المغامر.. كيف دخل منير قلوب دولة الدراويش؟
- جاء منير إلى الدنيا لكى يكون «مختلفًا» وصاحب تجربة لم تتكرر قبله ويستحيل أن تتكرر بعده
- تجربته فى «مدد يا رسول الله» قادت الأغنية الصوفية إلى العالمية
يستحق محمد منير لقب المغامر، إنه الوصف الأصدق لشخصيته وتجربته، منذ خطواته الأولى وهو مولع بالمغامرة، شغوف بالتجربة، لديه استعداد كامل ودائم لأن يلقى بنفسه فى بحور التجارب الجديدة، بجسارة الرحالة والمستكشفين القدماء، الباحثين عن أرض جديدة وقارات جديدة واكتشاف جديد.
لا يشبع منير من التجوال، ولا يكف عن المغامرة.. ربما بدافع الشغف، ربما بحثًا عن تميز وتفرد، لأنه لا يريد أن يكرر ما سبق، أو أن يسير فى دروب خطى عليها غيره، لا يفعل إلا ما يمنحه هذا الإحساس بالفرادة.. حتى فى الأكل، يمكنه أن يضحى بما لذ وطاب من أصناف الطعام مقابل طبق من «الأتر»، عشقه القديم من الطعام النوبى المكون من السبانخ والشبت والكزبرة مع ورق اللوبية.. ليس إلا، ولكن مذاقه عند منير يفوق موائد القصور.
فتش عن المغامرة فى تجربة منير، ستجدها فى بحثه عن كلمات جديدة لشعراء كانوا هم كذلك يبحثون عن صوت متفرد ينقل معانيهم وأغانيهم إلى الناس، ووجد ضالته فى البدايات مع عبدالرحيم منصور وفؤاد حداد ومجدى نجيب وسيد حجاب.. وستجدها فى بحثه الدائم عن التجديد الموسيقى، عن نغم مختلف يعبر به حواجز الثقافات واللهجات والحدود، ويمكنك أن تسأل أى واحد من الستين ألفًا الذين حضروا حفلته صيف العام ٢٠٠٣ فى أسيوط، بمشاركة مطرب البوب النمساوى الأول هوبرت فون جويرى، والنشوة التى كانت فى صوت وأداء نجم البوب العالمى وهو يغنى مع منير «الشمندورة»، ربما- بل غالبًا- لا يفهم معنى كلماتها، لكن المؤكد أن الحالة كانت جديرة بأن يأتى من قلب أوروبا إلى قلب الصعيد.
وحتى عندما قرر أن يدخل عالم الأغنية الصوفية دخلها بمذاقه ولونه ووعيه الخاص، ونجح بألبوم واحد أن يدخل قلوب دولة الدراويش.. بل ويسجل اسمه بارزًا فى سجل الأغنية الروحية فى العالم، ولك أن تتخيل مشهد ٦٠٠ ألف إنسان يتجمعون فى مدينة «ديسريتشن» الألمانية ليغنون معه: مدد.. مدد!
تجربة منير مع الغناء الصوفى تستحق أن نتوقف عندها، ففيها الكثير من المعانى والتفاصيل.. بل والتأكيد على إصراره الدائم على أن يكون مختلفًا ومتفردًا.
قرر محمد منير أن يكون «مختلفًا» حتى وهو جنين فى بطن أمه لم يزل، فقد وضعت والدته أشقاءه الخمسة بولادات طبيعية وهى فى سريرها لم تخرج من بيتها، أما طفلها «محمد» فقد اضطرها للذهاب إلى المستشفى، ولم يخرج من رحمها إلا بولادة قيصرية.
جاء منير إلى الدنيا لكى يكون «مختلفًا»، وصاحب تجربة لم تتكرر قبله، ويستحيل أن تتكرر بعده.. كان الزمن أوائل السبعينيات من القرن العشرين عندما بدأ تجربته مع الغناء، ومنذ الطلة الأولى والأغنية الأولى والألبوم الأول «علمونى»، الذى أصدره فى العام ١٩٧٦، كان واضحًا أن منير لم يأتِ إلى القاهرة «غازيًا» لمجرد البحث عن مكان أو فرصة تضعه فى قائمة مطربى ذلك الزمان، لم يكن يريد أن يصبح مجرد رقم أو خانة فى قائمة متخمة وممتدة، كان طموحه أكبر وأخطر، كان يريد أن يكون هو نفسه قائمة منفصلة لا يوجد بها سوى اسم واحد.. وتجربة وحيدة.. فريدة!
ونجح منير فى أن يحقق حلمه، لم يقلد أحدًا ولم يكن شبيهًا بأحد، بل لم يعد من المبالغات أن نعتبره «ثورة» فى الأغنية المصرية: شكلًا ومضمونًا.
كان شكله مميزًا بلونه الأسمر، وملابسه الكاجوال وإكسسواراته النوبية، وحركته الدائمة «العصبية أحيانًا» على المسرح، وهو شكل فى المجمل يخاصم ويقف على النقيض مع الشكل الكلاسيكى للمطرب المصرى، بملابسه «الفورمال» المتأنقة ووقفته الوقورة أمام الميكروفون.
ومضمون أغانيه حمل روح الثورة والتمرد كذلك، وهو ما ظهر فى نوعية الكلمات التى غناها، وفى ألحانها وتوزيعاتها الموسيقية.
كان منير واعيًا من البداية أنه صاحب مشروع غنائى وليس مجرد مغن.. مشروع مختلف عن السائد، يغنى فيه للإنسان وليس المرأة، والحب فيه أشمل وأوسع وأعمق من الغزل فى عيون الحبيبة وضفائرها ورقتها.. ولذلك كانت أغانيه فى البداية صادمة لذوق جمهور اعتاد على الأغانى العاطفية المباشرة ولم يعرف غيرها، فلم يحقق ألبومه الأول النجاح المتوقع، لأنه كما يقول صديقنا الناقد الموسيقى طارق هاشم، فى كتابه المهم «الأغنية المصرية الجديدة»: «تناول فكرة الغناء من أرضية مختلفة كانت غريبة فى ذلك الحين وتحتاج إلى ذهن واسع، وليس فقط إلى عاطفة متأججة، بل كانت التجربة تخاطب النموذج الإنسانى بشتى تفاصيله، وتطرح مفاهيم مختلفة للمعانى العامة للإنسان كالحب مثلًا».
وأصر منير على مشروعه المختلف ولم يتراجع، ولم يفقد الثقة أبدًا فى نفسه وفنه وموهبته، وفى أركان حرب تجربته الأولى: أحمد منيب وعبدالرحيم منصور وهانى شنودة.. ثم صلاح جاهين ويحيى خليل فيما بعد.. وفى ألبومه الثالث «شبابيك»، الذى أصدره فى العام ١٩٨٠، كان منير هو حديث مصر، والفتى الأسمر الذى تربع على عرش سوق الكاسيت وقلوب «البنات».
أما فى التجديد الموسيقى، فنحتاج إلى كتاب كامل نشرح فيه ما أدخله منير إلى الأغنية المصرية، ويشهد أهل الصنعة أنه أول من مزج الموسيقى المصرية بالجاز والراب والفانك والتيمبو.. وأول من استخدم الإلكتريك جيتار.. ونقل موسيقانا إلى العالمية، فأصبح له جمهور واسع فى الغرب ينافس جمهوره فى مصر، لذلك لم أستغرب مثل آخرين عندما قال د. زاهى حواس إن النجم العالمى ويل سميث سأله فى زيارته للقاهرة قبل شهور عن منير، وأبدى أسفه لأن منير كان خارج مصر للعلاج.. ولو كان فى القاهرة لذهب للقائه.
كان منير مختلفًا وسابقًا فى تجاربه الغنائية.. وبينها تلك التجربة التى نقف عندها بالتفصيل، إذ كان أول من أصدر ألبومًا دينيًا كاملًا، وفيه غنى «مدد يا رسول الله»، التى صارت من أجمل الأغانى الدينية وأكثرها ذيوعًا وتأثيرًا وروعة.
كانت كوثر مصطفى، الشاعرة الموهوبة، ضلعًا لا يمكن تجاهله فى تجربة منير فى العموم، فقد كتبت له أغانى بقيمة وشهرة «علّى صوتك بالغنا» و «يا بنت يا للى» و«سو يا سو» و «اخرج من البيبان»، وارتبط اسمها بتجربة «الملك» وصارت من أركانها.
وكانت كذلك ضلعًا وشريكًا فى ألبوم منير الفريد «الأرض.. السلام»، الذى اشتهر باسم أغنية فيه «مدد يا رسول الله».. وبتلك الصفة طلبت من كوثر مصطفى أن تستعيد ذكرياتها عن تلك الأغنية وكيف ولدت وفى أى ظروف، وكانت الذكريات عندها حاضرة والتفاصيل مكتملة.
فقد ولدت الفكرة بعد موقعة ١١ سبتمبر ٢٠٠١، وهو حدث كان فارقًا وتغيرت الدنيا بعده، وصار الهجوم على الإسلام فجًا ووقحًا، وجرى عمدًا وصمه بالإرهاب والدموية والعنف، وفى ذروة الهجوم لم يفرق أحد بين الإسلام وتنظيم القاعدة، وتعرض دين «محمد» لأكبر حملة تشهير وتشويه وافتراء.. وقتها فكر منير فى أن يرد على تلك الأكاذيب، وأن يصدر ألبومًا كاملًا يعرض فيه لسماحة الإسلام ورحابته ورحمته وعدله ومحبته لكل أنبياء الله، وهى معانٍ كانت تتجسد فى التصوف الإسلامى: غناء وروحًا.
واختار منير تيمات وألحانًا صوفية، كان يختزنها من السنوات التى عاشها فى قريته «منشية النوبة»، حيث يظهر عمق وتأثير الطريقتين الشاذلية «نسبة إلى صاحبها أبوالحسن الشاذلى» والميرغنية «نسبة إلى مؤسسها عثمان الميرغنى» بكل ما تحملانه من تراث روحى وغنائى.
ووضع منير التيمات والألحان الصوفية بين يدى شاعرته كوثر مصطفى، وطلب منها أن تكتب عليها ومن وحيها كلمات جديدة تحمل نفس الروح الصوفية ومعانيها الإنسانية، وكانت المحصلة: صل يا واهب الصفا، الله الله، صلاة فى سرى وجهرى، ابشروا يا شباب، صلاة الله يا مولاى، صلاة على المصطفى، أشرق البدر، مدد يا رسول الله.
سجل منير أغنية «مدد يا رسول الله» فى ألمانيا بمشاركة فريق ترانيم كنسية ألمانى «شالسيك براس»، وبتوزيع الموسيقار الألمانى رومان بونكا، «الذى يرتبط معه منير بعلاقة فنية وإنسانية طويلة وممتدة»، مما جعل الأغنية حالة فريدة فى الغناء الصوفى، وحوارًا حقيقيًا بين الإسلام والمسيحية بلغة الموسيقى، وهى تجربة كان لها صداها العالمى ومنحت منير جائزة مطرب السلام فى ذلك العام.
تحكى لى كوثر مصطفى: «كتبت أغنية (مدد يا رسول الله) بسهولة وسرعة، وكانت كلماتها تتدفق بسلاسة: أقسمت بالفرقان وبسورة الإنسان
العدل فى الميزان
لكل خلق الله
مدد مدد مدد
مدد يا رسول الله
أقسمت بالإسراء
وبراءة العذراء
الدم كله سواء
حرام بأمر الله
أنشودة المسيح رسالة حرة
على الأرض السلام
وبالناس المسرة
مدد مدد مدد يا رسول الله
أقسمت بال حميم
وبسورة التحريم
أنى لازلت سقيم
فى حب رسول الله.
.. وجاء توزيع رومان بونكا معبرًا ومدهشًا عن الكلمات، وحتى الآن أستغرب أن (موسيقار) ألمانيًا يقدم هذا الجو الصوفى وكأنه من مواليد السيدة زينب».
«مدد يا رسول الله» تجربة من تجارب منير الجديدة الفريدة، بل نقول إنها رؤية مختلفة وسابقة لعصرها لتجديد الخطاب الدينى على طريقة محمد منير.