الروائى التونسى كمال الرياحى: الرواية تموت لأن «الكل يكتبها»
- الرواية تعانى من استسهال مخيف و«الردىء» هو الأكثر شهرة
- لا توجد شخصيات منبثقة من خيال خالص حتى فى السيرة الذاتية
- تأثر كُتّاب روايات الرعب بقراءاتهم فى الطفولة وراء انتشارها الكبير
منذ بداياته الأولى، عُرف الروائى التونسى كمال الرياحى بأفكاره التى تُخرج القارئ من دائرة الراحة كمتلقى إلى رحابة التفكير النقدى، بعد الدخول إلى عوالمه الروائية التى تقلب الموازين، وتُثير الكثير من الأسئلة الصادمة والأفكار المزعزعة لليقين.
ولـ«الرياحى» مشروع ثقافى متكامل يحمل اسم «بيت الخيال»، يمتد تأثيره من بلده تونس، مرورًا بأقطارنا العربية كافة، مع تركيزه الحالى المهم على المشهد الإبداعى العربى فى بلاد المهجر، وخاصة كندا، أو أمريكا الشمالية بصفة عامة.
عن أعماله الأدبية، وأفكاره المثيرة للتأمل والصدمات والخروج من الآفاق الضيقة، إلى جانب رؤيته للمشهد الروائى العربى فى الوقت الحالى، يدور حوار «حرف» التالى مع الروائى التونسى كمال الرياحى.
■ «بيت الخيال» واحد من المشروعات الثقافية العربية الأكثر إبهارًا.. كيف تختار الكُتّاب أو المبدعين الذين يستضيفهم؟
- «بيت الخيال» مشروع ثقافى أكبر من استضافة الكتاب فقط. نشأ المشروع فى تونس كأكاديمية صغيرة للكتابة، ومنه ظهر «بيت الرواية»، وهو أول بيت للرواية فى العالم العربى، أسسته سنة ٢٠١٨ فى مدينة الثقافة.
من «بيت الرواية» نشأ برنامج ثقافى تليفزيونى فى القناة التونسية الأولى باسم «بيت الخيال»، وحقق نجاحًا كبيرًا فى طرح مواضيع ثقافية جريئة لمدة سنوات، يدعو إليها الفنانين والكُتّاب والمفكرين العرب، مع حصوله على جائزة «أكاديميا» لحرية التعبير كأفضل برنامج ثقافى فى التليفزيون التونسى.
من ذات المشروع أطلقت مشروعًا خيريًا لزراعة المكتبات فى المدارس الريفية بتونس، تحت اسم «مكتبات الخيال»، وهو مستمر إلى الآن، وأتبرع بعائدات كتبى من أجل استمراره، مع مساهمة عدد من الأصدقاء فى استمراره بعملهم الدءوب، حتى لا يمر عام دون أن نؤسس مكتبات جديدة.
ومن «بيت الخيال» أيضًا ظهر برنامج «انحياز» الإذاعى، الذى كنت أقدمه فى إذاعة تونس الثقافية. وعندما وصلت كندا سنة ٢٠٢١، بدأت أعد العدة لإطلاق نسخته الكندية، وفعلًا أطلقته سنة ٢٠٢٣ فى تورنتو، بالتعاون مع مكتبة «يونيك بوكس». فى بدايته كان صالونًا ثقافيًا، ثم أطلقت نسخته الرسمية كمركز ومؤسسة ثقافية غير ربحية تعنى بتنظيم التظاهرات الثقافية، والتكوين فى الصحافة الثقافية والكتابة الإبداعية.
وسبق أن نظمت «اليوم العربى» فى مهرجان تورنتو الدولى للمؤلفين، وهى المشاركة العربية الأولى منذ إطلاق المهرجان قبل ٤٠ عامًا. ومنذ سنوات، تستمر وِرش الكتابة التى أُشرف عليها عبر الإنترنت «online»، ليكون المركز الثقافى جسرًا بين المبدعين العرب فى كندا والعالم العربى، مع إدارة وِرش لكتابة السيناريو، بالتعاون مع مهرجان الفيلم العربى فى تورنتو.
إذن، «بيت الخيال» أكبر من مجرد استضافة كُتّاب، بل هو مشروع ثقافى يعنى بإنتاج المعنى والإبداع، وتثمينه فى كل الميادين، فى الآداب والفنون، لذا المقياس الأساسى لنا فى دعوة أى ضيف هو الإبداع والقيمة الإبداعية التى يقدمها، والإضافة المعرفية.
ويركز المركز الثقافى، الذى تترأسه زوجتى وشريكتى الإعلامية ناديا المصرى، وأديره أنا، أساسًا على تثمين الصوت العربى الثقافى فى أمريكا الشمالية، وتمكينه من الوصول إلى الجمهور العربى فى كندا والكنديين، وكذلك إلى العالم العربى، عبر عملنا فى الصحافة الثقافية العربية، لتعريف الجمهور العربى بما يحدث هنا فى كندا من نشاط ثقافى.
■ كتابك الجديد الصادر مؤخرًا يحمل عنوان «الرواية تموت أم تترنح؟».. لماذا هذه الفرضية، رغم أن كثيرين يرون أن الرواية هى «ديوان العرب الجديد»، والكل الآن يكتب الرواية؟
- سأنطلق من عبارتك الأخيرة: «الكل يكتب الرواية». هذا سبب للتفكير فى «موت» الرواية، فالشىء الذى يقوم به الجميع لا يعود له معنى. غير أن واقع الرواية اليوم يعكس هذا «الاستسهال».
«الرواية تموت أم تترنح؟» عنوان فصل من فصول الكتاب، للتحذير من «خراب» الرواية. الرواية منذ قرن تموت وتُبعث من جديد فى أشكال جديدة. لكن ما تعيشه اليوم من استسهال مخيف يمثل خطرًا حقيقيًا على حياتها. وأقصد هنا الرواية الفنية، لأن الردىء منها صار الأشهر والأكثر تداولًا، ويُكرس يومًا بعد يوم. وهذا يعنى أن هذه الرواية الرديئة تأخذ تدريجيًا مكان الرواية الفنية.
الكتاب فى قسم منه يقرع جرس الإنذار لكى ننتبه إلى ضرورة التعامل مع الكتابة الروائية والكتابة بشكل عام بجدية أكثر. الصرخة موجهة لنا جميعًا، كُتّابًا ودور نشر وموزعين وصحافة ثقافية ونقادًا. يقول الكتاب علينا ألا ننساق وراء تكريس السطحى والمبتذل لتظل الرواية تطرح أسئلتنا، ولتظل عبارة عبدالرحمن منيف صالحة للمستقبل: «سيحتاج الإنسان العربى إلى قراءة الرواية العربية لكى يتعرف على تاريخه، لأن التاريخ الرسمى مزور».
■ فى كتابك «فن الرواية» تحدثت عن بناء الشخصيات. هل ترى أن الشخصيات يجب أن تكون دائمًا مستوحاة من الواقع، أم يمكن أن تكون خيالية بالكامل؟
- ليست هناك شخصيات منبثقة من خيال خالص، فحتى السيرة الذاتية لا يمكن أن تنتج بلا خيال وتخييل. والشخصيات القصصية والروائية انعكاس لواقع اجتماعى وتاريخى عبر التخييل. وكل الشخصيات الروائية العظيمة عبر تاريخ الرواية فى العالم كانت مستلهمة من شخصيات واقعية، من «دون كيخوته» إلى «لوليتا»، وكذلك شخصيات نجيب محفوظ كلها.
وفى الغرب نشأ فرع من النقد يتحرى فى أصول الشخصيات الروائية. وآخر ما قرأت كتاب جديد صدر منذ سنتين يبحث فى شخصية «لوليتا» الحقيقية، التى استلهم منها نابوكوف روايته. وحتى لو كانت الشخصية الروائية غير صحيحة بالكامل، فالروائى فى كل الحالات يقوم بعملية «مونتاج» لملامح شخوص التقطتها العين أو الأذن، لتكوين شخصيته الخيالية.
فى النهاية، كل الروائيين فى عملهم هم «الدكتور فرنكنشتاين» فى رواية «فرنكنشتاين» لمارى شيلى، الذى صنع وحشًا من النفايات. كذلك الروائى يصنع شخصيات من أجزاء من الشخوص التى عرفها واستحضرها عبر الذاكرة، إن كانت تلك الملامح جسمانية أو نفسية.
■ فى رأيك، ما الأسباب التى أدت لانتشار كل هذا الكم من روايات الرعب فى الكتابات العربية، حتى إن ثُلث عناوين الإصدارات الجديدة نحو عام ينتمى إلى هذا اللون؟
- أعتقد أنه التقليد يأتى أولًا، فالجيل الذى يكتب روايات الرعب هو جيل نشأ على سلاسل الرعب العربية، ولم يتخلص من تلك اللحظة الطفولية. أو هو يقلد الرواية الغربية التى لها سياقاتها الخاصة التى أنتجت ذلك الرعب.
فالرعب جزء من الثقافة الشعبية الغربية، وليس مجرد جنس أدبى. هناك احتفالات «الهالوين»، وهناك سينما الرعب ورموزها من «هيتشكوك» إلى اليوم. ولرواية الرعب تاريخ، منذ «دراكولا» لبرام ستوكر، و«فرانكشتاين» لمارى شيلى إلى أعمال ستيفن كينج.
أما رواية الرعب والرواية البوليسية العربية فهى ما زالت تجارب هشة، كما الرواية المصورة «الكوميكس»، تواجهها تحديات كبرى فى «الصنعة» والتلقى، نتيجة عدم وجود حاضنة ثقافية لها.
ربما تحتاج رواية الرعب العربية أن تتوغل فى تاريخنا العربى لتأصيل نفسها أولًا. ونجيب محفوظ كان قد أطل عليها دون أن يمارسها فى روايته «الحرافيش»، التى كان يمكن أن يذهب فيها إلى رواية الرعب، عند تناوله «الشدة المستنصرية». لكنه خيّر المعالجة الصوفية للرواية. ربما لأن الموضوع ما زال محظورًا.
■ هل ترى أن تحويل الرواية إلى عمل درامى أو سينمائى من أهم الأسباب التى جعلت أغلب إنتاجنا الأدبى من الرواية، مقارنة بالأجناس الأخرى؟
- لا أعتقد أن الروائى الحقيقى يفكر أثناء كتابته رواية فى تحويلها إلى الدراما أو السينما، لأنه سيكون لحظتها قد أخرج نفسه من الحالة الإبداعية الحقيقية، ومن هويته ككاتب صاحب هوية كاملة هى «الروائى» وليس «خادمًا لصناع السينما».
نجيب محفوظ كان يفصل بين عمله كسيناريست وكروائى. الواقع يقول إنه لا يُحَول من الرواية إلا عدد نادر إلى الدراما أو السينما. هذا حتى فى العالم. لهذا لا يمكن ربط التراكم الإنتاجى للرواية بالدراما أو السينما. لكن هذه الفنون الشعبية ليس لها نظير فى الكتابة إلا الرواية، باعتبارها فنونًا سردية تقوم على الحكاية، والإنسان بطبعه كائن سارد، ولا يمكن أن يعيش دون سرد، ولا يقدر على التعبير عن نفسه ووجوده دون أن يسرد، كما يقول الفيلسوف الفرنسى بول ريكور.
يبدو لى العكس تمامًا، أن التفكير فى السينما أثناء الكتابة الروائية يضعف من العمل الروائى، والمخرج الجيد لا يقبل الروايات التى كُتبت رأسًا للسينما، لأن دور «السيناريست» والمخرج فى الاقتباس يكون فى هذه الحالة قد اُنتهك.
الاقتباس الحر هو الاقتباس الحقيقى والذكى، الاقتباس الذى يأتى بجديد، ولا يردد النص الروائى كما هو. هذا قام به ستانلى كوبريك مثلًا مع رواية «البرتقالة الآلية» أو رواية «شاينينج». لا يجب على الرواية أن تذهب إلى الفيلم صاغرة ذليلة متبرجة، بل على الفيلم أن يأتى إليها مغازلًا محاولًا.
■ هل تعتقد أن كتابة الرواية يجب أن تكون عملية موجهة وفقًا لقواعد محددة، أم أن لكل كاتب حرية التجريب والابتكار؟
- بحكم اشتغالى منذ سنوات عبر مختبر «بيت الخيال»، وتدريسى الكتابة الإبداعية، أعتقد أن الموهبة لا تكفى، ويحتاج الكاتب إلى التدريب والتعلم وتثقيف نفسه، سواء عبر وِرش الكتابة، أو قراءة النقد والتنظير الروائى، وهو فى كل الحالات سيكون فى مواجهة المحرر الأدبى مع دار النشر، إذا كانت الدار فعلًا دارًا.
أما مسألة التجريب، فعلى الكاتب أن يتحرك بكل حرية فى إنتاج نصه شكليًا مع الأخذ بعين الاعتبار الجنس الأدبى وضوابطه العامة، حتى لا يحوّل لعبة الشطرنج إلى لعبة كرة قدم.
كل رواية حقيقية رواية تجريبية، بمعنى أن كل رواية هى مغامرة فنية ولا تكتفى بسرد مغامرة. فإذا اكتفت بسرد مغامرة، دون أن نرصد لعبًا فنيًا، ومحاولة تجديد، عبر ما يسميه النقاد بالتجريب، فالرواية تتحول هنا إلى حكاية، وكلنا نملك حكايات وقادرين على سردها. لكن قيمة الروائى وفرادته أنه يروى نفس الحكايات بأشكال فنية وإبداعية مختلفة وفارقة.
■ كيف تنظر إلى الرواية التونسية والعربية اليوم؟ وهل تشعر بأن الأدب العربى قادر على مجاراة التحولات السريعة فى العالم؟
- من وجهة نظرى، ليست هناك رواية عربية ورواية تونسية ورواية مصرية ورواية خليجية. عندنا روايات وتجارب كُتّاب، بعضها جيد وبعضها ردىء، كما قال أرنستو ساباتو ردًا على من سأله عن رواية أمريكا اللاتينية، لأننا ندور فى إنتاج منتج أصوله غربية أوروبية، ومن ثم فمعاييرنا عليها عالمية.
أحسب أن روايتنا نحن الناطقين بالعربية لم تحقق إلى الآن قفزتها الحقيقية، رغم حصول نجيب محفوظ على «نوبل». ما زال ما سميته بـ«الرواية العربية بعيدة عما حققته الرواية فى الهند مثلًا، أو الرواية فى اليابان. هناك مشاكل فى الصنعة تكاد تكون الجامع بين روايتنا فى كل أقطارنا العربية، نتيجة غياب ثقافة التدريب على الكتابة، وغياب تعليم الكتابة الإبداعية فى جامعاتنا، ونتيجة رؤيتنا للأدب، التى ما زالت رهينة الموهبة والإلهام وشياطين الشعر، وصورة نبوية للكاتب عليه أن يتخلص منها للالتحاق بالحرفيين والصُنّاع لكى يجوّد عمله وفق تصورات وضوابط الجنس الأدبى.
■ ما ذكرياتك مع القراءة فى سنوات عمرك الأولى؟
- كنت أقرأ على قنديل نفطى. غير أن أمى كانت تقطع على قراءتى للتحكم فى ثروتنا النفطية، وتطفئ القنديل فى قلب تعلقى بأحداث الرواية. كنت أصاب بإحباط شديد. لكن بعد أن تكررت تلك المعاناة، سحبت يومًا كَرّاسى، وبدأت أتخيل ما سيحدث فى الرواية التى كنت أقرأها. وهكذا أصبحت كل يوم أنتظر أمى لكى تطفئ على القنديل لأبدأ رحلة التخيل، وأكتب الأحداث على كَرّاسى، وأقارن بينها وبين ما كتبه الكاتب حقيقة من الغد، عندما أستعيد قراءة الرواية.