الجمعة 18 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

الغائبون عن المعركة.. نخبة الأفعال فى مواجهة نخبة الأقوال

افتتاحية العدد الحادي
افتتاحية العدد الحادي والأربعين

- فيلم «السرب» يكفى وحده لأن يبعث فى قلوب الناس بدفقة وطنية هائلة

- الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية دخلت على الخط لاستعادة الدور المفقود للنخبة المصرية

مبكرًا جدًا أدركت أن حرب مصر على الإرهاب لن تنجح إلا إذا تكونت لدى الناس قناعة بأن الإرهاب خطر وجودى، وليس مجرد مواجهة بين الدولة الشرعية والجماعات المارقة. 

ومبكرًا جدًا أدركت أن معركة البناء والتعمير وتحديث مصر بعد أن شاخت وخارت قواها لن تحقق أهدافها، إلا إذا كان هناك وعى مجتمعى بأننا فى حاجة إلى أكبر عملية لإعادة بناء ما تهدم وبناء جديد يستوعب ما استجد فى حياتنا من أفكار.. ومواليد أيضًا. 

ومبكرًا جدًا أيضًا أدرك من يتربصون بمصر، وهؤلاء نعرفهم جميعًا ولسنا فى حاجة إلى إعادة التعريف بهم، أن ضرب وعى الناس بما يحتاجونه ويجب أن يرتبوا أولوياتهم عليه هو الطريق الوحيد لضرب هذا البلد فى مقتل. 

أما عن الإرهاب فقد تصدى له ولجماعاته ومموليه وحاضنيه قلب الدولة الصلب، وقام رجال الجيش والشرطة يساندهم الشعب بدور تاريخى، قدموا خلاله زهرة شبابنا شهداء ليخلص وجه مصر لأبنائها وحدهم. 

وقد قامت مؤسسات الدولة، وعلى رأسها الجيش، فى إعادة البناء، والخروج من زحام الوادى الضيق، فشهدنا مدنًا جديدة، ورأينا الأرض الصحراء تتحول إلى حياة خضراء، ووجدنا بنيتنا التحتية التى كانت تشكو أوضاعها المتردية كل صباح تسترد حياتها وبريقها ورونقها. 

لكن ظلت معركة الوعى بالنسبة لى هى المعركة المنقوصة.

أقول ذلك لأن جنودها من المثقفين والمفكرين والكتاب والصحفيين والفنانين، غابوا فى معظمهم عن صفوفها، وجلسوا فى مقاعد المتفرجين، ينتظرون ما سيسفر عنه الصراع القائم على الأرض. 

لست من هواة جلد الذات.

ولست ممن يتباكون على ما تفلت من بين أيدينا. 

لكننى فقط أرصد ما يجرى على الأرض، وأعيد طرحه، ولا أمل من تكراره. 

من سنوات، تحديدًا تلك السنوات التى أعقبت أحداث ٢٠١١، والسؤال المطروح على موائد النقاش فى دوائر سياسية عديدة هو: أين ذهبت النخبة المصرية؟ لماذا لا تقوم بدورها؟ هل تبخرت أم جبنت؟ 

بعد هزيمة العام ١٩٦٧ قامت النخبة الثقافية والفنية فى مصر بالدور الأكبر فى إيقاظ وعى الناس بضرورة خوض المعركة، وخلال السنوات الست التى عاشتها مصر تحت ظلال الهزيمة لم تستسلم هذه النخبة. 

كان التحرك على مستويين. 

المستوى الأول هو العمل الجاد، فصدرت كتب ونشرت مقالات وأُذيعت أغنيات وأُقيمت حفلات، أهمها كانت حفلات المجهود الحربى التى بدأتها السيدة أم كلثوم، وقدم صناع السينما أفلامًا لها قيمتها، ويكفينا أغنية «على الممر»، فقد كانت هناك رغبة لدى الجميع بأن يكونوا شركاء كاملين فى المعركة. 

المستوى الثانى لعبته النخبة الفنية والثقافية لإخراج الناس من حالة الاكتئاب القومى التى وجدوا أنفسهم فيها، وقد يعيب كثيرون على بعض الأفلام والأغانى أنها كانت هزلية، ولم تقدم مضمونًا محترمًا، معتقدين أن من قدموا تلك الأعمال خرجوا عن الصف وضلوا الطريق. 

فى الحقيقة كان هؤلاء على وعى كبير بما تريده المعركة، فقد أدركوا أن الناس فى حاجة لمن يخفف عنهم، ويخرجهم من الحالة التى هم فيها. 

بعد عرض فيلم «أبى فوق الشجرة» فى دور السينما فى العام ١٩٦٩ وجد سامى شرف الرئيس عبدالناصر يقول له: روح شوف الفيلم ده يا سامى، بيقولوا فيه أكتر من خمسين بوسة، روح اتفرج وتعالى احك لى وأهو نخفف عن نفسنا شوية. 

ولما تعجب سامى من طلب الرئيس عبدالناصر، وجده يقول له: الناس مهمومة يا سامى ولازم يجدوا شيئًا يخففون به عن همومهم. 

هناك من يؤكد أن هذه لم تكن إلا نكتة، أطلقها البعض على عبدالناصر، وأن الواقعة لم تحدث من الأساس، فليس معقولًا أن يكون هذا تفكير قائد يقود حرب الاستنزاف، لكن عندما نتأمل منطق الواقعة أعتقد أنها يمكن أن تكون حدثت، لأنها تصب فى عمق إخراج الناس مما هم فيه. 

ما نثق فى أنه حدث، أن الرئيس عبدالناصر بعد الهزيمة وجه فرق مسرح الدولة والفرق الخاصة أن تذهب إلى المحافظات المختلفة وتقدم عروضها، حتى لا نترك الناس يعانون من الآثار النفسية للنكسة، وأن الفنان الكبير يوسف وهبى شارك فى هذه العروض بفرقته. 

وفى إحدى الليالى ويوسف وهبى يعرض واحدة من مسرحياته، وكانت مسرحية غارقة فى الميلودراما، وجد أحد المتفرجين يقف فى وسط ساحة العرض، ويصرخ موجهًا كلامه إلى الفنان الكبير: «يا يوسف بيه.. والنبى عايزين حاجة لشكوكو.. إحنا فينا اللى مكفينا». 

بعد ما جرى فى العامين ٢٠١١ – ٢٠١٣ كنا فى أمس الحاجة إلى هذه الحالة، حالة تقودها النخبة الفنية والثقافية، تقدم محتوى جادًا يقود الناس إلى قلب المعركة الحقيقية، ومحتوى خفيفًا ولطيفًا وظريفًا ومحترمًا يخرج الناس من حالة الهموم التى تحيط بهم. 

تأخرنا بعض الشىء، وظلت أحوالنا الدرامية على حالها، لم يتغير فيها شىء. 

وأذكر أن مسئولًا كبيرًا كان قد شاهد بعض الحلقات من مسلسل الفنانة الكبيرة يسرا «فوق مستوى الشبهات» وهو المسلسل الذى عُرض فى العام ٢٠١٦، وتدور أحداثه حول أستاذة جامعية متخصصة فى التنمية البشرية تظهر أمام الجميع طوال الوقت بمظهر السيدة الناجحة فى كل مجالات حياتها وعملها، لكنها فى المقابل تخفى وجهًا أكثر قبحًا ووحشية وشرًا. 

كانت أحداث المسلسل تدور فى مستوى طبقات القمة، يسكنون فى كمبوند سكنى، وكان تعليق المسئول الكبير: لقد تركنا الدراما تشوه الحارة المصرية، فأصبحت معادلًا موضوعيًا لكل معانى الجريمة والدعارة والتشوه الأخلاقى والإنسانى، وأصبحت صورتها لدى الجميع تعنى الانحراف بكل صوره، فهل جاء الدور لتهدم الدراما الطبقات العليا ولا ترى فيها إلا المجرمين والمنحرفين والأشرار. 

كان هذا التعليق وحده كافيًا لأن ينتبه صناع الدراما، وبعدها بدأت الدراما تدخل معركة الوعى، فتم إنتاج ثلاثية «الاختيار»، ورأينا مسلسل «هجمة مرتدة» ومسلسل «العائدون» وفيلم «الممر» وأخيرًا فيلم «السرب». 

لقد شاهدت فيلم «السرب» على منصة «واتش إت» فوجدت أمامى وجبة فنية راقية ورائعة، الفيلم يكفى وحده لأن يبعث فى قلوب الناس بدفقة وطنية هائلة، وأطالب بأن يُعرض فى المدارس، فلا بد أن يرى أبناؤنا هذه البطولات التى يقوم بها رجال لا يسعون خلف الشهرة، ولا يريدون اعترافًا من أحد بحجم تضحياتهم التى يقدمونها من أجل أن يظل هذا الوطن قائمًا على قدميه يصلب ظهره دون أن يقوى على كسره أحد. 

لا أنكر أن هناك من بين صفوف نخبتنا الثقافية من قام بدوره، لكن ماذا عن الذين غابوا، والذين تغيّبوا؟ ولن ألتفت كثيرًا إلى من يدعون أنهم غُيّبوا، لأن هؤلاء بدا من أول خط المعركة أنهم لم يفهموا ما جرى على الأرض من تغيرات وتحولات، تقتضى أن يقوموا هم أيضًا بتطوير أنفسهم وتحديث خطابهم، والمشاركة فى المعركة بما يتطلب الأمر، وليس بما يعتقدون هم أنه صواب. 

يسرا

حاول فقط أن تتصفح صفحات وحسابات عدد كبير من نخبتنا الثقافية والفكرية على منصات التواصل الاجتماعى، اقرأ ما يكتبونه، راجع ما يتحاورون فيه، ارصد نقاشاتهم ومعاركهم وأخذهم وردهم، ستجدهم أبعد ما يكونون عن خط الشارع وما يحدث فيه، ولذلك عندما تجد بعض فئات الشعب تائهة، فلا تتعجب من ذلك، فهذا من صنع أيدينا. 

لقد غاب الغناء الجاد، فاقتحمت آذاننا أغانى المهرجانات، ومطربو المهرجانات الذين لا يمكن أن يكونوا بأى حال من الأحوال صورة حقيقية لمصر، فهم نغمات نشاز، أعرف أنها حتمًا ستزول، لكنها فى النهاية شغلتنا عما هو أهم، وهو أن تكون الأغنية فى خدمة قضايانا الحقيقية. 

وتكاسل الأدباء والمبدعون الحقيقيون، خرجت علينا كتابات هازلة وهزيلة، وبدأ يتصدر الساحة من يجيدون لعبة العلاقات العامة، وأصبح روائيو السوشيال ميديا يتصدرون المشهد ويسعى الجمهور للحصول على توقيعهم فى حفلات يحضرها الآلاف، بينما يعانى الكتّاب الحقيقيون من بوار رواياتهم، وحتى لو صمد بعض الكتابات الجادة، فإنها لا تحظى بنسبة تذكر من الاهتمام بالكتابات التافهة. 

لقد خلت الساحة تمامًا من المحلل السياسى صاحب الرؤية الشاملة.

ومن الفيلسوف صاحب الفكرة الواضحة.

ومن المفكر الذى يمتلك مشروعًا متكاملًا يستطيع من خلاله أن يرشد المجتمع إلى ما هو صواب.

ومن الناقد الجاد الدءوب الذى يقوم بالفرز لينقذ الذائقة العامة من الكتابات المشوهة التى تفسده.

ومن النجم السينمائى الواعى الذى لا يقدم نفسه لمن يدفع أكثر بصرف النظر عما يقدمه.

ومن الشاعر الذى يستطيع أن يمنحنا عملًا نتغنى به وتتغنى به الأجيال التى ستأتى.

ومن الموسيقى الذى يمنح ما يحدث على الأرض من إنجاز خلودًا يستحقه. 

يوسف وهبي

هناك محاولات لا بأس بها طوال الوقت، لكن ما نأسف له أن المعركة التى خاضها المصريون فى ٣٠ يونيو لم تجد حتى الآن من يمنحها ما تستحق، فما حققناه دخل كتاب المعجزات الكبير، لكن أحدًا لم يدرك بعد أبعاد هذه المعجزة الكبيرة. 

كنت أتابع لحظات تكريم الرئيس عبدالفتاح السيسى عددًا ممن حاربوا فى حرب ١٩٧٣، شيوخ أقلهم سنًا فى الثمانين من عمره، معظمهم يتم تكريمه للمرة الأولى، وهذا فضل من أفضال إدارة الرئيس عبدالفتاح السيسى، فهو يسعى لتكريم كل من قدم شيئًا لهذا الوطن، فبعد ٥١ عامًا يصعد إلى المسرح ويقف بينهم ليسجل هذه اللحظة، وليقول إن مصر لا تنسى أبدًا من وقفوا إلى جوارها. 

سرحت بعيدًا عن هذه الصورة للحظات، وقارنت بين هؤلاء الذين شاركوا فى الحرب وهم على يقين أنهم يمكن أن يقدموا حياتهم من أجل وطنهم، وهؤلاء الذين يدمنون الكلام فى كل عصر ولا يقدمون شيئًا غيره، وليته كلامًا فى المسار الصحيح، لكنه فى الغالب يسير فى الاتجاه المعاكس. 

لقد خرجت بفكرة محددة هى أننا فى مصر لدينا طوال الوقت نخبة أفعال وهى النخبة الحقيقية الجديرة بالاحترام والتقدير والتكريم، نخبة لا تتحدث كثيرًا، بل تعمل وتشارك وتنجز ولا تسعى لأن يعرف أحد شيئًا عما تفعله، فهى لا تسعى أبدًا إلى الشو. 

ولدينا كذلك نخبة أقول لا تقدم لنا شيئًا إلا الثرثرة، وهذه النخبة فى الغالب تفسد ما تقوم به نخبة الأفعال، ولا تتردد أبدًا عن الانتقاص من قدرها والإساءة إليها، وهو الجريمة الكاملة التى ترتكبها هذه النخبة. 

فى الندوة التثقيفية الـ٤٠ التى أقامتها إدارة الشئون المعنوية بالتعاون مع وزارة الشباب والرياضة ووزارة الثقافة شاهدنا عرضًا مسرحيًا دارت فكرته حول حرب أكتوبر، وكيف يعرف شبابنا وطلاب مدارسنا أنها كانت انتصارًا كاملًا، بعد أن تم التشكيك فيها لسنوات، وأصبحت الأجيال الجديدة تأخذ معلوماتها عنها من السوشيال ميديا. 

فى هذا العرض المسرحى قدم الفنان المبدع محمد جمعة شخصية يمكننا اعتبارها المعادل الموضوعى لنخبة الأقوال، ذلك الذى يجلس بين الناس ويصدر نفسه على أنه قائد رأى ومصدر معلومات وفاهم ومدرك كل شىء، لا يكف عن ترويج الأخبار الكاذبة، ولا يكف كذلك عن تصدير روح الإحباط للجميع، بل يسخر ممن يريدون أن يعملوا ويعبروا، يصرخ بأننا لن نحارب لأننا لسنا قادرين على الحرب، هذا فى الوقت الذى كانت الحرب فيه على الأرض تحقق للشعب المصرى ما أراده. 

إننى لا أتهم أحدًا بعينه، ولا أرى الصورة سوداء. 

فلدينا منذ سنوات كيان إعلامى كبير هو «الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية» دخلت على الخط، لاستعادة الدور المفقود للنخبة المصرية، تحاول أن تجمع إليها كل مَن يفكر ويبدع ويكتب ويفكر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهى الخطوة الصحيحة على طريق صعب. 

ولكن ولأن المعركة طويلة وصعبة ومعقدة، فإننا فى حاجة إلى الجميع، فى حاجة إلى أن تدرك النخبة المصرية أن الكلام وحده ليس كافيًا، وحتى لو كانوا لا يقدرون على الكلام المفيد، فالأولى بمن هذا حاله أن يلتزم الصمت قليلًا، لأن الكلام الذى بلا معنى فى وطن يحارب على جبهات عديدة غفلة كبيرة.. وقانا الله وإياكم شر الغفلة وعواقبها.