الجمعة 14 مارس 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

حوار مع رجل شرطة روائى.. يورن لير هورست: الأساطير المصرية ثرية

يورن لير هورست
يورن لير هورست

- لم أستلهم «ويليام ويستنج» من «شيرلوك هولمز».. أنا أكثر واقعية

- «ويليام ويستنج» محقق تقليدى لن يعتمد على «الذكاء الاصطناعى»

- وجودى فى معرض القاهرة الدولى للكتاب «شرف» و«فرصة مُمتن لها»

عندما يصبح العمل اليومى لضابط الشرطة أكثر من مجرد تحقيق فى جرائم واقعية، وعندما تتداخل الحدود بين الواقع والخيال، يبدأ السؤال: هل الجريمة دائمًا كما نراها؟

سؤال رئيسى يحاول الروائى النرويجى يورن لير هورست الإجابة عنه، فى أعماله الروائية المختلفة، خاصة خلال سلسلته الروائية الشهيرة المعتمدة على شخصية «المحقق ويليام ويستنج»، والتى تحولت إلى مسلسل تليفزيونى حاز شعبية كبيرة فى 2019، خاصة على ضوء تجربته فى العمل كمحقق شرطى لسنوات.

فى الحوار التالى، تحاور «حرف» الروائى النرويجى، الذى يعتبر أشهر كُتّاب أدب الجريمة الاسكندنافى، عن كيفية استفادته من عمله كشرطى فى أعماله الأدبية، وتفاصيل أشهر هذه الأعمال، وإذا ما كان يمكنه كتابة عمل مستوحى من الأساطير المصرية أم لا. 

■ تتمحور كل أعمالك تقريبًا حول الجريمة.. هل تعتمد على أحداث حقيقية فى ضوء عملك السابق كضابط شرطة؟

- شكلت خبرتى ككبير محققين فى الشرطة أساسًا نهجيًا فى كتابة روايات الجريمة. ورغم أن الحبكات خيالية، تنبض بالصدق المُستمَد من التجارب الواقعية. فخلال سنوات عملى، دخلت الأماكن المحظورة على عامة الناس، ووصلت إلى مسارح الجريمة، وتعاملت مع مرتكبى الجرائم وضحاياها. هذه المواجهات علمتنى الكثير عن طبيعة البشر وأحاسيسهم، والنسيج الاجتماعى الذى تمزقه الجريمة.

وبدلًا من إعادة سرد القضايا الحقيقية، أنا أستلهم روح تلك التجارب. دخول غرف تحمل قصصًا صامتة، مواجهة حزن طاغٍ أو ندم عميق، وفهم تعقيدات النفس الإجرامية. هذا الإدراك أتاح لى تقديم روايات تتصل بالقراء بعمق، وتمنحهم إحساسًا بالمصداقية يعكس واقع الجريمة وتأثيراتها الإنسانية.

■ لك روايات مسلسلة تعتمد على شخصية «المحقق ويليام ويستنج» الذى يحقق فى جرائم عدة.. يشبه ذلك حكايات «شيرلوك هولمز» لآرثر كونان دويل.. فهل تأثرت به؟

- رغم إعجابى الكبير بآرثر كونان دويل وقصصه الأيقونية عن «شيرلوك هولمز»، ابتكارى لشخصية متسلسلة مثل «ويليام ويستنج» لم يكن مستوحىً بشكل مباشر من «شيرلوك»، بل انبثق من رغبتى فى استكشاف رحلة تطور المحقق نفسه على مر الزمن، ليس من خلال أساليبه فى حل الجرائم فقط، بل أيضًا عبر تأثير تلك الجرائم على شخصيته وحياته كإنسان.

«شيرلوك هولمز» شخصية بارزة ومؤثرة فى أدب الجريمة، رمز للعبقرية والتحليل. لكننى أردت أن يكون «ويستنج» شيئًا مختلفًا، محققًا واقعيًا مُستلهَم من ضباط الشرطة الذين عملت معهم. هو ليس عبقريًا منعزلًا، بل جزء من فريق، يواجه تحديات وقلقًا يشبه ما يمر به المحققون فى الواقع. تحقيقاته مرتبطة بحياته اليومية وأسرته وعلاقاته.

وما جذبنى لفكرة الشخصية المتسلسلة أو المتكررة هو أن الفرصة أكبر لنسج قصص أعمق. مع كل رواية، يمكن للقراء رؤية «ويستنج» وهو يواجه قضايا جديدة، وفى الوقت ذاته متابعة كيف تؤثر هذه التجارب على حياته المهنية والشخصية. الهدف لم يكن اتباع نمط تقليدى، بل تقديم شخصية تبدو واقعية وقريبة من القارئ، شخصية تنمو وتتطور معه عبر الزمن. أعتقد أن هذا التواصل العميق هو ما يمنح الروايات المُسلسلة جاذبيتها الخاصة.

■ هل ساعدتك مهارات التحليل والاستنتاج من عملك كشرطى فى تطوير حبكات معقدة لرواياتك؟

- عملى كمحقق شرطة أثّر بشكل كبير على الطريقة التى أصيغ بها الحبكات المعقدة فى رواياتى. فعمل الشرطة يتطلب مهارات تحليلية واستنتاجية قوية لجمع الأدلة وفهم السلوك البشرى، فى ظل ظروف صعبة غالبًا.

هذا الأسلوب المنهجى ينعكس على أسلوبى فى الكتابة، ويساعدنى على تقديم سرديات دقيقة وواقعية. وتمامًا كما التحقيقات، تكون حبكات رواياتى مُرتبة بعناية. لكنها تأخذ أحيانًا منعطفات غير متوقعة مع تطور القصة.

تساعدنى هذه المهارات على بناء قصص متقنة ومقنعة، ما يضفى عليها طابعًا من المصداقية يجعل القضايا الخيالية تبدو نابضة بتعقيد الحياة الواقعية، وهو ما يلقى صدى لدى القراء.

■ استضافك معرض القاهرة الدولى للكتاب.. وتُرجمت لك «جريمة رأس السنة» و«موت مستحق» إلى اللغة العربية.. هل يمكن أن تفكر فى كتابة عمل جديد مستوحى مثلًا من الأساطير المصرية؟

- كان شرفًا لى أن أكون ضيفًا فى معرض القاهرة للكتاب، وأنا ممتن جدًا لهذه الفرصة للتواصل مع القراء الناطقين بالعربية. رغم أن الأساطير المصرية غنية ومثيرة، أعتقد أن قوتى تكمن فى استكشاف الـ«Nordic noir» أو «أدب الجريمة الإسكندنافى»، والأجواء الفريدة لبلدان الشمال الأوروبى.

قصصى متجذرة بعمق فى بيئات وثقافات الشمال الأوروبى، التى أعتقد أنها توفر تباينًا جذابًا، وتلفت انتباه القراء فى مناطق أخرى من العالم، بما فى ذلك العالم العربى. لذا، فى الوقت الحالى، سأستمر فى التركيز على هذه النوعية.

■ من أشهر رواياتك «The Hunting Dogs» أو «كلاب الصيد» التى تجعل المحقق موضع اتهام، كيف صغت شخصية «ويليام ويستنج» فى هذا الموقف الصعب؟

- قصة «كلاب الصيد» مستوحاة من تجربتى الشخصية التى منحتنى منظورًا فريدًا لما يعنيه أن تكون خاضعًا للتحقيق. مثل «ويستنج»، وجدت نفسى ذات يوم متهمًا وخاضعًا لتحقيق. ورغم أننى بُرّأت من كل التهم فى النهاية، سمحت لى هذه التجربة بالغوص فى شعور الضعف والعزلة لشخص كان فى العادة على الجانب الآخر للتحقيق.

من خلال «ويستنج»، أردت استكشاف التأثير العاطفى والمهنى الذى يمكن أن تتركه مثل هذه الاتهامات، مع تسليط الضوء على أهمية الحفاظ على النزاهة والتركيز تحت الضغط. الكتابة بناءً على تجربتى الشخصية أضفت مصداقية لتحديات «ويستنج» وأعطت عمقًا لاستكشاف العدالة وأدلة البراءة.

■ هل تعتقد أن الجمهور يتفاعل بشكل أفضل مع الروايات التى تعكس تجارب حقيقية؟

- نعم، أعتقد أن الجمهور يتفاعل بشكل أعمق مع الروايات التى تعكس تجارب حقيقية. فالقصص التى تستند إلى الواقعية تسهل على القراء الانغماس فى الأحداث، وتصبح التفاصيل والمشاعر فيها أكثر صدقًا.

بالنسبة لى، دمج تجاربى كضابط شرطة يضيف بُعدًا واقعيًا إلى كتبى، ما يساعد القراء على الشعور وكأنهم يعيشون مع الشخصيات. هذا الاتصال يجعل القصة أكثر جذبًا ولا تُنسى، من خلال خلق جسر بين الخيال والواقع.

■ من خلال قصة محزنة عن جثة لم يفتقدها أحد، جمعت فى «The Caveman» أو «إنسان الكهف» بين الجريمة والتأمل فى القضايا الإنسانية، وتحديدًا عزلة الإنسان المعاصر.. كيف وفقت بينهما؟

- فى «إنسان الكهف» كنت أرغب فى استكشاف ليس فقط لغز الجريمة، بل القصة الإنسانية الأعمق وراء هذه الجريمة. قضية جثة لا يفتقدها أحد. للأسف، هذا يمثل نوعًا من العزلة الموجودة حتى فى المجتمعات المتقدمة فى دول أوروبا. رغم وجود شبكات الأمان الاجتماعى، تُبرز مثل هذه القصص كيف أن هناك أشخاصًا يعانون أو يختفون حتى دون أن يلاحظهم أحد.

ودمج الجريمة مع التأمل يتطلب معالجة السرد بطريقة عاطفية. فبينما تدفع الجريمة حبكة الرواية، يعكس البُعد العاطفى المرتبط بحياة الضحية التى لم يلاحظها أحد وفاتها واقعًا مريرًا، وهو العزلة والوحدة فى مجتمع يفخر بترابطه واهتمامه. هذا التوازن بين الغموض والتأمل يجعل الرواية ليست مجرد لغز مثير، بل أيضًا تأملًا مؤثرًا فى تناقضات الحياة الحديثة فى دول الشمال الأوروبى، ما يثير تفاعل القراء على مستويات مختلفة.

■ تجمع رواية «Dregs» أو «بقايا» بين عنصرى الإثارة والتحليل النفسى. هل يمكن أن نعتبرها نقطة تحول فى مسيرتك المهنية؟

- أنتِ مُحقة. رواية «بقايا» بها عمق نفسى أكبر مقارنةً بكتبى السابقة، سواء بالنسبة لشخصية «ويليام ويستنج» أو لى ككاتب. الهدف من «بقايا» كان كتابة قصة لا تقتصر على الجريمة فقط، بل أيضًا على طبيعة العقاب وعواقبه. من خلال زياراتى المتعددة للسجون، فكرت فى التناقض بين مبادئ المجتمعات التى تهدف إلى مساعدة المحتاجين، وفى نفس الوقت تختار عمدًا إلحاق الألم والمعاناة من خلال السجن. والأكثر إثارة للانتباه هو كيف يؤثر العقاب على المسجون أو من حوله. فى «بقايا»، يواجه «ويستنج» تحديات أخلاقية ونفسية لفهم جذور وعواقب الجريمة.

■ واصلت دمج السرد النفسى والعلمى والتشويق فى رواية «The Inner Darkness» أو «الظلام الداخلى».. هل تعتقد أن الظلام الداخلى فى الشخصيات، سواء القاتل أو المحقق، يمثل تأثيرات المجتمع، أم هو نتيجة لصراعات نفسية فردية؟

- تتناول «الظلام الداخلى» مفهوم الشر، إرادة إلحاق الأذى والمعاناة بالآخرين. طوال عملى كمحقق شرطة، نادرًا ما قابلت أشخاصًا شريرين بطبعهم. بينما التقيت بالكثيرين ممن ارتكبوا أفعالًا شريرة، والقليل منهم فقط تعمدوا أذية الآخرين. 

كمحقق، كان دورى الأساسى هو حل القضايا، وتقديم إجابات للمعنيين بالقضية، وضمان تحقيق العدالة. وأحيانًا، كنت أسعى للتعمق أكثر لفهم أصل هذا الظلام. ومع ذلك، لم أتوصّل إلى إجابة حاسمة بخصوص ما إذا كان الشر ينشأ من تأثيرات اجتماعية أو نتيجة لصراعات نفسية فردية.

لكننى توصلت إلى قبول أن الشر شىء لا يمكننا فهمه بالكامل. ومن هنا، لا يمكننا حقًا تفاديه أو التحكم فيه أو منع حدوثه. كانت تلك الحقيقة المقلقة هى الأساس الذى بنيت عليه رواية «الظلام الداخلى»، ما يجعلها أكثر روايات «ويستنج» ظلامًا حتى الآن.

■ فى روايتك الأخيرة «Snow Fall» أو «سقوط الثلج»، استخدمت الوصف المكثف للأماكن وظروف الطقس. هل كان لذلك تأثير فى تطور الحبكة والشخصيات؟

- نحن محاطون، فى النرويج، بتقلبات الطقس والطبيعة الوعرة، من الشتاء القاسى إلى الصيف القصير. هذه العناصر ليست مجرد خلفية، بل مؤثرة فى حياة الناس وتفكيرهم وردود فعلهم. والشخصيات فى كل رواياتى تتشكل بناءً على بيئتها، ما يعكس الصلابة والقدرة على التكيف اللازمتين للتعامل مع تحديات الطبيعة.

كما أن الطقس والمناظر الطبيعية يضيفان أبعادًا للقصة، ما يخلق جوًا من التوتر ولحظات تأمل. وكثيرًا ما تعكس الظروف المتغيرة المشاعر الداخلية للشخصيات، لتصبح جزءًا لا يتجزأ من السرد. بالنسبة لى، فإن التفاعل بين الناس وبيئتهم أمر أساسى لإحياء القصة وربطها بتجربة الشمال «الأوروبى». 

■ هل سيحل الذكاء الاصطناعى إحدى جرائم المحقق «ويليام ويستنج» ذات يوم فى إحدى رواياتك؟

- العديد من الكُتّاب قلقون من الذكاء الاصطناعى لأسباب متعددة. لكن فى الواقع، هذه الآلات تفعل ما كان البشر يفعلونه دائمًا. هى تقرأ وتتعلم، وتتكيف بناءً على المعرفة المتوافرة. هذه العملية شيّقة، وربما تكون مقلقة أيضًا.

من منظور إنفاذ القانون، يمكن أن يكون الذكاء الاصطناعى أداة قوية جدًا فى التحقيقات الجنائية. فهو قادر على تحليل كميات هائلة من البيانات، والتعرف على الأنماط، ما يساعد فى تتبع اتجاهات الجريمة المنظمة مثلًا، والأنشطة غير القانونية الأخرى. ورغم أنه لا يزال فى مراحله الأولى، الذكاء الاصطناعى قادر على تحسين الكفاءة والدقة لأنظمة العدالة الجنائية.

على مر القرون، سعت البشرية لاستخدام التكنولوجيا لأنها أسرع وأكثر كفاءة، وهذه الجهود لا تزال مستمرة اليوم مع الذكاء الاصطناعى، الذى يعمل على تحسين معالجة كميات ضخمة من المعلومات. ومع ذلك، فإن «ويليام ويستنج» محقق تقليدى عجوز يعتمد على الحدس والخبرة. وعلى الرغم من أن الذكاء الاصطناعى قد يدعم تحقيقاته، فإن من الصعب تخيله وهو يتبناه بالكامل.