الأربعاء 18 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

أين ذهب كل المثقفين؟

حرف

أين ذهب كل المثقفين؟ هذا عنوان كتاب الأكاديمى المجرى فرانك فوريدى المختص فى علم الاجتماع، ويعنى بسؤاله الذى يعالجه فى الكتاب لماذا اختفى المثقفون وكفوا عن القيام بدورهم؟، هذا بعد أن لاحظ الكاتب أن عامًا كاملًا قد ينقضى على طلاب الجامعات فى فرنسا وبريطانيا وأمريكا من دون أن يقرأ الطالب منهم كتابًا واحدًا، ويطلق الكاتب على هذه الظاهرة «تهميش الشغف الفكرى»، ثم يضيف أن ثمة إدراكًا واسع النطاق بين الطلاب بأن «العلوم الإنسانية تشكل ترفًا غير ضرورى»! وتقترن هذه النظرة مع انتشار ما يسميه الكاتب مبدأ «الأداتية»، أى أن دور التعليم والثقافة ينحصر فى كونهما أدوات تخدم أغراضًا عملية لا أكثر.

ويمضى «فوريدى» إلى القول إن المجتمعات الحديثة تتجه نحو «التسطيح» الذى تغذيه قوى كبيرة ترى الثقافة بصفتها مجرد وسيلة لتحقيق أهداف عملية، ويمضى إلى القول بأنه تم تحويل المثقف إلى شخص قليل الأهمية، ولا دور له فى المجتمع، فتراجعت وانحسرت سلطة المثقف، ولم تعد المعايير الداخلية للفن أو المعرفة هى ما يحدد قيمة العمل، بل استعمال العمل الفكرى أو الفنى لفائدة أخرى، بحيث يخدم التقدم الاقتصادى، وبذلك تنتصر «الأداتية»، أى استخدام الثقافة كأداة لتحقيق أهداف أخرى، ومن ثم أصبحت الإنجازات الفكرية والفنية- بعملية تسطيح- مجرد أدوات لخدمة السياسة الاجتماعية، ومن ثمّ اختفى المثقفون وتراجع دورهم. 

وفى هذا المضمار يقول الأكاديمى المجرى إن المثقفين الفرنسيين الآن- مقارنة بسارتر- يبدون «مجرد تكنوقراطيين هزيلين»، ومن لم تعد لدينا العديد من الأصوات الفكرية المتميزة. إن النظرة «الأداتية» والتسطيح وتهميش الشغف الفكرى يسود فى أمريكا وفرنسا وبريطانيا مقابل النظرة إلى الثقافة بصفتها بحثًا عن الحقيقة، والنظرة إلى المثقف بصفته مشاركًا فى قضايا مجتمعه، يتجاوز حدود تخصصه الفنى أو الأكاديمى إلى التأثير فى المجتمع.

ويؤكد الكاتب أن المثقفين يقومون بدورهم عبر تجسيد وجهة نظر جمهور أوسع، والتعبير عن ذلك الجمهور، وأن معنى أن يكون المرء مثقفًا هو: «الارتقاء فوق الانشغال الجزئى الذى تفرضه مهنته أو الجنس الفنى الذى يعمل فيه نحو المشاركة فى القضايا العامة». 

ولكن الكاتب لا يمضى إلى نهاية التشاؤم، إذ يؤكد أنه رغم اختفاء المثقفين الكبار، فإن هناك فى عالم اليوم «أعدادًا كبيرة من الأعمال المثيرة للإعجاب فى الفنون والعلوم». وإذا كان فرانك فوريدى قد تساءل لماذا لم يظهر سارتر آخر فى الثقافة الفرنسية؟ فإن لنا أن نسأل بدورنا: ولماذا لم يظهر لدينا أساتذة كبار مثل نجيب محفوظ فى الرواية، ولويس عوض فى النقد، ونعمان عاشور فى المسرح؟ ما بالك بطه حسين، وقاسم أمين؟ بل وحتى فى الأغنية لم يظهر عبدالحليم حافظ آخر، ولا عبدالوهاب؟. جدير بالذكر أن الكتاب ترجمة د. نايف الياسين الذى ترجمه بلغة سليمة ومفهومة.