الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

محمد العسيري يكتب: منير.. يا دى العيون اللى بتقرا ف كتاب الشوق

محمد منير
محمد منير

- انفجرت تجربة منير فى عز سطوة «عدوية» وحتى العام ١٩٨٤ لم يكن عمرو دياب الذى حل بديلًا لتجربة عمر فتحى قد بلور شكل موسيقاه

فى آخر أيام حليم كان السؤال الذى يطارد شعراء تلك المرحلة لا يختلف كثيرًا عن حال الشارع المصرى.. كان شعار اللحظة «حبيبتى أنا من تكون».. تلك الأغنية التى صاغها بليغ حمدى ولم يتمكن العندليب من غنائها فى حفل عام.. قبلها كان قد تعرض لموقف سخيف من جمهور حفله الشهير الذى غنى فيه «قارئة الفنجان»، فيها راح فتش مع نزار قبانى عن موقع تلك الحبيبة النائمة فى قصر مهجور.. من يدنو من سور حديقتها هالك.. هل كان المصريون- وربما العرب- فى تلك اللحظة يبحثون عن «هويتهم»؟ لقد أعاد نصر أكتوبر العظيم للمصريين والعرب ليس مجرد أراضيهم التى سلبت من قبل فى حرب لم يدخلوها.. كان الانتصار إعادة لكل اللحظات التى هربت من جيل «مكسور».. عودة الحلم.

استعاد الشعب المصرى بطاقته الشخصية ثم كان ما كان.. وارتبكنا.. وكتب أمل دنقل قصيدته الشهيرة «لا تصالح ولو منحوك الذهب».

فى تلك اللحظة المربكة الحائرة.. كانت هناك أربعة أصوات شابة تبادل الجلوس والنوم أحيانًا على أريكة مهترئة فى مكتب بليغ حمدى.. هم محمد الحلو.. وقد كان عضوًا فى فرقة أم كلثوم.. وعلى الحجار الذى قدمته أبلة فضيلة فى برنامجها الصباحى الشهير.. وتوفيق فريد وهو مطرب جميل لم يأخذ حظه من الشهرة بما يضمن له البقاء واختفى بعدما ترك عددًا محدودًا من الأغنيات أشهرها دويتو مع سوزان عطية «مصر يا أم الدنيا يا حبيبتى يا بلدى».. أما رابعهم فهو بطل حكايتنا.. اسمه «منير».

وقتها لم يكن اسمه كذلك.. كان اسمه محمد أبازيد.. ولم يكن بليغ قد استقر على «سر» منير.. كان بليغ نفسه مزدحمًا.. كان قد أنهى تجربة أم كلثوم بلحن عبقرى استخدم فيه إيقاعات جديدة لكنه وقع فى فخ كلمات عبدالوهاب محمد.. مجموعة من الحكم والمواعظ تسلم بعضها بعضًا.. «هكذا خرجت.. حكم علينا الهوى».. حاول الخروج مع هذه المجموعة من الشباب- وقيل إن من جاءت بهم كانت وردة رغبة منها فى وجود خليفة أو بديل لحليم- وأيًا كانت البوابة.. جلس هؤلاء كثيرًا فى الانتظار.. بدأت التجربة بالحجار فقدم له بليغ أربع أغنيات مدهشة «قالت- سفر- طاب العنب وأغنية جواز المرور»، والأغنيات الأربع من كلمات عبدالرحيم منصور، ثم كانت «أشكى لمين» لمحمد الحلو.. وقد سجلها وصورها للتليفزيون أيضًا.. وهى أيضًا من كلمات عبدالرحيم منصور.. ولم ينجز شيئًا لتوفيق فريد ولا منير.

عبدالحيم منصور وقد كان طوافًا فى شوارع القاهرة.. لا يستقر فى مقهى.. فهو لساعات فى «باب اللوق» مع شوقى حجاب.. وساعات أخرى فى بولاق الدكرور حيث يعيش.. ولحظات فى مسرح العرائس حيث تعمل زوجته الأولى نعيمة الصغير.. وفى كل هذه المشاوير معه «محمد منير».. بروح صعيدية تتحدى قسوة المدينة وملابس «كاجوال» جاءت مع انفتاح السادات.. منير كان يحلم بالغناء.. وسبقه فى ذلك أخوه الأكبر فاروق.. لكن الأقدار جعلت منصور يرى فى الشقيق الأصغر ما لم يره الآخرون.

فى تلك اللحظة كانت الفرق الموسيقية المتأثرة بالغرب قد ملأت ساحة الغناء.. وكانت الأدمغة قد طالت شعورها تقليدًا للغرب وأفلامه ونجومه.. ربما هربًا من المواجهة.. أو بحثًا عن «نغمة سليمة». وكان شارع الهرم هو الملجأ لهذه الفرق.. وكازينو الشجرة، وكان أن انطلق الثلاثى «منير والحجار والحلو» ومعهم عمر فتحى، يشكلون «نمرة» مختلفة فى ملهى «شاليمار»، فيما تعزف فرقة «الجيتس» فى وسط البلد والمصريين فى «الشجرة».

فى تلك اللحظة الحائرة.. كتب منصور «فى عنيكى غربة وغرابة».. الغرابة هى التعبير الأدق عن «المدينة» فى تلك اللحظة التى كانت تنتظر ميلاد النغمة الجديدة.. وكان قد عثر عليها الطالب الذى يدرس الفنون الجميلة مع «منصور ومجدى نجيب وشوقى حجاب وسيد حجاب وأحمد منيب»، فخرجت «بتتولد» ومن قبلها «أمانة يا بحر» و«علمونى عنيكى أسافر»، ووزع هانى شنودة معظم أغانى الألبوم الذى تحمست له شركة «سونار» وكانت قد فشلت التجربة فى صيغتها الأولى ولكن سرعان ما عادت وانفجرت بين شباب الجامعات لتبدأ رحلة الأغنية البديلة.

(شبابيك الواحات)

فى سجن الواحات.. كان الثلاثى محمد حمام ومجدى نجيب وفؤاد حداد.. لا تهمة لعاشق.. ولا غضب من العاشق يجلد به قلب الحبيبة حتى وإن حبسته فى زنزانة.. فقط أغنيتهم التى تبحث عن بكره..

«لا كنت بره ولا مهاجر

أنا اللى جايلك من باكر

قلبى ولا البحر الهادر 

عينى ولا الجمرة الليلة».

كانت الأغنية لمحمد حمام.. كتبها فؤاد حداد احتفالًا بعيد ميلاد الجنوبى زكى مراد رفيقهم فى عنابر الواحات.. لكن عينًا أخرى التقطت صوت منير ليحتلها.. مثلما التقطت نغمة أشكى لمين التى سبق وغناها محمد الحلو.. ولم يكن بليغًا مقنعًا فى البداية ثم سرعان ما استجاب.. لكن تظل شبابيك هى العنوان الأبرز لأبناء ذلك الجيل.. هذا الجيل الذى حبسته التوهة خلف أسوارها فراح ينظر لها وللعالم من شبابيك السجن.

«دى عنيكى شبابيك

الدنيا كلها شبابيك

سرقت عمرى من أحزانى

سرقته لكن ما جانى

ولا حد شاف فين مكانى

ورا الشبابيك».

وكان أن انضم يحيى خليل القادم من أمريكا بموسيقى الجاز، وكان قد تعرف على موسيقى النوبة عبر حمزة علاء الدين الذى التقاه هناك وسمعه وسمع منه وأصبح صديق غربته.. لم تكن موسيقى النوبة غريبة إذن على يحيى خليل ولم تكن كلمات عبدالرحيم منصور وألحان منيب غريبة عنه ولم يكن منير كذلك.. فقد كانت الفقرة التى تسبق فقرة منير والحجار فى «شاليمار» هى فقرة فرقة يحيى خليل..

انفجرت تجربة منير فى عز سطوة «عدوية» وحتى العام ١٩٨٤ لم يكن عمرو دياب الذى حل بديلًا لتجربة عمر فتحى قد بلور شكل موسيقاه.. كانت الساحة خالية تمامًا لمعانٍ ومفردات جديدة.. وموسيقى جديدة كذلك.. موسيقى مصرية خالصة بمفاهيم أوروبية وأمريكية تشبع نهم جيل حالم برامبو الأمريكى من ناحية ويرفض الصلح مع كيان اغتصب أرضه من ناحية أخرى.. جيل يرتدى أزياء «أوروبا» ويبحث عن جذوره فى اللحظة ذاتها.

«أتحدى لياليك يا غروب

وأتوضى بصهدك يا جنوب

وأصلى الفرض الحطينى

وأوهبلك عمرى المكتوب».

لم تكن أغنية جمال بخيت لسناء محيدلى مجرد صرخة فى وجه الاجتياح الصهيونى للبنان بل كانت استكمالًا للوحة يرسمها مجدى نجيب وفؤاد حداد وأحمد فؤاد نجم عن «الوطن» الذى يقام «تاكل ذاكرته» فكان أن غنى منير أيضًا: 

«ينسانى دراعى اليمين

ينسانى دراعى الشمال

ينسانى ننى العين

وآهة الموال

لو نسيت القدس».

لم تكن القدس وحدها التى تقاوم نسيانها.. كانت حودايتنا.. حكايتنا نحن أيضًا ولذلك لم يكن غريبًا أن يذهب منير إلى عبدالعظيم عويضة ليستعيد شوارعها وطعم بيوتها فى «الجيرة والعشرة» ليؤكد أننا لم ننته بعد ونحن نملك كل هؤلاء.

«فى كل حى ولد عتره

وصبيه حنان

وكلنا جيره وعشره

وأهل وخلان

نحضن ولادنا ولا نخلى

حنية وذوق

نكبر معاهم ونغنى

قدام ونفوق

يادى العيون اللى بتقرا

ف كتاب الشوق

الدنيا خضرا ومش فاضل

على بكره زمان».

وما جرى بعدها تعرفونه.. حدوتة مصرية.. سجلت رحلة النخيل وشجر اللمون اللى دبلان على أرضه.. وانضم إلى الرحلة وقطارها كثيرون وجيه عزيز، كوثر مصطفى، حسين الإمام، فوزى إبراهيم، صلاح الشرنوبى، محمد مصطفى، عصام كاريكا، كل الأجيال وجدت طريقها إلى «حضن منير».

«الاسم الكامل إنسان

تلميذ بتعلم وبناضل

تلميذ فى مدرسة الشعب

والمدرسة فاتحة على الشارع

والشارع فاتح فى قلبى

وأنا قلبى مساكن شعبية».

ثم.. يا صديقى والتفت جيدًا إلى قلوبنا.. فلست وحدك. قلوبنا أيضًا مساكن لك ولكل من علمونا أن نغنى لها دائمًا وأبدًا.