الأربعاء 23 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

من أيبيريا إلى الصين: لمحات من تفاعلات الشرق والغرب

حرف

- الكتاب يتيح فرصة ممتازة للمتخصصين والمؤرخين والباحثين

منذ ظهور الإسلام فى القرن السابع الميلادى، كان هناك تفاعل مستمر بين أوروبا والعالم الإسلامى، وغالبًا ما كانت له نتائج عميقة على كلا الجانبين. كانت هذه العلاقات المتنوعة أعمق وأكثر تأثيرًا فى منطقتى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وقد ساهمت الحضارة العربية الإسلامية مساهمة كبيرة فى تطور الحضارة المسيحية الأوروبية خلال بضعة قرون. وكانت الطرق الرئيسة لهذا الانتقال هى جزيرة صقلية وإسبانيا. لقد فعل الإسلام أكثر بكثير من مجرد تحديد أوروبا جغرافيًا.

صدر كتاب «من أيبيريا إلى الصين: بعض تفاعلات العالم الإسلامى مع الغرب والشرق» (From Iberia to China: Some Interactions of the Islamic World with the West and the East) عن جامعة إتفوش لوراند ببودابست، وهى واحدة من أعرق الجامعات الأوروبية، الحاصل ستة من خريجيها على جائزة نوبل، وترأس تحرير الكتاب كل من د. عبدالله عبدالعاطى النجار، الأستاذ الزائر بالجامعة والبروفيسيرة أجنيش يوديت سيلاجى رئيس قسم تاريخ العالم الحديث والمعاصر بذات الجامعة، وزولطان برانتنر، الأستاذ المشارك فى جامعة كودولانى يانوش بالمجر. 

يشير الأستاذ الدكتور على السيد، عميد كلية الآداب الأسبق بجامعة دمنهور وعضو لجنة ترقية الأساتذة والأساتذة المساعدين بالمجلس الأعلى للجامعات، فى افتتاحيته إلى أن هذا الكتاب يحتوى على دراسات بحثية رصينة ومتوازنة من العصر الجاهلى والإسلامى والاستعمارى وما بعد الاستعمارى، بالإضافة إلى الأبعاد النظرية الحديثة للعلاقات الدولية، كما تشير الافتتاحية إلى أنه ينبغى النظر إلى هذا المنتج العلمى الذى يعد بمثابة امتداد لمعرفتنا بالغرب والشرق وأوروبا والعالم العربى، كما يسلط ضوءًا جديدًا على تعقيدات الشئون الدولية فى أوروبا والشرق الأوسط، والتاريخ الحديث للشرق الأوسط والشرق الأقصى، والتعددية الثقافية، ويساعدنا على فهم أفضل لها.

ينقسم الكتاب من حيث هيكله إلى أربعة فصول. يحمل الفصل الأول عنوان «قرون من التأثير الإسلامى على أوروبا الغربية»، ونجد فيه أعمال خمسة مؤلفين. أما الفصل الثانى «تواصلات القرن العشرين بين أوروبا الشرقية والوسطى والشرق الأدنى»، ففيه إلقاء نظرة ثاقبة للموضوع من خلال كتابات خمسة باحثين آخرين. أما الفصل الثالث «المملكة العربية السعودية والشرق الأقصى»، فنطالع بين ثناياه أقلام ثلاثة مؤلفين مجريين. فى الفصل الرابع والختامى نقرأ «مراجعات الكتب»، وفيه أربع دراسات موجزة لمجموعة من أهم الكتب التى تناولت العلاقات بين الشرق والغرب.

بالرجوع إلى الدراسات التى يحتويها الفصل الأول، يمكننا تفسير الأثر الإسلامى فى أوروبا الغربية. فالفصول الخمسة هنا ترشدنا من بدايات الفتح الإسلامى فى القرون الوسطى إلى التراث الثقافى الإسلامى فى القرن العشرين. فى الدراسة الأولى تبحث د. شيماء البنا فى الهوية الثقافية لغرب الأندلس، وتسلط الضوء على تعريفها الدقيق وأهميتها فى الحفاظ على النزعات الثقافية للشعوب. ومن أهم النتائج التى توصلت إليها الدراسة أن الطبيعة لعبت دورًا رئيسيًا فى تشكيل الهوية الإسلامية للبرتغال، وأن هوية غرب الأندلس هى نتيجة اندماج العرب والبربر والهويات الأخرى. وهدف الأستاذ الدكتور على السيد إلى تتمة الدراسة الأولى ببحث رصين يدلل فيه بيان تطبيق الجوانب التاريخية والأثرية والجغرافية المتعلقة بفترة الحروب الصليبية، والتى يبرز فيها دور الآثار المصرية القديمة. أما محور الدراسة الثالثة التى أعدتها الأستاذة رانيا محمد إبراهيم فهو يدور حول القرنين الثانى والرابع عشر والمقاطعة الاقتصادية بين الشرق الإسلامى وأوروبا. تركز هذه الدراسة على أهم حالات المقاطعة الاقتصادية بين المسلمين والمسيحيين، وتوضح فيها القرارات التى أصدرتها البابوية بحظر تجارة المدن الأوروبية مع المسلمين، ومدى التزام هذه المدن بقرارات البابا، كما تشرح فيه القرارات التى أصدرتها البابوية.

أما كاتبة الدراسة الرابعة من الفصل الأول فهى المؤرخة المجرية الشهيرة آجنيش يوديت سيلاجى، وفيها يمكننا أن نقرأ عن مسيرة عازفة البيانو الفرنسية- البرتغالية مارى أنطوانيت أوسيناك «١٨٨٣-١٩٧١»، التى لفتت انتباه مجلة أتلانتيدا الشهيرة، ومن ثم كتبت الكثير عن تفاصيل حياتها، مع العلم أنه فى بداية القرن العشرين، لم يكن هناك الكثير من الكتابات التى تتناول حياة وأعمال الشخصيات النسائية. بينما فى الدراسة الأخيرة من هذا الفصل نقرأ ما كتبته الباحثة فيولا صابو عن ضريح جول بابا فى بودابست، الذى توفى فى القرن السادس عشر، وهو موقع معروف وقبلة للزيارة من المسلمين فى القرنين التاسع عشر والعشرين. واعتمادًا على المصادر الأرشيفية، تقدم فيولا نظرة ثاقبة على أهميته فى القرن العشرين، كما نحصل على أدلة حول سياق جهود الحكومة المجرية والتركية لدعم الجالية المسلمة فى بودابست فى بداية القرن.

يتضمن الفصل الثانى دراسات عن العلاقات بين أوروبا الوسطى والشرقية، والشرق الأوسط فى القرن العشرين. وتصور مقالات هذا الفصل العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية بين المنطقتين خلال فترة الحرب الباردة. فى الدراسة الأولى، تتناول د. إليزابيث بيشوب من جامعة تكساس دور سفينة الرئاسة اليوغوسلافية «غالب» فى العلاقات العربية الأوروبية، مسلطةً الضوء على اللقاء الذى جمع بين تيتو وجمال عبدالناصر على متنها، واصفة فى بداية العمل أصل السفينة وأهميتها الدبلوماسية. ثم تناولت العلاقات بين مصر ويوغوسلافيا، والتعاون فى تأميم قناة السويس، وأعالى البحار بعد الأزمة. وعرضت بيشوب تطور العلاقات العربية اليوغوسلافية ونتائجها من خلال هيكلية واضحة المعالم.

يعرض د. لوكاتش كرايتشير فى مقالته «من التعاون العسكرى القوى إلى الجلاء التام» العلاقات بين مصر وتشيكوسلوفاكيا، منذ إبرام اتفاقية شراء الأسلحة عام ١٩٥٥ وحتى اندلاع العدوان الثلاثى على مصر عام ١٩٥٦، ويمكن تقسيم المقال إلى ثلاثة أجزاء رئيسية ترتبط ببعضها البعض بشكل منطقى وواضح، ما يساعد على فهم الموضوع. تصف الدراسة العمليات الاقتصادية والسياسية والتجارية بين البلدين، مؤكدة أنها لم تكن قائمة على مبيعات الأسلحة فحسب، بل كان تأكيدها على بيع العديد من المنتجات الأخرى مثل معدات الديزل والقاطرات والجرارات وغيرها، ويتضح الارتباط الوثيق بين البلدين من خلال حقيقة أن الجانب التشيكوسلوفاكى كان يرسل أيضًا خبراء عسكريين إلى مصر. قد تكون الدراسة مفيدة للباحثين فى التاريخ العسكرى والسياسى، ويستخدم كرايتشير عددًا من المصادر الأرشيفية التى يمكن أن تكون بمثابة قاعدة بيانات ذات أولوية للمعلومات لإجراء المزيد من الأبحاث حول هذا الموضوع.

تعد دراستا د. عبدالله عبدالعاطى النجار والبروفيسير لاسلو ناجى من الأعمال المهمة فى البحث فى تاريخ العلاقات المجرية العربية فى القرن العشرين. فعبدالله عبدالعاطى النجار مؤرخ ومترجم مصرى نشر العديد من الأعمال عن العلاقات المصرية المجرية، وتتيح هاتان الدراستان فرصة للتعرف أكثر على أحدث نتائج البحوث التاريخية العربية والمجرية. ففى الدراسة الأولى التى حملت عنوان «العلاقات العراقية المجرية بين عامى ١٩٥٨ و١٩٨٩»، تناول الباحثان العلاقات العراقية المجرية مستخدمين عددًا من المصادر الأرشيفية المثيرة للاهتمام، والتى تظهر من منظور جديد أنشطة الدبلوماسيين المجريين، واللقاءات الثنائية المهمة بين الطرفين وتطور العلاقات الاقتصادية والسياسية بين العراق والمجر بين عامى ١٩٥٨ و١٩٨٩. يقدم العمل لمحة تاريخية دقيقة عن الحياة السياسية والاقتصادية فى تلك الحقبة فى العراق ونظام الرئيس الأسبق صدام حسين وأهداف الدبلوماسية المجرية وإنجازاتها فى إطار تطوير العلاقات المشتركة. أما الدراسة الثانية «العلاقة المجرية- الخليجية فى السبعينيات والثمانينيات» فتتناول العلاقة بين منطقة الخليج والمجر، وتسلط الضوء بشكل أكبر على العلاقة بين المجر والكويت، إذ بعد أزمة النفط عام ١٩٧٣، أصبح الدور الاقتصادى للشرق الأوسط أكثر أهمية على مستوى العالم، وبسبب ذلك أصبحت الدبلوماسية المجرية مهتمة به، ويرسم العمل العلاقات الاقتصادية والتجارية والسياسية بين المجر والدول العربية فى منطقة الخليج، ويدعم المقال أهمية العلاقات الاقتصادية بين الدول بالبيانات الاقتصادية الملموسة. إضافة إلى المصادر الأرشيفية، اعتمد المؤلفان أيضًا على عدد من المصادر الصحفية المجرية، علاوة على الحواشى التى قدمت شروحًا وأوصافًا مفيدة لأهم الأحداث والشخصيات والمفاهيم فى المنطقة. وننصح كل من يهتم بالدبلوماسية والعلاقات المجرية العربية أن يطالع هذه الدراسات المنشورة فى هذا المجلد.

ختامًا، يمكننا القول إن هذا الكتاب يتيح فرصة ممتازة للمتخصصين والمؤرخين والباحثين وطلاب الجامعات المتخصصين فى الدراسات الشرق أوسطية والبحر متوسطية، وكذا المهتمين بالتقاليد العربية والأوروبية والتراث الثقافى العربى لمطالعة أهم النتائج التى تم التوصل إليها فى الموضوعات المتنوعة التى تم تناولها. تزود الدراسات الواردة فى هذا العمل القارئ بالكثير من المعلومات الجديدة، والتى تم تناولها من منظور جديد مغاير عن الدراسات السابقة. كما يُظهر تنوع الدراسات وجودتها مدى أهمية الشرق الأوسط كمنطقة ثرية من الناحيتين البحثية والتأريخية.