نزيف الذاكرة الوطنية.. عن المهمة التى يجب ألا يتهرب منها أحد
- الذاكرة الوطنية تتعرض لأكبر هجوم من جهات وجبهات كثيرة
- يجب ألا نتركهم فى العراء يواجهون وحشًا مفترسًا يمكن أن يقضى عليهم
ما الذى يعرفه أولادنا عما جرى فى مصر منذ ٢٠١١ حتى الآن؟
تعالوا نتفق قبل محاولة الإجابة عن هذا السؤال أن نتعاهد على ألا نضع انحيازاتنا السياسية والفكرية أمامنا، بل دعونا نضعها خلفنا، ونتحدث بحياد تام، على الأقل، حتى نصل إلى نقطة اتفاق حول ما يجب أن نفعله.
وقد تسألنى: ما الذى يمكن أن نفعله.. ومن أجل أى شىء؟
سأقول لك: ما يجب علينا فعله الآن هو إيقاف نزيف الذاكرة الوطنية.. التصدى لمن يحاولون تشكيل وعينا على هواهم، وبما يخالف ما يصب فى أمننا واستقرارنا.. مواجهة محاولات طمس الحقائق وإعادة تصديرها لنا مشوهة حتى نفقد إيماننا بأننا على حق.
لا أتحدث بالطبع عن نسيان ما جرى ولا عدم معرفته من الأساس لدى قطاعات كثيرة من الشباب الذين يتشدقون بأنهم يعرفون كل شىء، لكنهم فى الحقيقة لا يعرفون كثيرًا مما جرى، رغم أنهم عاشوا فصولًا مهمة منه.
ولكن أتحدث عن نزيف الذاكرة الوطنية بتشويهها والتعمية عليها وخلط الأمور فيها، للدرجة التى نرصد من خلالها حالة من التيه العام عند شباب جاءوا بعد الأحداث العاصفة ولم يشهدوها أو يشهدوا عليها، وبدلًا من أن يكونوا داعمين لقضية وطنهم، يشكون فيها ويتشككون بها، ويطرحون أسئلة بديهية يدهشك أن تكون عالقة فى أذهانهم.
فى سنوات سابقة كان يحلو لبعض المراسلين فى القنوات التليفزيونية أن يعدوا تقارير من الشارع تقوم على توجيه أسئلة للشباب عن أحداث فى التاريخ المصرى.
منها مثلًا: حرب أكتوبر كانت سنة كام؟
وكان معظم من يصادفهم المراسلون لا يعرف السنة التى قمنا فيها بالحرب.
كانت هذه التقارير مؤسفة ومحزنة ومخزية ومبكية، لكننا كعادتنا حولنا إجابات الشباب إلى إيفيهات وجلسنا نضحك عليها، دون أن نعرف أننا نواجه مصيبة كبيرة.
لا مبالغة على الإطلاق فى ذلك، فعندما لا يعرف الشباب تاريخ الانتصار العظيم المكتمل الذى حققناه فى حياتنا، نكون أمام كارثة وطنية، فمعنى أنهم لا يعرفون تاريخه، فهم أيضًا لا يعرفون عنه أى شىء، ولا يهتمون بذلك.
وخلال السنوات الماضية، اجتهدت آلة الإعلام الإسرائيلية وساندتها مناقشات دارت هنا- ولا تزال تدور- فى مصر حول ما جرى، وهل انتصرت مصر فعلًا فى هذه الحرب؟، لدرجة أن هناك حالة من التشويه والتشوه والشك والتشكيك فى هذه الحرب، والمناقشات التى نرصدها على منصات التواصل الاجتماعى كل عام فى ذكرى أكتوبر تؤكد لنا ذلك.
فما الذى جعلنا نصل إلى هذه الحالة؟، كيف فرطنا فى تمرير حقيقة ما جرى ليكون جزءًا من معرفتنا الوطنية، وتركنا الشباب على موائد المنصات والكتب والكتابات اللقيطة، فأصبحوا لا يعرفون ماذا جرى، وما قدمته مصر لتسترد أرضها حربًا وسلامًا؟
ولا يخفى على أحد ما يحدث فى اختبارات المتقدمين لبعض الوظائف المهمة فى جهات ومؤسسات لها وضعيتها.
سمعت من أحد الممتحنين فى اختبارات وزارة الخارجية أن معلومات الشباب المتقدمين عن التاريخ المصرى شحيحة، ولا توجد لديهم قدرة على قراءة الأحداث بشكل جيد، وهو ما يشكل خطرًا كبيرًا على المستقبل.
قبل سنوات كنت أتابع عن قرب ما ينخرط فيه آلاف الشباب والبنات فى أعمار بين ١٢ و١٨ سنة من متابعة فرق الموسيقى والغناء الكورية، وفوجئت بأن هناك جيشًا ينتمى بالكلية إلى فريق الـ«bts»، يتابعون أغنياته، ويقيمون حفلات للاحتفاء بأعياد ميلاد أعضاء الفرقة، غرفهم لا تخلو من صورهم، ينضمون فى جروبات على «فيسبوك وواتس آب وتليجرام»، يتابعون من خلالها أخبارهم، ويكتبون عنهم.
كانت أغنيات هذه الفرقة مثل الديانة التى يعتنقها الشباب، يحفظونها عن ظهر قلب، ويعملون بما فيها، وكانت الإجابة التى تلقيتها منهم تعليقًا على هذه الحالة أنهم يعبرون عنهم ويشعرون بمشاكلهم ويقدمون لهم العون لمواجهة الحياة.
لم أكن منزعجًا من هذه الحالة فى الحقيقة، فالشباب فى هذه المرحلة تكون لهم موضات فيما يسمعون وما يهتمون، لكن مصدر انزعاجى الشديد من هؤلاء الشباب أنهم كانوا ينتمون بالكلية ليس إلى الفرقة الكورية التى تنتشر فى العالم انتشارًا مخيفًا، ولكن لأنهم فى الوقت نفسه كانوا لا يعرفون شيئًا عن مصر ولا عما يحدث فيها، بل إنهم كانوا يعيشون كغرباء تمامًا.
فتحت مناقشة كبيرة حول هؤلاء الشباب فى برنامجى وقتها «٩٠ دقيقة»، وتحدثت معهم واستمعت منهم، وكان كثيرون يعانون من أن أسرهم تضيق مما يحدث، وبالتبعية يضيّقون عليهم، ولما قلت لهم: إن الأهالى معذورون فى ذلك لأنهم يشعرون بأنكم مختطفون تمامًا بعيدًا عن بلدكم وما يجرى فيه، قالوا: وما الذى يجب علينا أن نفعله.. وهل يوجد فى البلد ما يغرينا ويدفعنا إلى الاهتمام؟
وقتها طلبت من بعض من ينتمون إلى هذه الفرقة بيقين أن يقدموا شيئًا يقولون من خلاله إنهم أبناء هذا البلد ينتمون إليه ويهتمون بما يدور فيه.
سألونى: مثل ماذا؟
كانت مصر وقتها تخوض حربًا شرسة ضد الإرهاب.
قلت لهم: اعملوا فيديو قولوا فيه إن مصر آمنة، حدثوا العالم عما نتعرض له من حرب إرهابية، وعما نقدمه لنخلص بلدنا من الإرهاب الذى هو فى النهاية خطر على العالم كله.
وبالفعل نفذوا الاقتراح، وظهرت بنات جيش الـbts يقلن الكلمة بعدة لغات، ورفعن الفيديو على صفحاتهن ومنصاتهن وجروباتهن، وكن سعداء برد الفعل.
قمت وقتها بإذاعة هذا الفيديو فى البرنامج، وسألت نفسى: لماذا لا نتعامل مع هؤلاء الشباب برفق، فهم فقط يحتاجون لمن يتحدث معهم ويضعهم على الطريق الصحيح، وبذلك نربح طاقتهم الهائلة وقدراتهم غير المحدودة فى التواصل مع العالم بآلياته وطرقه ولغاته؟
لقد طالبت- وما زلت أطالب- منذ سنوات، بضرورة توثيق ما جرى فى مصر خلال السنوات الماضية، واقتراحى يقوم على أن تبادر مجموعة من الباحثين وأساتذة التاريخ والمتخصصين فى العلوم السياسية وعلم النفس وعلم الاجتماع بتوثيق الأحداث بشكل محايد ونزيه بعيدًا عن الاستقطابات السياسية، على أن يتحول ما سيصلون إليه إلى أشكال إعلامية وصحفية ووثائقية ودرامية وكتب، تكون متاحة فى أيدى الشباب عبر المدارس ومراكز الشباب، وتعرض على الجميع على أوسع نطاق.
ومنذ أيام كنت أتحدث مع معالى السفير أحمد أبوالغيط، الأمين العام لجامعة الدول العربية، ومن بين ما قاله لى إنه منزعج بشدة من الحالة التى يجد عليها كثيرًا من الشباب، فهم لا يعرفون كثيرًا ولا قليلًا عما يجرى فى مصر، يحصلون على معلوماتهم ومعارفهم من مصادر عديدة ليست مصرية، ولا يشغلهم فى قليل أو كثير أن يعرفوا ما الذى تقوله مصر عما يحدث فيها.
كان لدى أبوالغيط اقتراح محدد.
قال لى: أعتقد أننا فى حاجة ملحة إلى إنعاش الذاكرة الوطنية، لدينا الآن عدد كبير ممن شاركوا فى حرب أكتوبر، وعدد كبير من المسئولين الذين كانوا فى مواقع المسئولية فى أحداث ٢٠١١ و٢٠١٣، ويعرفون جيدًا ما الذى حدث، لديهم المعلومات التى لا يعرفها كثيرون، وهؤلاء يجب أن يتحدثوا مع الشباب.
اقتراح أبوالغيط ليس فى مجرد الحديث، ولكن فى طريقة تنفيذه.
فهو يقترح أن تكون هناك ندوات فى مدارس مصر الإعدادية والثانوية وفى الجامعات أيضًا، يجلس العالمون ببواطن الأمور مع الشباب، يتحدثون إليهم وجهًا لوجه، يستقبلون أسئلتهم ويجيبون عنها، ومن خلال هذا الحوار والنقاش المفتوح يمكن أن تتضح الصورة بشكل كبير.
أهمية اقتراح السيد أحمد أبوالغيط تأتى من أن الاتصال المباشر فى النهاية أجدى وأكثر قوة وتأثيرًا من كل وسائل الإعلام مجتمعة، فمهما بلغت قوتها إلا أن الحوار المباشر لا يزال قادرًا على التأثير.. وهو ما نريده.
وبحسم أعرفه فى كلام وأفكار أبوالغيط: لا يمكن أن نسأل الشباب عن انتمائهم لهذا البلد دون أن نقدم لهم ما يدعم هذا الانتماء، كيف تقول لشاب يجب أن تعمل من أجل هذا الوطن وتحارب معركته وتقف فى خندقه لا تغادره أبدًا، وهو لا يعرف عنه شيئًا.
لا بد أن نعترف بأننا تركنا شبابنا خلال السنوات الماضية نهبًا لوسائط معرفية عديدة، وبعضها ليس فوق مستوى الشبهات، بل إننا نعرف أن هذه الوسائط تقف وراءها قوى لها مصالح، ومن أهدافها أن تشكل وعى الجمهور المصرى وفى القلب منه الشباب بالصورة التى تروق لها وتتفق معها.. وأصبح لازمًا الآن أن نواجه هذه الوسائط من خلال الاعتماد على وسائطنا التى نجيدها، ولدينا الكثير الذى يمكن أن نقوله من خلالها.
بعد فض اعتصامى رابعة والنهضة الإرهابيين، حدث ما جعلنى أشعر بخطر شديد.
وقتها قامت الجماعة الإرهابية بنسج روايتها الخاصة، حشدت فى متنها وعلى هوامشها كل ما تريد تأكيده عن موقفها وعما تدعى أنها تعرضت له، كانت تهدف إلى تثبيت معنى واحد ومفهوم واحد عما جرى على الأرض، وهو أنها جماعة مظلومة ومقموعة ومقهورة.
وقتها كان للخطر بالنسبة لى منبعان.
الأول أن الجماعة أغرقت وسائط التواصل الاجتماعى بروايتها، كانت لديها حالة من الإلحاح على إنتاج مواد إعلامية من وجهة نظرها، وبالتبعية كان هناك دعم مالى كبير لانتشار هذه المواد لتصل إلى أكبر قدر من المتابعين، ووجدت حالة كبيرة من التفاعل معها من الشباب تحديدًا.
الثانى أنه لم تكن هناك فى مواجهة الرواية الإخوانية رواية مضادة تروى وتحكى وتقول ما الذى جرى، وتقدم للجمهور الحقائق الأخرى بمنطق وعقل ومعلومات، رغم أن الحقائق كانت معروفة ويملكها كثيرون، لكنهم لم ينزلوا إلى قلب المعركة الإعلامية.
كثيرون وقتها تحججوا بأن المعركة على الأرض كانت محتدمة، وكانت مصر فى مواجهة صلبة على الأرض مع الجماعات الإرهابية، ورغم أن هذا كان صحيحًا، إلا أنه ما كان ينبغى أبدًا أن يشغلنا عن معركة أقوى وأكثر شراسة وهى المعركة الإعلامية، التى بدأت فى نسج مفاهيم ومعان، وأرادت من خلالها تشكيل الصورة التى تقود بعد ذلك إلى اعتقاد بعينه وإلى بعد ذلك إلى سلوك فى اتجاه محدد.
تعلمنا فى أكاديميات الإعلام وعلّمنا طلابنا قاعدة مهمة جدًا، وهى أن من يروى الحكايات يحكم.
وأعتقد أننا فى جاجة إلى تعزيز هذه القاعدة الآن وليس غدًا، حتى نعوض ما فاتنا من سنوات كانت صاخبة نعم، لكن ما كان يجب أن يشغلنا صخبها عن أن تكون لنا روايتنا المتماسكة المدعومة بالمعلومات وبالحقائق.
أعرف أن الجماعات المضادة التى تتبنى رواية أخرى لديها أساليب فى تشويه روايتنا والإساءة إليها والانتقاص منها والطعن فيها، لكن ليس معنى هذا أننا نتراجع أمام الاتهامات الموجهة منهم إلينا.
إننى أعرف كثيرين من كتابنا ومفكرينا ومبدعينا وصحفيينا ونقادنا وسياسيينا لديهم ما يمكن أن يقولوه فى إطار مسار تعزيز الوعى المصرى الجمعى بقضايانا الأساسية والحيوية، بل لديهم قدرة على الإقناع وتشكيل الوعى بما يتوافق مع مقتضيات أمننا القومى، لكن هؤلاء للأسف الشديد يلتزمون الصمت، لا يفصحون عما لديهم، يترددون بشدة فى النزول إلى أرض المعركة، يؤثرون السلامة، يجلسون فى بيوتهم مبتعدين عن غبار الصراع، يراقبون من بعيد ويشاهدون ما يحدث دون أن يكون لهم أى مساهمة فيه.
لقد جلست مع كثيرين من هؤلاء، والغريب أنه رغم قناعتهم المطلقة بعدالة القضية المصرية، ورغم اعترافهم بأننا نخوض حرب وجود تستلزم أن تتوحد كل الجهود لنكون يدًا واحدة فى المواجهة، إلا أنهم يخافون بشدة من أن يتعرضوا لحروب تشويه السمعة، لا يتحمل أحدهم أن يكون هدفًا لحملات مدفوعة على السوشيال ميديا.
يقولون: يمكننا أن نتحمل نحن، لكن ما ذنب أولادنا وعائلاتنا؟ هم لم يفعلوا شيئًا حتى يجدوا أنفسهم محاصرين بالسباب والشتائم والطعن فيهم وفى ذممهم وأعراضهم.
قد تلتمس لهؤلاء عذرًا.. لكنك أبدًا لا يمكن أن تسامحهم فيما يرتكبونه من خذلان لقضية يعرفون أنها عادلة.
وقد تعتبر أن ما يقولونه منطقيًا.. لكن عندما يتعرض الوطن إلى خطر، فإن ما يقولونه لا يكون إلا عبثًا كاملًا يجب ألا نلتفت إليه.
إننى لا أدين أحدًا، ولا أعيب على أحد، ولا أطالب أحدًا بأن يقوم بما لا يقدر عليه، ولكن لا أستطيع أن أتجاهل أن المسئولية الآن ملقاة على عاتق الجميع.
إن الذاكرة الوطنية تتعرض لأكبر هجوم من جهات وجبهات كثيرة.
إننا أمام فخ كبير يستهدف شبابنا الذين هم عماد المستقبل.
الشباب الذين يجب أن نحصنهم بالمعرفة والمعلومات والحقائق، حتى يستطيعوا أن يخوضوا معركة الوطن فى مواجهة من يريدون الإيقاع به وبهم، يجب ألا نتركهم فى العراء يواجهون وحشًا مفترسًا يمكن أن يقضى عليهم.
إننى أدعو الجميع إلى أن يكونوا صفًا واحدًا.
كل من يستطيع أن يقول كلمة يجب ألا يتردد فى قولها.
وكل من يستطيع أن يكتب مقالًا عليه أن يبادر.
كل من يقدر على تقديم عمل وثائقى أو درامى عليه أن يبدأ فورًا.
وكل من لديه شهادة عما جرى عليه أن يضعها بين أيدينا.
لا تتركوا من يحاولون العبث بعقولنا ينجحون فيما يخططون له.. لأننا جميعًا سنكون إذا حدث هذا مجرمين فى حق أنفسنا وفى حق هذا الوطن.