ممزق بين زبانية نائل وحاشية سعيد»، تصنع إسقاطًا على الواقع من خلال قرارات فردية يتحكم بها نائل فى مصير القرية والناس.

ينتعش السرد داخل البنى الصغرى بالتفاتات فى الخطاب، فعناية مثلًا تتحدث إلى نورا الميتة ثم تغير وجهة الحديث لتخاطب الليل. لكن الفراغات النصية نادرًا ما تظهر فى تلك السرديات الصغرى، فالشخصية الواحدة تقوم بالكشف أولًا بأول وتنتقد تصرفات بقية الشخصيات وبالكاد تترك للمتلقى فراغات يملؤها بنفسه. على أن هناك فراغات على مستوى البنية الكلية- بين صوت وآخر- فالكاتبة تقفز زمنيًا على الأحداث العادية وتتناول الحاسم والفارق فى أحوال الفراودة، بقصد تطوير الحبكة دراميًا. 

تتحكم الحمَّامى جيدًا فى الحبكة الرئيسية والحبكات الفرعية، وتخوض اختبار الأصوات الصعب بجرأة تحسب لها، لكنها تقع فى فخ اللغة وفتنتها، بما يؤثر أحيانًا على الإيقاع وعلى تمايز الأصوات. تلجأ للجمل الطويلة ذات الزوائد الاعتراضية والوصفية. تصنع حوارات دالة ونابعة من السياق لكنها أحيانًا تمزج العامية السلسة بالفصحى الرصينة فتُحدِث ارتباكًا فى المنتج الحوارى: «تسلم وتعيش، اتفضل يا بنى، كلٌ بالداخل/ مشاغل والله يا عناية، وقتى مشحون بالمدرسة حتى الظهيرة وبالدروس والتصحيح». أحيانًا تتدخل بصياغات ومعارف تتجاوز وعى الشخصيات: «يأبى الجمال أن يٌمس من قبل التقوى المزيفة/ شرذمة من الدهماء/ بلغنا المشفى أخيرًا بعد رحلة كفكاوية/ لا تصدر نأمة». قد تنبع المفردات من وعى الشخصية ومن السياق، لكن النسق التركيبى للكلمات ينبع من وعى الكاتبة، كأن يقول شريف: «مصطبحًا بحجرى معسل من باب تسليك الصدر» وهى جملة كان من الممكن أن تأتى أبسط بألفاظها البراقة الدالة. تستخدم القليل من الكليشيهات: «حتى يرث الله الأرض ومن عليها/ لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى». تستخدم تراكيب مؤقتة مثل: «مصلحتهم التى هلكت من الصب فيها وهى شفرة ثقافية- ترتبط بالآنى- وقد لا يفهمها المتلقى بعد سنوات». 

على أن الأصوات لا تقبع طويلًا فى فتنة اللغة، فلكل صوت حكايته، مأساته وخلفياته، فتتجلى أصوات مثل أميرة وفخر ونائل وعناية ومنصف «أكثر الأصوات حكمة»، إذ لكل منهم مبرراته ودوافعه ووجهة نظره وإضافاته المغايرة للحكاية. كما أن عناية أكثر شخصية عبرت عن مأساتها ومكنونها العاطفى بصدق واتخذت أفعالًا تجابه اليأس الشخصى واللعنة العامة. 

تبتدع دينا آمالًا جديدة فى مجابهة اليأس الجمعى: شاهندة تتزوج رغم اللعنة، شريف ونورا يخططان للزواج، عناية ومنصف يشبعان رغبتيهما، نسوة القرية يثرن على الواقع، اللعنة لا تدخل غرفة عناية، فتستعرضها الحمَّامى كجنة بها الطعام الوفير والماء والهواء.

يفاجئنا إيقاع السرد فى الثلث الأخير من الرواية ليتخلى عن الزوائد اللغوية ويتسارع. تقول: «أخذت الحرارة تزداد والشمس تدنو حتى غشيت أرض القرية بأكملها، وبدأت بقية الأعشاب التى لم تطلها أنياب الجراد فى التجفف واليبوس فى أقل من دقائق، وأشار نائل بيده إلى العمال الذين يقودون المعدات كى يوقفوا الزحف». وتقول: «ارتديت ملابسى من دون تجفيف، واتجهت لمشاهدة حال الفراودة من خلف زجاج شرفة قبوى، يا للأسف، أصبح الناس يتناولون بقايا أعواد قصب صارت حطبًا»، ما يؤكد أن الكاتبة تمتلك الوعى بالزمن وبالبنية ولديها المقدرة على خلق عالم مكتمل، لولا أن اللغة فتنتها فى بعض المواضع. 

تنتهى الرواية نهاية كرنفالية تؤكد مهارة الكاتبة فى صناعة المشهديات المغايرة التى تربط المصائر الشخصية بالمصير الجماعى: الست راضية تحتفى بدنو الموت، شاهندة تضع وليدتها الأولى، تلد الأمل الذى ينتصر على كل لعنة، شريف يخرج من صومعته التى دخلها بعد وفاة نورا، عناية ومنصف يوحدان طريقيهما. 

تبدأ الرواية بلعنة وتنتهى بأمل، تتعدد الأصوات وتتناثر الوحدات الحكائية بين ثنايا السرد، لتؤكد اتساع خيال الكاتبة وامتلاكها الأدوات الواعدة.