عن الصحفى الوحيد الذى حلمت بالعمل معه.. إمبراطور «روزاليوسف»
على طول تاريخ الصحافة المصرية وعرضه وعمقه لم أحلم بأن أعمل إلى جوار أحد من أساتذتها الكبار إلا هو.
الأستاذ صلاح حافظ.
تعرفت على صلاح وتجربته وملامح مدرسته وحدود أستاذيته بالتقسيط.
عندما كنت فى السنة الثالثة بكلية الإعلام جامعة القاهرة - السنة الأولى بقسم الصحافة - وبينما أتسكع متباطئًا أمام سور الجامعة وقعت عيناى على كتاب تحتل صورة غلافه بشكل لافت «ذكريات صلاح حافظ... الصحافة - السلطان - الغضب».
لم أكن أعرفه.. تصفحت الكتاب فوجدته حوارًا مطولًا معه أجراه كاتبنا الصديق العزيز الآن رشاد كامل، اقتنيت الكتاب وجئت على ما فيه فى ليلة واحدة، فما يقوله لا يقاوم، وما يخفيه بين سطوره له سطوة وسلطة وسيطرة، ومن يومها وصلاح يملك على كل كيانى.
ولأنه مات فى العام 1992 بما يعنى أن فرصتى فى الاقتراب منه تبددت تمامًا، فقد رحت أحلم بأن أعمل إلى جوار من عملوا معه، وهو ما حققته لى الأقدار بالعمل مع الكاتب الكبير عادل حمودة لما يقرب من خمسة عشر عامًا، فعوضتنى هذه الفرصة بأهم وأكبر وأخطر تلاميذ صلاح فى مدرسة الصحافة المتوحشة.
فى واحدة من المناسبات الاجتماعية جمعتنا مائدة واحدة أنا والأستاذ عادل حمودة والكاتب الكبير خيرى شلبى، وكانت تجلس معنا الإعلامية الصديقة عزة مصطفى، يومها قال لى خيرى شلبى: أنت فيك الكثير من عطر صلاح حافظ.. فشعرت أن وقوع كتاب رشاد عنه بين يدىّ لم يكن مصادفة، ولم يكن عملى مع عادل حمودة إلا بعضًا من قدرى.
فى كتاب رشاد كامل يمكنك أن تتعرف على صلاح حافظ المفكر السياسى والأسطى المهنى، لكن من الصعب أن تجد نفسك أمام تاريخه الصحفى والإنسانى كاملًا.
فعلى على مدار 20 ساعة كاملة جلس رشاد إلى صلاح عام 1984 ليسمع منه، حصل منه على كل ما أراده، قدمه إلى قراء مجلة «صباح الخير» دون فذلكة فى خمسة حوارات أثارت الغبار والأفكار، وتوالت عليها الردود، وتم ذلك كله برعاية لويس جريس رئيس تحرير «صباح الخير» وقتها.
وبعد أن مضت السنون رأى رشاد أن يدفع بالحلقات إلى المطبعة، ليُخرج لنا فى النهاية كتابًا مهمًا للغاية، لأنه يمثل جزءًا من تاريخنا الذى اعتقدنا أنه مضى، ورغم حضوره الطاغى فى أيامنا التى نعيشها، يؤرق منامنا ويقلق صحونا، دون أن ندرى كيف نواجهه.
اعتقدت أننى عرفت صلاح حافظ وقتها، لكننى بعد أن استمعت لمن عرفوه عن قرب أدركت أننى لم أر منه سوى قمة جبل الجليد.
تحدث صلاح حافظ فى مذكراته عن الصحافة والحاكم، عن المعارك التى خاضها، والصحف التى أسسها، والصحفيين الذين عمل معهم.. لكنه نسى نفسه.
عندما سجل رشاد معه بعضًا من سطور حياته طلب منه ألا ينشرها فى حلقاته الصحفية، إذ ما الذى يهم الناس فى طفولته وشبابه وبداياته الأولى.
لم يكن صلاح حافظ موفقًا فى منطقه، لكنه أصر عليه، فلم يفصح إلا عما أراده فقط، ورغم قلّته لكنه يمكن أن يعيننا على فهم هذا الرجل المعجز، الذى برع فى كل شىء، ولم يهتم كثيرًا بأن يخلّف وراءه ما يخلده، فقد عاش الحياة كما أراد وهذا يكفيه.
الحكاية طويلة.. والدروس أكثر.
عندما كان يدرس فى المرحلة الابتدائية حاول أن يكتب الشعر وعندما انتقل إلى الثانوية العامة كتب القصة
جاء صلاح حافظ من محافظة الفيوم ليدخل كلية الطب، كان ذلك فى منتصف الأربعينيات.
دخل الكلية بالفعل وأكمل دراسته فيها، لكنه لم يصبح طبيبًا لا شهيرًا ولا مغمورًا، لم يدخل عنابر المرضى أو غرف العمليات.. دخل بقرار وقدر عالم الصحافة والكتابة والأدب.
عندما كان يدرس فى المرحلة الابتدائية حاول أن يكتب الشعر، وعندما انتقل إلى الثانوية العامة كتب القصة، وكان فى ذلك متأثرًا بكتابات المنفلوطى وطه حسين وتوفيق الحكيم.
فى هذه الفترة كان صلاح حافظ قارئًا محترفًا، يقرأ المجلات بكثافة شديدة، ولم يترك حتى «البعكوكة».. بل إنه حاول أن يقلد الأزجال التى كانت تُنشر فيها!
بهذه الخلفية الثقافية جاء صلاح حافظ إلى القاهرة طالبًا فى كلية الطب، لم يكن الطب على هواه، كل ما حدث أن والده قال له: «إنت تنفع تكون طبيب».
لم تنزع دراسة الطب صلاح حافظ من اهتماماته الأدبية وكتابة القصص القصيرة
لم يشعر صلاح بتناقض شديد بين ما كان يحبه وما يدرسه، فرغم اهتمامه بالأدب فإنه كان يحب الكيمياء والطبيعة، ويتفوق فيهما، بل إنه جرب أن يكون مخترعًا، وذات مرة اخترع جرسًا كهربائيًا يدق فور دخول لص إلى البيت.
سبب آخر جعل صلاح يقبل على دراسة الطب دون غيره، فقد كانت مهنة الطب لا تزال مهنة موقرة جدًا، كما كان عدد الأطباء قليلًا للغاية.
لم تنزع دراسة الطب صلاح حافظ من اهتماماته الأدبية وكتابة القصص القصيرة التى أيقن أنه يجيدها بعد أن فاز بأول جائزة من وزارة المعارف العمومية، والحقيقة أنها لم تكن جائزة واحدة ولكن كانت جائزتين مرة واحدة.
لم يكن صلاح حافظ مهتمًا بأن يجمع المال.. كان يستمتع بحياته بالشكل الذى يريده
ومن وزارة المعارف إلى جريدة «الكتلة» التى كان يصدرها مكرم عبيد بعد أن انشق عن حزب الوفد وألف كتابه الأسود ضد مصطفى النحاس باشا.
نشر له حلمى مراد رئيس تحرير «الكتلة» قصتين وأعطاه ثمانية جنيهات مرة واحدة، ولحظتها أدرك صلاح أن الكتابة ليست هواية فقط، ولكنها يمكن أن تصبح مهنة، ويصبح لما يكتبه قيمة ويستحق النشر ويتقاضى عنه نقودًا».
قبل أن يلتقط صلاح حافظ أنفاسه فى «الكتلة»، وبعد أن بدأ يستعد للصعود، قرر حلمى مراد أن يترك جريدة «الكتلة»، كان ذلك عام ١٩٤٨.
ومن حظ صلاح أن أصدر مليونير وفدى يملك مصانع عديدة للثلج صحيفة اسمها «الجريدة المسائية».. كان رئيس تحريرها كامل الشناوى، حمل إليه صلاح قصصه ذات يوم، أخذها منه وطلب منه أن يراه بعد أسبوع.
سافر صلاح إلى الفيوم وعاد بعد سبعة أيام، ليعرف أن كامل الشناوى بحث عنه فى كل مكان، وعندما رآه قال له سوف ننشر لك قصة فى العدد المقبل، وطلب منه كامل أن يذهب إلى الخزينة ليصرف عشرة جنيهات مقابلًا لقصته.
ومن الجريدة المسائية إلى دار النداء التى أسسها يس سراج الدين لينافس بها أخبار اليوم، كانت دار النداء تُصدر صحيفتين هما: «النداء» و«صوت الأمة».
اختار صلاح «صوت الأمة» وتعلم فيها كل ما يتعلق بفن الطباعة والإخراج الصحفى من خلال علاقته بعمال المطبعة، وفجأة قال له يس سراج الدين: إنت يا صلاح قصاص وأنا عاوز أصدر مجلة قصة.
وبالفعل صدرت مجلة «القصة» ورأس تحريرها الشاعر إبراهيم ناجى وعمل صلاح حافظ سكرتيرًا لها.
فى مجلة «القصة» ظهر جانب مهم من جوانب شخصية صلاح.
كانت مؤسسة روزاليوسف تصدر مجلة داخلية اسمها «٢٧ أكتوبر» وكان اسمها مستمدًا من يوم مولد صلاح حافظ، ويحررها العاملون فى المجلة ويغلب عليها الطابع الساخر.
فى العدد الخامس من المجلة يكتب فهمى حسين أحد كتاب روزا: شهدت مملكة مصر والسودان طفرة أدبية وفنية، وكان من مظاهر هذه الطفرة مجلة خاصة بأدب القصة القصيرة اسمها «القصة» ومجلة أخرى اسمها «قصتى»، وكان من شأن هذه المجلات ولكونها لا يتجاوز ثمنها ثمن ساندوتش الفول أو قطعة الشوكولاتة أننا كنا لا نفوت عددًا يصدر منها، ولا يفوتنا سطر ينشر فيها إلا وقرأناه وتبادلناه بيننا، بحيث أصبحت القراءة هى الأكثر متعة من لعب البِلى والترنجيلة أو حتى كرة القدم والثعلب فات فات وفى ديله سبع لفات.
ويضيف فهمى حسين: فى ذلك الزمان استوقفتنا قصة للكاتب اللامع والأديب الواعد صلاح حافظ، ما جعلنا نقتبس بعض فقرات من قصصه لنسجلها فى كراسة تحسين الخط، الأمر الذى جعل المدرس يحذرنا من الانسياق فى الدروشة وراء هذا الكاتب الذى لم تخل كتاباته حتى القصصية من نوايا وأفكار سياسية لا تتناسب وبراءة الطفولة، وأوعز إلينا بأن ننصرف عنه إلى المنفلوطى ومصطفى صادق الرافعى والعقاد وطه حسين.
ويكمل فهمى حسين الصورة: وعندما تجاوزنا هذه المرحلة بدأنا نفهم لماذا حذرنا مدرس اللغة العربية من كتابات صلاح حافظ، خاصة أنه كان قد بدأ يسفر عن نواياه تحت عنوان «انتصار الحياة» على صفحات روزاليوسف التى تطورنا إلى قراءتها، ربما تعقبًا له ولأمثاله من الكُتاب أصحاب النوايا والأفكار السياسية غير البريئة، وتوالت السنون والحقب وشاءت الأقدار أن أصبح التلميذ زميلًا للأستاذ، وفى نفس المجلة لأتيقن بنفسى أن صلاح حافظ الذى لمست براءة الصبية فى عينيه ليس بريئًا بأي حال، ولأتيقن أن شيخنا المرحوم مدرس اللغة العربية كان على قدر من الفراسة عندما نبهنا إلى ذلك.
ومن القصة أخذ مأمون الشناوى صلاح ليعمل معه فى مجلتى «الستار» و«وراء الستار»، اللتين كان يصدرهما مع إبراهيم الوردانى، ويملكهما شفيق مرشاق وهو سورى كان يعمل فى إدارة دار الهلال، وفجأة حدث له شىء أشبه بما يحدث فى أفلام السينما، فقد مات له عم كان يعيش فى البرازيل فورث أموالًا طائلة.
كانت المجلة تخسر باستمرار.. لكن صلاح خرج منها بقضية حكم عليه فيها بغرامة هائلة وقتها وصلت إلى ٢٠٠ جنيه.
كان صلاح قد أنشأ فى المجلة بابًا عن الجامعة، ووضع له شعار «اطلبوا العلم ولو فى مصر»، وتعرض فيه لبعض الأوضاع الخاطئة فى الجامعة.
رفع عميد كلية دار العلوم وعميد كلية الزراعة قضية على المجلة، وجد صلاح حافظ نفسه وحيدًا فيها.
صاحبها قال: أنا ماليش دعوة.
والوردانى قال: أنا معرفش حاجة.
ودفع صلاح حافظ الغرامة وحده بعد أن غضب بشدة من كامل الشناوى، حيث كتب يدعو القراء للمساهمة فى مبلغ الغرامة.
وجد صلاح نفسه بعد ذلك فى جريدة «الملايين»، التى أصدرها رجل ثرى كان يحلم بمنافسة أخبار اليوم، جعلها صلاح وكان معه زهدى الرسام ومأمون الشناوى منبرًا لليسار للدرجة التى جعلت صاحب المجلة يسخر منهم قائلًا: مفيش جوابات وصلت لكم من موسكو؟
وفى صخب العمل فى «الملايين» وجد صلاح مأمون الشناوى أمامه يقول له: إحسان عبدالقدوس يريد مقابلتك.
إنها روزاليوسف إذن.
المجلة التى خرجت للنور فى نفس العام الذى ولد فيه صلاح ١٩٢٥، قابل صلاح إحسان ووالدته السيدة فاطمة اليوسف وتم تعيينه سكرتيرًا للتحرير بها.
فى مرحلة روزا كان صلاح قد نضج تمامًا، بعد روزا طلبه مصطفى وعلى أمين للعمل معهما فى جريدة الأخبار التى صدرت عام ١٩٥١.
لم تمانع فاطمة اليوسف فى انتقال صلاح إلى الأخبار، خاصة أن مصطفى وعلى كانا من أبنائها أيضًا، حصل صلاح من الأخبار على راتب وصل إلى ستين جنيهًا، وكان فى الوقت نفسه يعمل فى روزا.
ولا ينكر صلاح أن الأخبار كانت نقلة فى حياته، فقد نقل الأخوان أمين الصحيفة من المقال إلى الخبر والخدمات الصحفية، وصارت الصحافة على أيديهما هى صحافة الخبر، ورغم أن صلاح كان يختلف فكريًا وسياسيًا مع مصطفى أمين، فإنه كان معجبًا بأسلوبه للدرجة التى كان يستخدمه فى كتاباته فى روزاليوسف.
فى عام ١٩٥٣ ترك صلاح الأخبار ودخل المعتقل، فقضى به ثمانى سنوات بعد فترة من العمل السرى والاختفاء.
بعد أن خرج من السجن لم يترك صلاح صحيفة فى مصر إلا وكتب فيها، حتى انتهى به المطاف مرة أخرى إلى «روزاليوسف»، التى ظل يعمل بها حتى أصبح رئيسًا لتحريرها مع فتحى غانم.
كان صلاح هو المحرك الأساسى للمجلة، يكتب وجهة نظرها السياسية ويوزع أفكارها على المحررين ويعيد صياغة معظم موضوعاتها ويضع عناوينها الداخلية وعناوين الغلاف، وظل كذلك حتى أحاط بالمجلة زلزال يناير ١٩٧٧.
أصرت «روزاليوسف» أن ما حدث انتفاضة شعبية وليست انتفاضة حرامية كما أراد السادات.
قال السادات وقتها لعبدالرحمن الشرقاوى رئيس مجلس إدارة المؤسسة: «الشيوعيين ضحكوا عليك يا عبدالرحمن.. صلاح حافظ ضحك عليك».
هذه القصة يجب أن تروى بتفاصيلها، ليس لأن صلاح كان بطلها، ولكن لأن «روزاليوسف» قدمت بها درسًا مهمًا من دروس الصحافة للأجيال المتعاقبة.
بعد حركة ١٥ مايو ١٩٧١ تولى عبدالرحمن الشرقاوى والذى كان مقربًا من الرئيس السادات رئاسة مجلس إدارة «روزاليوسف»، ووقتها كان رئيس التحرير هو أحمد حمروش ونائب رئيس التحرير هو صلاح حافظ.
لم يصبر الشرقاوى طويلًا على صلاح، أقصاه من منصبه، وجاء بزميلين له هما يوسف صبرى وفهمى حسين لإدارة التحرير، وبدأت فى روزا موجة من التصنيف على أساس سياسى، وكان طبيعيًا فى هذا المناخ ألا تزدهر الصحافة، بل كان من الطبيعى أن يتأثر توزيع المجلة ويأخذ فى الهبوط، فقد أصبح الصحفيون والعاملون فى روزا فرقًا متناحرة.
لم يكن صلاح حافظ يعتبر روزا مكانًا يعمل فيه، كانت بالنسبة له بيتًا يعيش فيه ولا يستطيع أن يتنفس وهو يشعر أن المكان مخنوق.
كانت هناك رغبة فى أن تعود روزا إلى تألقها، وأن يعود توزيعها إلى الأرقام التى تستحقها، ضغط صلاح فى هذا الاتجاه من خلال تكوين جبهة رافضة لما يجرى على الأرض فى روزا.
على التليفون تحدث عبدالرحمن الشرقاوى مع صلاح، قال له: أنا هاجيب فتحى غانم يمسك روزاليوسف.
ودون أن يلتقط صلاح أنفاسه، قال له: وأنا ممكن أساعده وأشتغل معاه.
بعد أسبوعين وجد صلاح نفسه يجلس مع فتحى غانم فى مكتب عبدالرحمن الشرقاوى الذى قال له: إيه رأيك تشتغل مع فتحى غانم على طول وتبقى رئيس تحرير معه؟
رد صلاح بطيبة يختلط بها بعض الخبث: وهل استأذنت فى هذا القرار؟
فقال الشرقاوى بعصبية: إنت مالك يا أخى.. أستأذن أو ما أستأذنش.. أنا عينتك وخلاص.. يعنى هيرفدوك؟
جاء صلاح حافظ إلى جوار فتحى غانم إلى رئاسة تحرير روزاليوسف على قدر، ففى هذه الفترة كان الرئيس السادات قد بدأ رحلة تمايزه عن الرئيس عبدالناصر.
أنشأ السادات المنابر التى خرجت منها الأحزاب، كان يريد تعزيز مكاسبه من حرب أكتوبر بتحويلها إلى رصيد سياسى وشعبى، فدخل مرحلة جديدة فتح فيها الأبواب أمام حرية الصحافة، ولم يكن هذا فى الغالب لوجه الصحافة ورسالتها، ولكنه كان يميل فى اتجاهه السياسى إلى كسب أمريكا، وعليه فكان لا بد من تغليب أن يكون النظام ديمقراطيًا ليبراليًا حتى لو كان ذلك على المستوى الشكلى فقط.
وهنا لا بد أن ننسب الفضل لأهله، فقد وضع صلاح حافظ قاعدة ذهبية تمكّن الصحافة من العمل دون المساس بوجودها، ففى الصيغة التى وضعها السادات، قرر صلاح أن تهاجم روزا الحكومة وتنتقد المسئولين بضراوة، لكنها تتعامل مع شخصية الرئيس كخط أحمر لا يمكن تجاوزه.
يلخص صلاح فكرته الذهبية بقوله: كنا حكماء وتجنبنا الصدام المباشر مع السادات أو الهجوم عليه شخصيًا، ولكن قلنا وكتبنا ونشرنا ما يعجبنا ضد جميع المسئولين الآخرين الذين اتخذوا القرار، مثلًا هاجمنا رئيس الحكومة ممدوح سالم، هاجمنا رئيس الاتحاد الاشتراكى وقتها الدكتور رفعت المحجوب، هاجمنا رئيس جامعة القاهرة وقتها الدكتور صوفى أبوطالب.
ويضيف صلاح: كل هؤلاء هاجمناهم، أما السادات فقد وضعناه على جنب تمامًا، ولم نقترب منه، وكان هذا فى رأيى صيغة جيدة فى أن نستغل المساحة الديمقراطية الموجودة، لأنه من غير المعقول أو المنطقى أنك أول ما تبتدى الديمقراطية تروح ماسك سيف وتضرب صاحب التجربة، لأنه ساعتها هيرجع فى كلامه عن الديمقراطية، ونحن فى روزاليوسف التزمنا بمبدأ بسيط للغاية، وهو أنك تستطيع توسيع مساحة حريتك بأن تمارسها دون أن تصطدم بالسادات نفسه، وبدون أن تستفزه وإلى أن نتمكن من أخذ قاعدة ضخمة من الناس، عندها يمكن أن تنقده وسيكون وقتها معك حماية الجماهير.
كان الاختبار الحقيقى لهذه القاعدة فى معالجة روزاليوسف لمظاهرات ١٨ و١٩ يناير ١٩٧٧
يقول صلاح حافظ عن هذه المعالجة: عملنا اجتماع فى روزاليوسف حضره عبدالرحمن الشرقاوى وفتحى غانم وحسن فؤاد ولويس جريس وجمال كامل وأنا، وقررنا أن يكون موقف روزاليوسف هو إعلان الحقيقة كاملة، وكلفونى بكتابة التحقيق الصحفى حول هذا الموضوع، وبعد أن قام الزملاء بتجميع مادة الموضوع، كان مانشيت الغلاف: «أسبوع الحرائق»، وكان عنوان التحقيق: «الحكومة أشعلت الحريق.. والسادات أطفأه».
كان من بين ما جاء فى التحقيق: أن من حسن الحظ أن الداخلية ليست هى التى تحكم مصر، فلو أن رجالها كانوا المنفردين بالسلطة وتقاريرهم هى مصدر المعلومات الوحيد لكانت القاهرة الآن وتسع عواصم إقليمية أخرى أكوامًا من الرماد، إنما أنقذ الموقف تدخل العقل السياسى فى الوقت الحاسم وقرار الرئيس السادات بإعادة الأسعار إلى ما كانت عليه.
حاول صلاح حافظ أن يُفعّل الآلية التى وضعها يقول: كانت الفكرة أن نجنب السادات ما حدث، ولكن هذه المرة لم تفلح الفكرة، وأحس السادات أننا تخلينا عنه وأن الشرقاوى طعنه فى الظهر، لأن السادات شعر يومها أنها كانت لحظة طرده من السلطة.
خرج صلاح حافظ وفتحى غانم من رئاسة تحرير روزاليوسف، وعندما حاول عبدالرحمن الشرقاوى الدفاع عن وجهة نظرهما، وجد نفسه هو الآخر مطرودًا من منصبه كرئيس لمجلس الإدارة.
خرج صلاح حافظ من رئاسة التحرير ليصبح كاتبًا متفرغًا ليس فيها فقط، ولكن فى العديد من الصحف التى كان يعمل فيها مهما اختلفت مع أفكاره.
مرتان فقط رفض صلاح العمل فى صحف.
رفض رئاسة تحرير الأهالى رغم أنه هو الذى اختار اسمها وشارك «أبوالعينين» فى وضع تبويبها، وكان سبب الرفض أن صلاح وقتها كان مشغولًا جدًا من ناحية فى أعماله الأدبية والفنية، ومن ناحية أخرى أن ظروف نشأة حزب التجمع والخلافات التى حدثت أثناء تشكيل قيادته كانت من الأسباب التى جعلته لا يقبل هذه المسئولية.
فقد دخلت فى تشكيلات الحزب خلافات بين تيارات وطنية كثيرة جعلت المسألة بالنسبة له فيها غموض كبير، وكان صلاح لا يحب الغموض ولا يرتاح لألعاب الكواليس، فقد بنى تصوره على أن المطلوب هو إنشاء صحيفة ناجحة تخدم هدفًا متفقًا عليه دون أن تغرق فى الدهاليز والكواليس.
رفض صلاح كذلك أن يرأس تحرير الوفد، طرح مصطفى أمين اسمه على قيادة الوفد لرئاسة التحرير، لكن صلاح قال له: إن الحزب بالنسبة لى مجهول الهوية ولم يقل شيئًا بعد، وعندما أقبل رئاسة تحرير جريدة حزبية فهذا معناه أننى أعبر عن سياسة هذا الحزب، فكيف يمكن ذلك وأنا لا أعرف سياسة هذا الحزب.. كيف أقبل أو أرفض هذا المنصب؟
عاش صلاح حافظ حياته التى امتدت حتى عام ١٩٩٢ بطريقته الخاصة.
دخل عشرات الصحف وهو صلاح حافظ وخرج منها وهو صلاح حافظ.. لم يتغير.
وأعتقد أن من أسباب ذلك أنه كان فيومى التكوين، ابن من أبناء محافظة هادئة للغاية، ليس لها ما يميزها سوى طيبة أبنائها فهم ليسوا متعجلين، يفعلون كل شىء بمزاج خاص، لم يكن صلاح حافظ مهتمًا بأن يجمع المال، كان يستمتع بحياته بالشكل الذى يريده، ينعم بكسله الإبداعى، ولا ينتظر من الأجيال الجديدة التى ستأتى بعده أن تشهد له أو عليه، فقد قال كلمته وانتهى الأمر، وأدى كل ما عليه دون أن ينتظر كلمة شكر من أحد، وهذا هو بالضبط صلاح حافظ.
عندما أستعرض تاريخ صلاح حافظ... وأعيد قراءة ما كتبه من موضوعات صحفية وكتب.. أعرف على وجه التحديد لماذا حلمت ولا أزال لو أن الأقدار أسعدتنى بالعمل معه عن قُرب.