الخميس 12 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

ستوديو الحجاز.. بطل من زماننا

ستوديو الحجاز
ستوديو الحجاز

هناك من الروايات ما يدعك مندهشًا طويلًا؛ من المتعة الفنية أو مما تثيره أو تقدمه من قضايا وبشر وتجارب، لكن ثمة روايات قليلة تظل تلاحقك مثل ظل غامق، وتسألك: وماذا بعد؟ ما العمل؟، فتثقل على القلب والروح.

أتحدث هنا عن رواية د. محمد إبراهيم طه «ستوديو الحجاز» التى صدرت مؤخرًا، وفيها يستعرض الكاتب مصير المثقف الذى آمن بالاشتراكية، وفجعه فيها انهيار المعسكر الاشتراكى، وتفكك وانحسار الأحزاب اليسارية، وما أعقبه من ضياع واسع كالبحر ابتلع كل من آمن واعتقد فى ذلك الحلم.

بطلها هو «طه» الذى انفسحت الدنيا أمامه بعد قليل من الأزمة، فإذا به متردد إزاء كل شىء، هو ضائع حتى فى علاقاته العاطفية ما بين شجون، وإيمى، وداليا، وهو ضائع أيضًا فكريًا ما بين اليسار والتيار الدينى، انفصل عن قريته كفر الشرفاء، ولم يجد نفسه فى المدينة، ويصفه الروائى بقوله إن: «التناقضات بداخله ستعتمل حتى يصبح ما لا يريده هو بالضبط ما يريده».

إنه مستنير، لكنه قد يعطى صوته فى الانتخابات للتيار الإسلامى، وكان شيوعيًا داخل منظمة فلما حل التنظيم نفسه لم يحرك ساكنًا، وهو متردد يفقد غرامه الأول «شجون» بسبب ذلك، وتقوده امرأة أخرى إلى القبول بأن تنشأ ابنته تحت جناح رجل آخر. 

إنها أقسى صورة للمثقف العاجز الذى يشير بوضوح قاطع إلى كل مساوئ عهد مبارك من خصخصة وغيرها، لكنه لا يفعل سوى إدراك ما حوله، من دون القدرة على التغيير، حكمت مصيره فى أغلب الأحوال المصادفة، وليس الإرادة.

وفى الخلفية يقدم لنا «محمد إبراهيم طه» نماذج كسرتها الهزيمة التاريخية من عمال وطلاب ومثقفين كانوا رفاقًا ذات يوم، ثم حطمهم العجز فى الزمن. فى المقابل هناك شخصية «شاكر» الشيوعى الثابت على مبادئه، المتسق مع نفسه، لكنه اتساق بلا ثمرة، اتساق لا يخرج بفكرة أو عمل مبدع يبدل الواقع، بينما تفوز شخصية ثالثة بكل شىء، هو «الهن»، الانتهازى القواد الذى يثق بأن لكل شىء سعره، وثمنه، إنه المنتصر الوحيد فى زمن الهزيمة.

وبشخصية المثقف المعزول العاجز الغارق فى الأحلام والأوهام تعيد الرواية إلى الذهن رواية ليرمنتوف «بطل من زماننا» التى كتبها عام ١٨٣٨، وقدم فيها صورة المثقف الضائع، بطل ذلك الزمان «بتشورين»، الذى كان مثقفًا وذكيًا لكنه يحيا حياة باهتة، ولا يجد لنفسه هدفًا، وقد أشار «ليرمنتوف» فى المقدمة إلى أن: «بطل هذا الزمان ليس صورة رجل واحد، إنه صورة تضم معايب جيل بأكمله»، ويكتب فى الرواية: «لقد أصبحنا عاجزين عن أن نقدم أى تضحية كبيرة فى سبيل خير الإنسانية ولا حتى فى سبيل سعادتنا ذاتها، وما ننفك ننتقل من شك إلى شك، كما كان أسلافنا ينتقلون من وهم إلى وهم»، وهو ما ينطبق بالضبط على «طه» بطل «ستوديو الحجاز»، الذى لم يستطع حتى الدفاع عن سعادته الشخصية.

يقدم لنا محمد إبراهيم طه بطلًا من زمننا، بعذوبة الروائى المتمكن، حين يراوح فى لحظة واحدة ما بين إشراقة علاقة الحب مع «شجون» والمصير المؤسف لتلك العلاقة، ويتنقل ما بين حياة طه الشخصية والنماذج الإنسانية التى كسرها الواقع، نماذج لم تكن بالقوة بحيث تصمد مرفوعة الرأس فى وجه العاصفة. 

تنتهى من قراءة «ستوديو الحجاز» لكنها لا تنتهى منك، تظل تتبعك مثل ظل رمادى، تثقل على القلب ولا تنى تسألك: وماذا بعد؟ ما العمل؟