الأربعاء 18 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

نجيب محفوظ.. أيام الألم

الأستاذ يعرف أكثر

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

عندما خطوت أولى خطواتى بغرفته بمستشفى الشرطة، شعرت على الفور بأننى أمام شخص مختلف، كان يبتسم بوهن وقد اعتدل برقدته مرحبًا بى بمودة، عرّفت الأستاذ بنفسى ووظيفتى وسبب وجودى، فلمحت ضيقًا كطيف عابر على ملامحه سرعان ما طرده بلطف وهو يقول بعفوية: أنا الحقيقة معرفش اللى ضربنى لكن أنا مسامحه على كل حال ومعنديش حاجة أضيفها!

هكذا وبمنتهى السماحة والرحمة كان الأستاذ نجيب محفوظ على استعداد لطى صفحة دامية من حياته والتى بدأت أول سطورها منتصف أكتوبر من عام 1994، يومها علمت مثل غيرى بخبر محاولة اغتياله ولم أكن أعرف بعد أبعاد وملابسات الحادث، وبالتالى لم يدر بخلدى على الإطلاق أننى سأكون أحد محققيه والذى سيسمع أقواله باعتباره المجنى عليه، فلم تكن رواية أولاد حارتنا حديثة الصدور حتى نضعها على قائمة الدوافع لارتكاب الجريمة، فغرقت فى حيرة مع زملائى بالنيابة، وظن بعضنا أن مرتكب الحادث شخص مخبول ممن يهوون الشهرة على الطريقة الأمريكية. 

يوم لقائى معه وكان قد مر على محاولة الاغتيال وقت كافٍ، ظللت أحدثه فى أمور عادية وبدا لى أنه مسرور لعدم استجوابه، كان يكفى أن ألقى سؤالًا بسيطًا أو أفتح موضوعًا عامًا ليفضفض بتلقائية، تركت له المساحة ليتكلم وحده، فنحن فى حضرة الأستاذ، وكان مجمل حديثه يدور حول قلقه على حال مجتمع ينزلق نحو هاوية التخلف والرجعية. طال الحديث وتشعب، فى النهاية كان لا بد من إجراء التحقيق وسماع أقواله لكن وقتها أخبرنى الطبيب بأن بقائى أكثر من ساعة معه يرهقه، فغادرت كما أتيت بأوراق بيضاء لم أدوّن فيها حرفًا. عدت لمكتبى وأجّلت التحقيق لبعد باكر.

فى اليوم المحدد ذهبت بصحبة محقق وزميل آخر، تولى رئيس النيابة مهمة سؤال محفوظ عن متهمين لم يرهم الأستاذ ولا يعرفهم ولا حتى يريد تذكر ملابسات الحادث برمته، وتفرغت أنا لمراقبته وتأمل تعبيرات وجهه، وما بين التأثر والانفعال والحزن والمرارة وعمق النظرة والقراءة لحادث رأى أنه بداية لإرهاب قادم لا نهاية قريبة له إذا ما شخفتت شمس التنوير وقد كان. قبل انصرافنا ظن نجيب محفوظ أننى رئيس المحققين مع أننى كنت أصغرهم، ويبدو أن الأمر قد اختلط عليه، فسألنى باهتمام: همّ ليه ضربونى يا حضرة الوكيل؟

كنت على يقين من أنه يعرف إجابة سؤاله وأن الأدباء والأصدقاء الذين التفوا حوله منذ اليوم الأول قد أخبروه بكل التفاصيل، حتى رئيس النيابة قالها له فى التحقيقات ووقتها رفض الأستاذ بشدة أن تقرأ روايته من منظور دينى، لكننى لمحت بريقًا غريبًا فى عينيه كمن يريد أن يسمع أمرًا مختلفًا أو لا يريد أن يصدق ما قيل له.

أجبته بما اعتقدت أنه سيريحه وقلت إن من حاول قتله فعل ذلك لإصلاح المجتمع. فسألنى بنفس الاهتمام: وما وجهة نظره فى ذلك؟ قلت بتحفظ: لأنهم يرون أن المجتمع لن ينصلح حاله إلا بقتل الكفار.

أجبت واعتذرت مقررًا أن تلك العبارة وردت بأقوال المتهم الذى كنت أستجوبه، فابتسم بمودة طالبًا ألا أعتذر ثم فاجأنى، سائلًا: أنا أعلم أنهم لم يقرأوا الرواية لكن أريد معرفة ما إذا كانوا قد قرأوا غيرها.

أسقط فى يدى فأنا أخفيت عنه أنهم لا يعرفون القراءة حتى لا أزيده ألمًا لرقة مشاعره، فأجبته بأننى غير متذكر، لم ييأس نجيب محفوظ واستأذن منا أن نسمح له بإهداء المتهمين بعض كتبه، وفسر دهشتنا من رد فعله على أنها موافقة منا، وطلب من زوجته إحضار ثلاث روايات من منزله الملاصق للمستشفى، إحداها كانت بداية ونهاية والثانية اللص والكلاب ولا أتذكر الثالثة وأظنها الحرافيش، يومها أملى الأستاذ الإهداء ولم يستطع الإمساك بالقلم ليوقع، فكتب ووقع بدلًا منه الناقد رجاء النقاش الذى تصادف وجوده وقتها. 

فى نهاية اللقاء صافحنى بحرارة قائلًا بجدية: لا بد أن أحدهم يقرأ. فأومأت بالايجاب. عدت لمكتبى وقرأت الإهداء، شعرت بعظمة الرجل وازداد انبهارى به ووجدت أن من واجبى تحريز الروايات المهداة على ذمة القضية لتكون تحت بصر القاضى الذى سينظر القضية بالمحكمة لتشكل وجدانه وتريح ضميره، ويرى بوضوح الفرق بين العالم والجاهل، بين الأديب المبدع المتسامح والهمجى صاحب الأفكار الرجعية المتخلفة، بين من يريد إعادتنا قرونًا للوراء ومن يريد إصلاحًا حقيقيًا، يومها أملى أستاذنا الكبير على رجاء النقاش جملة الإهداء حسبما دونت بأوراقى الخاصة:

«إلى من يخالفنى الرأى أهدى سطورًا كتبتها لمصلحة مجتمع لن ينصلح حاله إلا بالثقافة» 

أدركت وقتها أن الأستاذ الذى ظل يلح علىّ لمعرفة الدوافع كان يعرف أكثر، ولخص الدواء للداء فى جملة جامعة مانعة وصمم على استكمال رسالته بإهداء كتبه لمن كفروه، لكننا فيما يبدو لم نستمع جيدًا لنصيحة نجيب محفوظ، فلم ينصلح حالنا من يومها.