الأربعاء 18 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

نجيب محفوظ.. أيام الألم

الذين قتلوه.. وقائع تعذيب نجيب محفوظ على فراش المرض (2)

حرف

- كان يستحق أن نعامله بصورة أفضل مما حدث له لقد أهدرنا كرامته وهو على سرير المرض

- رفض نجيب محفوظ الطعام وكأنه كان يرسل بذلك إلى كل من حوله برسالة أنه خلاص لا يريد أن يستمر

- امتناعه عن الطعام أحدث له خللًا فى وظائف الكليتين

بعد أيام قليلة من وفاة نجيب محفوظ اتصلت بالكاتب والروائى يوسف القعيد، كنت أريد أن أعرف منه التفاصيل الأخيرة والدقيقة فى حياة نجيب محفوظ. 

كان هناك من يقول إن جثمانه تعرض لجهاز الكشف عن المفرقعات؛ وذلك تأمينًا للجنازة الرسمية التى سيشارك فيها الرئيس. 

استفز ما حدث كل من عرفوا نجيب واعتبروا ذلك إهانة له. 

لم أجد لدى «القعيد» إجابة واضحة، قال لى بصراحته المعهودة إنه لم يلازم نجيب محفوظ فى رحلته الأخيرة التى انتهت بالموت.. لكن كان إلى جواره محمد سلماوى الذى يمكن أن نعتبره أمين سر الأيام الأخيرة فى حياة محفوظ. 

فكرت أن أتحدث مع محمد سلماوى كاهن المعبد المحفوظى الكبير، لكنى تراجعت فى اللحظة الأخيرة خطوتين عندما عرفت أنه يُعد لكتاب يسجل فيه كل ما جرى، رجحت أنه سيرغب فى الاحتفاظ لنفسه بالسبق، فتحتَ يديه كنز ثمين، ليس للقارئ فى مصر فقط، ولكن للقارئ العالمى أيضًا، تركته مع أوراقه وذكرياته وانتظرت صدور الكتاب بفارغ الصبر، وعندما حصلت عليه أدركت منذ الوهلة الأولى أننى لست أمام كتاب عادى، لكننى أمام وثيقة مهمة من وثائق تاريخنا الحديث.

تسجل هذه الوثيقة عظمة نجيب محفوظ حتى اللحظة الأخيرة من حياته.

لكنها وياللأسف الشديد تدين كل الذين كانوا حوله، إن ما حدث للراحل الكبير كان عملية اغتيال كاملة، ويا ليته كان اغتيالًا رحيما، بل تم بمنتهى القسوة والعنف، الوحيدة التى كانت ترفض ما يحدث له كانت زوجته السيدة عطية الله. 

قالت للأطباء: دَعُوه وشأنه. 

كانت ترى زوجها أمامها يعانى ذروة الأمل، يرغب فى أن يمضى فى هدوء، لكنهم أذوه وقهروه وعذبوه، وما يزعجك أنهم كانوا يفعلون ذلك خادعين أنفسهم أنهم يفعلونه فى حب نجيب محفوظ.

أقدر لمحمد سلماوى مشاعره وعواطفه تجاه محفوظ الذى اجتباه إليه وقربه منه، لدرجة تشعر معها بأنه كان بالنسبة لمحفوظ الابن الذى لم ينجبه، لكن الابن ترك أباه بين يدى الأطباء يمزقونه ويعبثون بجسده، معذور.. كان يريد أن تمتد الحياة بأستاذه دون أن يقدر أن الرجل نفسه كان قد قرر الرحيل بعد أن أنهكته الدنيا وأرهقته وأخذت منه ما يزيد على حاجتها. 

لن تشغلنى هنا تفاصيل من زاره ومن وقف على بابه، من دعا له وتمنى له الشفاء، ومن رفع كفيه إلى السماء طالبًا له الرحمة، لكننى سأقف فقط عند تفاصيل عملية الإهانة والاغتيال التى تعرض لها نجيب محفوظ فى «المحطة الأخيرة» وهو العنوان الذى اختاره «سلماوى» لكتابه الوثيقة.

فى الصباح الباكر ليوم «أحد كئيب» تعثر نجيب محفوظ فى غرفة نومه ووقع على الأرض، فأصيب بجرح غائر فى مؤخرة رأسه، دخلت عليه ابنته الصغرى فاطمة فوجدته فاقدًا للوعى وينزف بشدة، ساعدها الحرس الخاص به وتم نقله على الفور إلى مستشفى الشرطة الملاصق لمنزله، حيث تم عمل بعض الغرز الجراحية لخياطة الجرح، وكان مقررًا له أن يغادر المستشفى خلال أيام قليلة. 

ما إن أفاق من العملية حتى وجد «سلماوى» أمامه فسأله: هو إيه اللى حصل؟ 

فشرح له أنه تعثر مثلما نتعثر جميعًا، وأنه جاء إلى المستشفى لعمل غرزتين وسيخرج خلال أيام. 

كانت تجلس معه فى الغرفة زوجته السيدة عطية الله، وكانت تقف إلى جوار سريره الممرضة هالة التى تعرف عليها الأستاذ على الفور، فقد كانت تتولى رعايته عندما دخل نفس المستشفى فى شتاء عام ١٩٩٤ على إثر محاولة اغتياله. 

حياها وقال: هو أنا فى مستشفى الشرطة؟ 

فقال له سلماوى: نعم.

فقال: وبتقول غرزتين. 

فرد سلماوى: نعم. 

فضحك محفوظ وقال له: لم أكن أعرف أن الشرطة أصبحت تسمح الآن بالغرز.

فضحك الجميع.. لكن ضحكته المجلجلة كانت هى الأعلى.

كانت هذه هى آخر قفشة وضحكة أطلقها نجيب محفوظ فقد استسلم بعد ذلك للألم. 

قرر الأطباء عمل أشعة مقطعية على رأسه ليتبين لهم إن كانت هناك أى آثار للواقعة، وجدوا أن كل شىء طبيعى، لكنهم رأوا أن يجروا أشعة ثانية بعد ٢٤ ساعة؛ فبعض الآثار التى يخشى منها على المخ قد تظهر بعد فترة. 

مضى اليوم الأول بالمستشفى هادئًا. 

بعد الظهر استيقظ وتناول غداءه الذى كان عبارة عن سمك، فقد كان السمك من وجباته المفضلة.

رأت السيدة عطية الله ألا يتعجلوا فى خروجه من المستشفى، فقد يكون من الأفضل أن يستمر فيه إلى أن يتم فك الغرز، فهو فى المستشفى يلقى عناية متخصصة لن تتوافر له فى البيت، كما أن السياج المنيع الذى وضع حول زيارته لن يتوافر له فى البيت إذا ما جاءه زائر بطلب مقابلته.

صباح الخميس تحسنت صحته، ذهب إليه وزير الصحة د. حاتم الجبلى وكشف عليه طويلًا، وبعد أن انتهى أعرب عن رأيه بأن الأستاذ ليس فى حاجة لأن يسافر إلى الخارج، يومها أيضًا كان مدير المستشفى يرى أن نجيب بإمكانه أن يخرج فى أى وقت يشاء، لكنه قال إننا نريد أن يكون قرار مغادرة المستشفى قراره هو وليس قرارنا، فنحن سعداء بوجوده ما دام يرى هو وأسرته أنه من الأفضل أن يبقى هنا.

ثم وقعت الواقعة.

دخل سلماوى على نجيب محفوظ غرفته فوجده نائمًا وعلى وجهه بعض الكدمات الواضحة، حاول أن يتحدث إليه لكنه لم يرد عليه، خرج مسرعًا إلى الأطباء ليسأل عما حدث، قابله طبيب كان قادمًا إلى الغرفة ليطمئن على الحرارة والضغط وبقية الفحوصات الدورية. 

قال الطبيب: لقد وقع ليلة أمس من السرير. 

سأله سلماوى.. وقع؟ كيف وقع؟

فرد عليه الطبيب: لم أكن موجودًا، لكنهم أخبرونا أنه وقع فى أثناء الليل من على السرير. 

دخل سلماوى بصحبة الطبيب إلى الغرفة، كان محفوظ لا يزال نائمًا وحوله الأجهزة الطبية التى تظهر عدد دقات القلب، ونسبة الأكسجين فى الدم وسرعة التنفس على شاشة معلقة فوق السرير.

قال سلماوى للطبيب: لم تكن تلك الأجهزة موجودة بالأمس. 

فقال له: لقد حولنا غرفته إلى غرفة للعناية المركزة حتى يتمتع بأكبر قدر من العناية.

كان قد مضى على دخول نجيب المستشفى نحو أسبوع، لكنه الآن لا يتحدث ولا يشعر بما يدور حوله.

بعد الظهر عاد سلماوى إلى المستشفى.

قال له الطبيب المعالج: لا شىء يدعو للانزعاج لقد أجرينا له أشعة مقطعية، «الوقعة» لم تؤثر على أى شىء.

صعد سلماوى إلى غرفته، كان لا يزال نائمًا، جلس مع السيدة عطية الله، كانت واجمة هى أيضًا لكن دون انزعاج. 

قالت لسلماوى: كان مستيقظًا منذ قليل. 

فسألها: هل تحدث؟ 

فقالت له: لم يقل الكثير.. رفض أن يأكل.. إنه تأثير المخدر كما يقول الأطباء.. حين يزول ستعود إليه شهيته.

استولى الصمت على الجلسة، كان نجيب يرفع يده بين الحين والآخر ويفتح فمه فيتصور سلماوى أنه استيقظ ويريد أن يقول شيئًا، لكن يده كانت تقع مرة أخرى ولا كلمات تخرج من فمه.

سأل سلماوى مرة ثانية: كيف وقع؟

فردت عطية الله: من على سريره العريض فى المنزل، فهو كما تعلم سرير مزدوج وليس سريرًا فرديًا مثل أسرة المستشفى. 

لاحظ سلماوى أنهم وضعوا له حواجز حديدية على جانبى السرير حتى لا يقع مرة ثانية. 

دخلت عليهم إحدى الممرضات، أخذت تتحدث إلى نجيب محفوظ بصوت عال، بدت وكأنها تحدث طفلًا: لازم نصحى بقى.. يالّا أُمَّال.. الدكتور قال لازم تقوم النهارده شوية من السرير. 

لم يستجب نجيب فلم يكن هناك طفل بالغرفة يرد عليها، رفعت الممرضة الجانب العلوى من السرير فوضعت الأستاذ فى وضع الجلوس، لكن لا استجابة.

قالت له: شوية كده وحاجيلك تانى.. وخرجت من الغرفة.

دخلت الغرفة فجأة مجموعة من الأطباء، ثلاثة أطباء وأتباعهم من الممرضين وإدارى المستشفى، صرخ كبيرهم: إزاى حضرتك دلوقت يا نجيب بك؟

كانوا يعلمون أنه يعانى ضعف السمع، لكن هذا الصراخ كان دائمًا يصل إليه صوتًا مشوشًا لا يسمع منه شيئًا، يجب أن يكون الحديث فى أذنه اليسرى حيث توجد السماعة، ويكون بصوت عال وواضح دون صراخ. 

فعل سلماوى هذا أمامهم دون أن يعلق على صراخ الطبيب لعلهم ينتبهون أو لعله هو ينتبه فيجيب عليه، لكن يبدو أنهم لم ينتبهوا ولا هو تنبه، فقط فتح عينيه ثم أغلقها ثانية، وكأنه لم يجد أمامه شيئًا يستحق النظر. 

قال لهم سلماوى: إن المدام قالت إنه كان متنبهًا منذ قليل، لكننى وجدته نائمًا فى الصباح والآن أيضًا. 

فقالوا له: لكننا نريد إفاقته. 

صرخ أحدهم من جديد دون أن يقترب من أذنه وقال له: الأستاذ سلماوى جالك أهه. ففتح عينيه مرة أخرى وأغمضها مثلما فعل فى المرة الأولى.

قال كبير الأطباء: ما دام يتجاوب فهذا جيد. 

ثم أخذ ينظر إلى الأرقام المتأرجحة على الشاشة التى تعلو السرير قائلًا: كويس كويس.

سأله سلماوى: كيف حاله. 

فرد: ليس هنالك ما يدعو للقلق، هو فقط فى حاجة إلى بعض الراحة ثم يعود كما كان، يجب أن نقلل من الزيارات قليلًا. 

فقالت زوجته: لا أحد يدخل عليه الغرفة إلا الأستاذ سلماوى والأستاذ الغيطانى والأستاذ القعيد، فهؤلاء أولاده كما يسميهم.

فقال الطبيب: هذا مفيد له نفسيًا.

ثم خرج وخرج خلفه بقية الذين كانوا يحيطون به، رفع نجيب يده اليسرى الممدودة إلى جواره على السرير فأخذتها ابنته دون أن تتكلم.

فى اليوم التالى عاد إلى نجيب محفوظ وعيه، كان فى بعض الأحيان يتحدث إلى من حوله، وفى أحيان أخرى كان يغيب عنهم كما كان وهو تحت تأثير المهدئ، أفاق قليلًا وتكلم، لكن لم يفهم أحد كلماته، كان صوته واضحًا لكن الكلمات لم تكن مفهومة، قالها ثانية فلم يفهمها أحد ولم يكررها، تكلم ثانية وكان كلامه هذه المرة مفهومًا. 

سأله سلماوى: إزيك يا أستاذ نجيب دلوقتى. 

فصمت قليلًا ثم قال له: ما أعرفش، إنت إللى تقولى.

فقال له: الدكاترة بيقولوا إنك زى الفل.

فابتسم لأول مرة دون أن يعلق. 

قال له: ألا تريد أن تأكل شيئًا؟ فأشار بيده: لا. 

فقال له: يقولون إنك لا تأكل على الإطلاق، والطعام هو الذى سيعيد الجسم إلى حالته الطبيعية. 

سكت محفوظ قليلًا، ثم قال: مفيش نِفس.

حاول سلماوى أن يتحدث إليه فى بعض الموضوعات، لكنه شعر بأنه يتحدث إلى نفسه، لا أحد يرد عليه وربما لا أحد يسمعه.

فى اليوم التالى وضعوا لنجيب محفوظ أنابيب المحاليل فى أوردة الرقبة، لأنه كان لا يزال ممتنعًا عن الأكل، كان أيضًا رافضًا مغادرة السرير منذ وقع من نومه.

جاءه الحلاق.

الطبيب قال إن ذلك قد ينعشه ويحسن حالته النفسية، ولكن الأستاذ رفض مغادرة السرير، فحلق له الحلاق ذقنه فى السرير، وقام بتصويره أيضًا، وبعد أيام نشرت بعض المجلات الصورة التى التقطها الحلاق وقد ظهرت فيها الكدمات على وجهه من تأثير الوقعة. 

كانت الصور لنجيب وهو بالبيجامة، ومكان الكدمات على جبهته وعلى خده الأيمن، المؤسف أن حالته النفسية التى كانت السبب فى زيارة الحلاق لم تتحسن.

امتناعه عن الطعام أحدث له خللًا فى وظائف الكليتين. 

دخل عليه الطبيب وسأل الممرضة: أخبار الإسهال إيه؟

فردت: أحسن قليلًا.

فسأل سلماوى: كيف يحدث له إسهال وهو لا يأكل.

فقال الطبيب: هناك خلل فى الجهاز الهضمى بشكل عام بسبب امتناعه عن الأكل.

وقال طبيب آخر: ربما يكون سبب الكميات الكبيرة من المضادات الحيوية التى نضعها له مع المحاليل. 

وفى مرة ثانية دخل سلماوى إلى الغرفة فوجدها باردة، وكان الأطباء مجتمعين حول سريره، كان يبدو متيقظًا، انتظر حتى انتهوا من كشفهم ثم سألهم عن حالته. 

قالوا: إن الحالة مستقرة، لكن الوقت ما زال مبكرًا لحدوث أى تقدم، ما زال يرفض الأكل لكنه شرب بعض الماء. 

سألهم عن الكليتين. 

فقالوا: أمكن السيطرة عليهما بعض الشىء لكن الطعام هو الذى سيساعد فى استعادتهما لوظائفهما، وكلما كان ذلك مبكرًا كان أفضل، فقد تم أخيرًا رصد زيادة فى حموضة الدم بسبب اختلال وظائف الكليتين.

دخل نجيب محفوظ إلى غرفة العناية المركزة، كان قد أصب بالتهاب رئوى حاد وانسداد فى الشعب الهوائية سبّبا له ضيقًا فى التنفس، وكان يجب أن يوضع على جهاز التنفس الصناعى. 

فى غرفة العناية المركزة أزاح طبيب العلاج الطبيعى عنه الملاءة التى تغطيه، وأخذ يثنى ساقه ثم يفردها وكأنها طلمبة ماء يدوية لا تستجيب لمحاولاته المتكرة بإخراج الماء من باطن الأرض. 

كان الأستاذ فى كل مرة يقول وهو ما زال محتفظًا بهدوئه: أرجوك.

أبعد نجيب يد الطبيب إلى الصدر، لكنه أخذ يخبط بيديه على مكان القلب وكأنه يريد تنشيطه حتى لا يتوقف.

فصاح فيه نجيب محفوظ: أرجوكم سيبونى بقى.. انتوا بتعملوا فىَّ كده ليه؟.

استمر الطبيب يضربه على جميع أجزاء جسمه ونجيب يتوسل إليه قائلًا: أرجوك كفاية.. لو سمحت كفاية كده.

فى الغرفة الباردة وضعوا قناع الأكسجين على وجهه، فمد يده وانتزعه من جديد، إن لديه انسدادًا فى الشعب الهوائية لأنه لا يسعل ولذلك فهو لا يطرد البلغم. 

قاموا قبل ذلك بشفط البلغم من صدره آليًا، قالوا إنها عملية مؤلمة للغاية ظل خلالها يرفع صوته بقوة قائلًا: يا رب.. يا رب. 

دخل الدكتور حسام موافى وقال: إن قناع الأكسجين أفضل من جهاز التنفس الصناعى، فهناك خطورة بأن تتعود الرئة على الجهاز فيصعب بعد ذلك فطامه عنه.

بعد أن خرج الدكتور حسام لاحظ أحد الممرضين أن فم نجيب فى حاجة إلى التنظيف، فحاول تنظيفه بعصا طبية صغيرة ملفوفة بالقطن من ذلك النوع الذى يستخدمه الأطباء، فأطبق الأستاذ فمه على الفور. 

وقالت الممرضة: إنه يظن أننا نحاول إدخال شفط البلغم إلى حلقه. 

سكت نجيب قليلًا وترك القناع موضوعًا على وجهه، لكنه بعد قليل مد يده من جديد وانتزع القناع، فقال الطبيب: اربطوا يده. 

قال سلماوى فى نفسه: اتركوه.. أرجوكم اتركوه.. دعوه يقاوم.. دعوه يتمسك بالحياة.. لا تكسروا إرادته.. لا تشعروه بأنه لم يعد المتحكم فى نفسه وفى مصيره. 

أتوا بشريط من الشاش وربطوا به يده فى الإطار الحديدى للسرير، ووضعوا قناع البلاستيك الشفاف على وجهه بإحكام أكبر هذه المرة، فلم تكن هناك أدنى مقاومة، حاول أن يرفع يده كى ينتزعه فلم يستطع، حاول أن يرفع يده المربوطة فى السرير فكانت ترتفع بضعة سنتيمترات فقط ثم تسقط إلى جانبه، حاول المرة تلو الأخرى بلا جدوى، فاستسلم أخيرًا ولم يرفعها ثانية. 

كان التوصيف لحالة نجيب محفوظ فى هذه اللحظة أنها حرجة.. لكنه ليس ميئوسًا منه.

ثم جاءت لحظة العذاب الأكبر.

كان سلماوى يجلس مع أسرة نجيب فى حجرة الاستراحة، دخل عليه د. حسام موافى، أخذه جانبًا. 

قال له: أنا فى حاجة إلى مساعدتك؟ 

فقال له: كيف؟ 

قال: حالة الأستاذ نجيب وصلت إلى مرحلة خطيرة؛ نظرًا لعدم تناول الطعام منذ ما يقرب من عشرة أيام، نحن نحاول مع الكليتين بقدر ما نستطيع لكن دون أن يعمل جهازه الهضمى، فتلك كلها محاولات يائسة؟ 

سأله سلماوى: كيف تريده أن يأكل وقد غاب الآن تمامًا عن الوعى؟

فرد حسام: هناك عملية جراحية بسيطة جدًا يمكن أن نجريها له فيما لا يزيد على ربع الساعة.

كانت العملية عبارة عن فتحة صغيرة فى المعدة، يدخل منه خرطوم يتم حقنه بالطعام من خلاله. 

قال سلماوى لموافى: لماذا لا يتم إدخال هذا الخرطوم عن طريق الأنف كما يحدث دائمًا بدلًا من تلك العملية الجراحية؟

فقال له: لقد حاولوا بالأمس عدة مرات لم يتمكنوا، فى كل مرة كانوا يحاولون إدخال الخرطوم كانوا يجرحونه وينزف؟

وأضاف الطبيب: إن حالته دون طعام تتدهور كل يوم، وليست هناك وسيلة أخرى أمامنا الآن إلا إذا أردنا أن نتركه يذهب منا بالتدريج ونحن نتفرج عليه.

فقال سلماوى بحسم: إذا كانت هذه هى الوسيلة الأخيرة فلنجربها.

رفضت السيدة عطية الله إجراء العملية، كانت تريد لزوجها ألا يتبهدل. 

حاول سلماوى إقناعها، انضمت إليه بناتها، اقتنعت على مضض. 

وخلال دقائق كان قد تم استدعاء الجراح الذى سيجرى العملية وإعداد غرفة العمليات الواقعة فى نفس دور غرفة العناية المركزة.

فور أن عاد نجيب إلى غرفته قام د. حسام موافى بالاطمئنان بنفسه على الخرطوم فرفع الملاءة من على جسد الأستاذ ونظر جيدًا إلى الخرطوم الذى يخرج من معدته، كان خرطومًا قطره لا يزيد على سنتيمتر واحد وينتهى بثلاث فتحات، وضع الدكتور فى اثنتين منها إمبول محلول صغيرًا مما يخلط بالأدوية لإعطاء الحقن فسدهما وترك الفتحة الوسطى كى تستخدم فى حقن الطعام عن طريق سرنجة.

كان يجب الانتظار ٢٤ ساعة قبل حقن الطعام حتى يلتئم الجرح.

سأل سلماوى: ماذا ستطعمونه؟ 

فقال موافى: فى البداية ربما بزبادى مخلوط بعسل النحل ثم بعد ذلك بكل شىء شريطة أن يهرس الطعام جيدًا فى الخلاط. 

قال سلماوى: إنه لم يكن يتناول السكريات على الإطلاق.

فرد الطبيب: العسل يحرقه الجسم بسرعة، ولا يبقى منه شىء، وسيكون هناك طبيب تغذية متخصص سيحدد الوجبات التى سيتم حقنه بها كل ساعتين.

كان من المنتظر أن تظهر آثار التغذية بعد عدة أيام، لكن قبل أن تظهر هذه الآثار، أصيب بنزيف فى القولون.

حاول الأطباء طول الليل إيقاف النزيف مستخدمين منظارًا داخل الأمعاء حتى تمكنوا من كَى موضع النزيف.

لقد رفض نجيب محفوظ الطعام، وكأنه كان يرسل بذلك إلى كل من حوله برسالة أنه خلاص لا يريد أن يستمر. 

مات بعد كل هذا التعذيب، وكل هذا الألم، وكل هذا الانتهاك.

أفاض سلماوى فى الحديث عن جنازة نجيب محفوظ الرسمية ووقوفه على غسله ولحظات الوداع. 

لكننى توقفت عند ما قاله بالنص... 

كتب: اتصل بى الناشر الأمريكى «سيدنى شيف»، وفى صوته نبرة غضب وألم قائلًا: كيف تسمحون بأن يصل نجيب محفوظ إلى هذه الحال؟ كان «شيف» قد علم من بعض الصحف فى الولايات المتحدة أن الحالة الصحية للأديب المصرى الكبير تتدهور منذ أن دخل المستشفى، وأنه الآن فى حالة «كوما كاملة»، لا يعى أى شىء مما حوله. 

قلت له: الحالة ليست بهذا السوء وهو ليس فى «كوما» إنما حالة الوعى غير مستقرة، هذا كل ما فى الأمر.

قال: لماذا لا يأتى إلى الولايات المتحدة؟ إن نجيب محفوظ قيمة إنسانية كبيرة ولدينا هنا أفضل ما وصل إليه الطب. 

قلت: لقد طرحت بالفعل فكرة السفر إلى الخارج، لكن الأطباء وجدوا أنه لا يعانى مرضًا ليس له علاج فى مصر.

قال: إذن لماذا لا تعالجوه ما دام أنه علاجه موجود فى مصر؟ لماذا تتدهور صحته؟ ثم قال: إننى أتحدث نيابة عن عدد كبير من الناشرين الذين يشعرون حقًا بالقلق، وواصل قائلًا: إن محفوظ عبقرية إنسانية لن تتكرر، وستنتظرون عدة عقود قبل أن يجيئكم محفوظ آخر فى العالم العربى. 

قلت له: ادع معنا يا سيدى أن يقوم من وعكته هذه بالسلامة. 

فقال لى: إنه بحاجة لأكثر من مجرد الدعاء.. ونحن نحملكم المسئولية.

لم يع سلماوى ما قاله له الناشر الأمريكى، لا أقول إن نجيب كان يمكن أن يعيش أكثر من ذلك، لكنه على الأقل كان يستحق أن نعامله بصورة أفضل مما حدث له، لقد أهدرنا كرامته وهو على سرير المرض، قتلناه، اشترك فى ذلك أطباؤه وأصدقاؤه وأسرته، وكل ما استطاع سلماوى أن يفعله هو أن يسجل هذه التفاصيل المؤلمة بعينين دامعتين.