لماذا اختفى تقرير «ماذا يقرأ المصريون؟».. كل هذه القراءة.. كل هذه الغفلة
- لا توجد جهة فى مصر تدرس وتبحث وتدقق وتحلل وتفسر وبعد ذلك تقول لنا ما الذى يحتاجه القراء فى مصر
- أطالب مركز المعلومات بمجلس الوزراء برئاسة الدكتور أسامة الجوهرى أن يعيد مرة ثانية تقرير «ماذا يقرأ المصريون»؟
عندما تولى الدكتور ماجد عثمان رئاسة مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار فى حدود العام ٢٠٠٥، استعان بالدكتور سعيد المصرى، أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب جامعة القاهرة، وكانت ثمرة هذا التعاون تقريرًا مهمًا كان يصدر شهريًا بعنوان: «ماذا يقرأ المصريون»؟
لم يكن هدف التقرير الذى كان يحظى باهتمام كبير على مستوى إعداده ومتابعته مجرد رصد رقمى للكتب التى يقبل عليها المصريون، بل كان محاولة لرصد اتجاهات جمهور القراء ونوعيات الكتب التى تحظى بأكبر قدر من الإقبال والمتابعة والاقتناء.
مركز المعلومات يدل الشق الثانى من اسمه «دعم اتخاذ القرار» على الدور المهم الذى يقوم به بالنسبة لصانع القرار المصرى، فهو يضع أمامه كل المعلومات والبيانات وتحليلها وتفسيرها، فتجعله قادرًا على اتخاذ القرار السليم فى الوقت الصحيح، ولذلك فالمركز يعتبر مؤسسة يرتبط عملها بالأمن القومى.
ظل هذا التقرير يصدر لسنوات قليلة بعد أحداث يناير، وآخر تقرير توفر بالنسبة لى هو التقرير الصادر فى ٢٠١٣، وجدت فيه أن عدد الأسر المصرية التى يقوم أحد أفرادها بممارسة القراءة على الأقل تقدر بنحو ٢.٢ مليون أسرة.
وأوضحت الدراسة أن ٦٥ بالمائة من الشباب يهتمون بقراءة الكتب الدينية، تليها الكتب العلمية بنسبة ٣٦ بالمائة، والكتب التاريخية بنسبة ٣٤ بالمائة.
بحثت عن هذا التقرير بعد هذا التاريخ فلم أعثر له على أثر، وعرفت من مصادر داخل مجلس الوزراء أن التقرير توقف منذ سنوات، ولم يعد يصدر، وكان تعليل ذلك أن العمل فى المركز على أهميته يرتبط بشخصية رئيسه، ما يعنى أن رئيس المجلس هو الذى يحدد أولوياته ونوعيات التقارير التى تصدر عنه.
وقد يكون هذا مفهومًا فى إطار عمل خاص يحدد صاحبه أولوياته، لكن عندما يكون العمل قوميًا يرتبط بأولويات دولة واحتياجاتها، فمن المفروض أن تكون هناك سياسة واحدة يسير عليها المسئولون عن المركز مهما اختلفت أسماؤهم وأولوياتهم واتجاهاتهم.
وهو ما يجعلنى أطالب بأن يعود مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، ويرأسه حاليًا الدكتور أسامة الجوهرى، إلى إصدار هذا التقرير مرة أخرى.
طبقًا لصفحة المركز الرسمية فإن الدكتور أسامة الجوهرى الذى حصل على الماجستير فى التسويق الرقمى من الولايات المتحدة، وحصل على الدكتوراه فى العام ٢٠١٤ هو أصغر من تولوا مسئولية المركز سنًا، فقد تولى رئاسته فى العام ٢٠١٩ وكان عمره وقتها ٣٨ عامًا.
لدى الدكتور الجوهرى خبرات متعددة، فخلال مسيرته المهنية شغل عدة مناصب، من بينها منصب مساعد رئيس مجلس الوزراء، ومحلل أول ورئيس فريق عمل بالمكتب الفنى لرئيس مجلس الوزراء منذ أبريل ٢٠١٦ وحتى ٢٠١٩، كما عمل بوزارة البترول والثروة المعدنية، وشارك فى إعداد العديد من الأعمال البحثية حول صناعة البترول والغاز، كما شارك ضمن فريق عمل مع بيوت خبرة دولية لإعداد دراسات حول مستقبل صناعة البترول فى مصر، إلى جانب ذلك عمل محاضرًا فى مجال التسويق الإلكترونى وسلوك المستهلك.
اهتمام وخبرات الدكتور أسامة الجوهرى بالطبع قد تدفعه إلى ترتيب أولويات المركز بشكل عام، وهى أولويات قد لا يكون من بينها تقرير مثل «ماذا يقرأ المصريون؟»، لكن عمله البحثى قد يدفعه لإعادة التفكير مرة أخرى فى إعادة الروح إلى هذا التقرير، ويمكنه أن يستعين فى ذلك بمن يقدرون على ذلك من داخل المركز أو حتى من خارجه.
هذا التقرير لا يمكن اعتباره من باب الرفاهية الفكرية، بل هو إحدى ضرورات صناعة القرار فى مصر، ولا أقصد القرار السياسى فقط على أهمية ذلك، ولكن القرار الاقتصادى والقرار الاجتماعى كذلك.
قد يعتقد البعض أننا لسنا فى حاجة إلى هذا التقرير الآن، وذلك بسبب التطور التكنولوجى الهائل الذى شهده العالم، وشهدته مصر بالطبع خلال السنوات العشر الأخيرة، فبفضل الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعى يمكننا ببساطة أن نعرف ماذا يقرأ المصريون؟ وعلى أى نوعية من الكتب يقبلون.
وهنا ستكون الإشارة مثلًا لصفحات مجموعات القراءة التى يعمل بعضها باحترافية شديدة، وبعضها الآخر يعمل بعشوائية شديدة أيضًا، فمنها الكثير الذى يعمل طبقًا لتوجهات ومصالح دور النشر التى تهدف فى الأساس إلى بيع منتجها من الكتب، بصرف النظر عن المحتوى الذى تقدمه.
يمكن الإشارة كذلك إلى صفحات دور النشر الكبرى التى تستخدمها للترويج والإعلان وبيع كتبها، فمن خلال التعليقات على هذه الصفحات يمكننا أن نعرف ما الذى يقبل عليه المصريون، وما يقررون شراءه من كتب.
ويمكن الإشارة كذلك إلى فئة من صناع المحتوى على اليوتيوب والفيسبوك يقدمون عروضًا للكتب، وهى عروض تخضع لأذواقهم وذائقتهم، وكذلك لمصالح دور النشر التى بدأت تتعاقد معهم للترويج لكتب بعينها، وفى هذه المساحة يمكن أن نرصد حروبًا خفية بين الناشرين، ومحاولات للضرب تحت الحزام بينهم، فمن بين عارضى الكتب من يتم استخدامهم لرفع كتب إلى السماء والخسف بكتب أخرى، وهنا تدخل عوامل المنافسة الشرسة التى تفتقد أحيانًا إلى أى نوع من الأخلاقيات.
لا يمكن أن نغفل كذلك ما يمكن الاتفاق على تسميته بألتراس الكتّاب، فكثير من الكتّاب تدعمهم دور النشر فى ذلك يلجأون إلى اللجان الإلكترونية التى تلعب دورًا هائلًا فى التسويق لكتاب بعينه، ورفع مؤلفه إلى درجة أهم وأعظم الكتّاب، رغم أن كتابه لا جديد فيه ولا إضافة.
بعض الكتّاب يجيدون لعبة السوشيال ميديا، ويتحول الكاتب من هؤلاء إلى لجنة دائمة، يتواصل مع القراء ويعيش معهم معظم الوقت، ويروج لنفسه أحيانًا بطريقة مبتذلة لا تليق بكاتب أو كاتبة، فعلى صفحات هؤلا الكتّاب يمكننا أن نرصد أكبر حالة من النفاق الأدبى والثقافى التى لا تعكس القيمة الحقيقية لكتابات هؤلاء الكتّاب.
هذه بعض أشكال الترويج للكتب فى مصر الآن، وهى أشكال يمكن أن توحى لنا بأن القراءة فى مصر تعيش أزهى عصور ازدهارها، لكن فى الحقيقة أن هذه كلها ظواهر كاذبة مثل الحمل الكاذب تمامًا.
فالمجتمع الذى يقرأ لا بد أن يكون بالضرورة مجتمعًا واعيًا مدركًا لأزماته ومشكلاته والتحديات التى تواجهه، من خلال القراءة يستطيع أن يفهم ما يدور حوله، وما يراد منه، وما يراد به، وتمكنه من أن يقف فى المكان الصحيح، ويأخذ القرار الصحيح.
لكن الواقع يقول إننا مجتمع يعيش فى غفلة كاملة.
مشغولون نحن عن قضايانا الكبرى بتوافه الأمور وسواقطها، ويمكنك للتأكد من ذلك أن تراجع الموضوعات التى تحظى بصفة الأعلى قراءة على المواقع الصحفية الإلكترونية، وكذلك نوعية الموضوعات التى تشكل ما يسمى بالترند، وأيضًا نوعية الكتب التى تحظى باهتمام القراء وتضعها المكتبات الكبرى على أرفف الأعلى مبيعًا.
لدينا فى مصر ما يمكننا تسميته بموضات القراءة، وهى موضات ترتبط ارتباطًا قويًا ووثيقًا بالوضع السائد فى المجال العام، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا ونفسيًا أيضًا.
قبل أحداث يناير بسنوات كانت الموضة هى الكتب الساخرة التى انتشرت كالنار فى الهشيم، وظهر كتّاب كانت كتبهم تتجاوز طبعاتها الخمسين طبعة، فقد كانت السخرية هى السلاح الوحيد الذى ظل فى يد المصريين فى مواجهة أوضاع غير منطقية، وأذكر للكاتب إيهاب طاهر كتابه «أنا رئيس جمهورية نفسى» الذى ظل لشهور هو الأكثر مبيعًا فى مصر، وعندما ظهر كتابه «حمرا» تعبيرًا وإشارة واضحة للرد على كثير مما كان يجرى فى المجتمع تغلب على كتابه «أنا رئيس جمهورية نفسى» فى الانتشار والتوزيع، وإلى جوار إيهاب طاهر ظهرت كتابات لعمر طاهر وأسامة غريب صاحب كتاب «مصر ليست أمى.. دى مرات أبويا».
بعد أحداث يناير تراجعت موجة الكتب الساخرة، وبدأت موجة جديدة من قراءة كتب الرعب، وهنا ظهرت مئات الروايات التى اهتمت بأجواء الرعب والغموض، بل ظهرت دار نشر تخصصت فقط فى روايات الرعب ولم تكن تنشر غيرها، وكان هذا طبيعيًا إلى درجة كبيرة، فحالة الغموض التى كان يعيشها المجتمع دون أن يعرف لنفسه فيها رأسًا من قدم اقتضت أن يغرق فى كتابات هائمة وغامضة أبطالها من الجن والشياطين والأبطال الأسطوريين الغامضين.
بعد هذه الموضة وعندما وجد القراء أن ما يتيحه الواقع لا يتناسب مع ما طمحوا فيه وتطلعوا إليه، فكان أن تم إفساح الطريق للروايات والكتابات التاريخية، فعندما يضن الواقع بما يريد أصحابه يلقون بأنفسهم بين أحضان الماضى.
هذه الموضات المتعاقبة أورثت العقل المصرى حالة من الكسل الدائم والمقيم، وأكبر مظهر لهذا الكسل الذى رصدته دور النشر أنها عزفت عن إنتاج الكتب السياسية والفكرية واهتمت فى الجانب الأكبر بالروايات فقط، وهو ما دفع كتّابًا وشعراء إلى أن يولوا وجوههم شطر الرواية، لأنها الأكثر رواجًا، والأكثر إقبالًا عليها من الناشرين والقراء.
عندما أصدرت روايتى الأولى «الزينة.. سيرة وجع» كتب عنها الصديق العزيز الدكتور محمد عفيفى، ودخل إليها بمدخل نظرى مهم، قال إن لجوء بعض الكتّاب إلى الرواية الآن يتناسب مع عصر البوح الذى نعيشه، فكل منا لديه حاجة إلى البوح بشىء ما، وقد تكون الروايات هى الشكل المناسب لهذه الحالة دون غيرها من أشكال الكتابة.
لكن هناك من يفسر سيطرة الروايات على المزاج القرائى العام فى مصر بأنها الوسيلة الأكثر أمنًا، لأن نقول ما نريد دون أن نتعرض لضغوط المجتمع، فنحن نسرب آراءنا داخل صفحات الروايات وعلى لسان شخوصها دون أن نتحمل عناء المواجهة على هامش هذه الآراء.
اختلفت التفسيرات، لكن الواقع واحد
واقع يمكننا أن نصفه بأنه عشوائى، سوق الكتابة كما سوق القراءة لا ضوابط له، لا توجد جهة فى مصر تدرس وتبحث وتدقق وتحلل وتفسر، وبعد ذلك تقول لنا ما الذى يحتاجه القراء فى مصر، وبناء عليه تكون هناك خطة عمل واضحة للإنتاج الفكرى والثقافى.
يمكنك أن تمسك هنا بمحاولة وصاية تعتقد أننى أريد أن أفرضها على المجتمع، فأحدد له ما يجب أن يقرأه.
ولو فهمت ذلك مما أقوله، فسأقول لك إننى أبعد ما أكون عن ذلك، ولكننى أتحدث عن فكرة أعتقد أنها جديرة بالمناقشة.
لا بد أن نعترف بأن مجتمعنا يعانى الآن من أكبر حالات الغفلة التى مرت عليه فى تاريخه لأسباب كثيرة، من بينها تراجع التعليم وتدهوره، وغياب دور القادة الثقافيين وتبدد جهودهم فيما لا يفيد، أصبحنا لا نجيد اختيار ما نقرأه، بل نترك أنفسنا لأصحاب المصالح والأهواء يفرضون علينا أنماطًا محددة من القراءة، ينمو على هامشها كتّاب تتم المبالغة فى قيمتهم بلا داعٍ ولا مبرر.
فى مجتمع مثل مجتمعنا لا بد أن يكون السؤال هو: ما الذى يحتاج الناس إلى قراءته؟
لا أن يكون: ما الذى يريد الناس قراءته؟
والفارق بين السؤالين كبير جدًا ولا يجب أن نتجاهله.
وهو ما يدفعنا إلى مطالبة مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء ورئيسه الدكتور أسامة الجوهرى بما له من اهتمامات وحرص على الوعى المصرى أن يعيد مرة ثانية تقرير «ماذا يقرأ المصريون»؟ على أن يكون فى نسخته الجديدة متناسبًا مع كل ما استجد على سوق القراءة، أعتقد أن خطوة مثل هذه مهمة، وأعتقد أن لدينا من الخبراء والمتخصصين من يقدرون على ذلك.
المهم أن نبدأ.. فالقراءة مسألة أمن قومى، ولا يجب أن نترك التحكم فيها نهبًا لكل من هب ودب... فمن يهبون كثيرون ومن يدبون أيضًا.