الجمعة 18 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

أسئلة «نوبل» و«قِلــة» الأدب العــربى

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

- إحصائية بريطانية: فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل رفع الاهتمام بترجمة الأعمال العربية.. ومجمل الأعمال المترجمة فى 5 سنوات لا يزيد على 252 عملًا من 22 دولة

- الجوائز العربية لا تملك شهرة عالمية ولا قاعدة شعبية لها ولا تشجع القارئ الغربى على شراء أعمال الفائزين بها

- كيف اختصرنا توفيق الحكيم بكل بهائه وكتاباته ولم يبق منه سوى الحديث عن بخله وعدائه للنساء؟!

- أعمال نوال السعداوى وإلياس خورى المترجمة تحقق مبيعات عالية دون أن ينالا أى جوائز عربية

- ماذا أفدنا من مسرح محمود دياب ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم وكم مرة أنتجنا عروضًا عن نصوص أى من ثلاثتهم؟!

كالعادة، لم يمر الإعلان عن فوز الكورية الجنوبية هان كانج بجائزة نوبل للأدب 2024، دون ضجيج عربى يصب فى اتجاه واحد وحيد ومكرر، بشأن غياب الفائز العربى بالجائزة منذ نجيب محفوظ، وكالعادة تابعت ما كتبه الأصدقاء وغير الأصدقاء من الكتاب والمثقفين المصريين والعرب، بينما يتردد فى رأسى فى الخلفية سؤال.. وأين نحن من نجيب محفوظ؟! أين نحن من كل من فازوا بها من قبله ومن بعده؟! وممن سبقوه من مصريين إلى قوائم الترشيحات للفوز بالجائزة الأكبر عالميًا، وإن شابتها بعض الأخطاء، وأصابتها التحفظات فى مقتل، وإن عصفت بها مواقف حادت بها عما أنشئت من أجله، لكنها تظل الجائزة الأهم عالميًا، على الأقل فيما يخص الإبداع الأدبى والفنى؟!.. أين نحن من الدكتور طه حسين الذى قيل إنه نافس على الجائزة فى أربع عشرة دورة سابقة لفوز محفوظ بها، وكان الأقرب للفوز بها عام 1949؟! وهى المعلومة التى يذكرها الكاتب الكبير محمد سلماوى فى مذكراته «يومًا أو بعض يوم»، مضيفًا «لكن يبدو أن اللجنة كانت تحاول تقديم الجائزة للأديب الأمريكى وليام فوكنر، فاضطرت لتأجيلها لعام آخر حتى يتم ترشيحه ومن ثم إعلان فوزه، أو أنها رفضت فوز طه حسين نفسه بعد علمها أو توقعها فوزه بالتصويت من قائمة المرشحين»؟!

أين نحن من كتابات يحيى حقى الذى قيل إن نجيب محفوظ عندما علم بفوزه بنوبل، لم يخف شعوره بأحقية رواد الأدب العربى بها أكثر منه، وقال إن فى مقدمتهم يحيى حقى الذى قرر أن يهديه الجائزة، وأنه يشعر بالخجل لكونه نالها فى حياته، وهو صاحب الدور الأكبر فى التأسيس للقصة والرواية كنوع أدبى جديد؟!

ماذا أفدنا من مسرح محمود دياب ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم الذين وردت أسماء الأخيرين فى محاضر لجنة نوبل أكثر من مرة، ولا شك عندى فى أن مسرحهم يفوق الكثير مما كتب كبار المسرحيين حول العالم، من أبسن لبرانديلو وتنيسى ويليامز وتشيكوف؟!.. كم مرة أنتجنا عروضًا عن نصوص أى من ثلاثتهم؟! وما عدد طبعاتها العربية، وما حجم الإقبال عليها؟! كيف اختصرنا توفيق الحكيم بكل بهائه وروعة كتاباته ومواقفه، فلم يبق منه سوى الحديث عن بخله وعدائه للنساء وقليلٌ من الكلام عن كواليس السجال بينه وبين الداعية الإسلامى متولى الشعراوى بشأن مقالاته الأربع «حديث مع الله»؟!

ألفريد نوبل

هل لدينا كتابات يمكن اعتبارها أعمالًا عالمية تستحق أن يقرأها شاب فى قرية صينية أو لاتينية بعيدة، فيجد فيها متعته أو تفتح لديه آفاق التفكير فيما يدور داخل أعماقه من انفعالات ومشاعر ورغبات، فى حاضره أو مستقبله ومستقبل البشرية على سطح الأرض؟! فى أى شىء مما تنشغل البشرية به وبالتفكير فيه؟! فى طرق جديدة للتعبير والكتابة؟!

ماذا فعلنا لخدمة وتصدير مواهب كبيرة من نوعية فتحى إمبابى ومحمد المخزنجى، أو عبدالحكيم قاسم وصبرى موسى ونوال السعداوى وسعد الدين حسن؟! ماذا قدمنا للعالم بشأن قامات أدبية بحجم أحمد عبدالمعطى حجازى وعبدالرحمن منيف وأمين معلوف وخيرى شلبى وسليمان فياض وحلمى سالم؟! وكم من مواهب وقامات أدبية مصرية وعربية كبيرة أهدرت واستهلكت دون أن يعرف بها العالم من حولنا؟! وإن كنا نحن أصلًا لا نعرف بحجم تلك المواهب ولا نوفيها حق قدرها، فهل من معنى للحديث عن تجاهل الغرب لكل ما هو عربى، بينما حقيقة الأمر أننا نحن من نمارس أقسى درجات الإقصاء والإبعاد لكل موهبة حقيقية؟! وهل من المنطق أن يكون أشهر كتابنا ومفكرينا هم أردأ من يقترفون الشعر والقصة والرواية؟! هل من المنطق أن تكون نخبة مفكرى مصر والعالم العربى ومن يحتكرون الجوائز والحفلات والمهرجانات، ويحترفون الكلام عن الأديان والتاريخ والتنوير هم الأكثر تفاهة وضحالة وسماجة وسطحية؟! ومنهم المتهمون بالعمالة وبالضحالة، وبسرقة منتجاتهم، سواء من مخطوطات قديمة، أو أعمال فنية وأدبية غربية معاصرة؟!

«نوبل».. جائزة الندم الشخصى

لنبدأ أولًا من السؤال عما تبحث عنه جائزة نوبل وغيرها من الجوائز العالمية فيمن يفوزون بها؟ ما حيثيات إنشاء الجائزة ومبررات الفوز بها؟! وما آليات عملها؟!

هنا ثلاثة أسئلة رئيسية على الكاتب الطامح للفوز بالجائزة أن تكون لديه معرفة بها، وأن يقدم منتجه وفقًا لمعاييرها وآليات عملها، وإلا فما جدوى قراءاته أو لتفكيره فى احتراف الكتابة والعمل الثقافى؟!

للإجابة عن هذه التساؤلات، علينا أولًا أن نفهم أن الجائزة فى جوهرها هى جائزة ندم شخصى، أنشأها مؤسسها ألفريد نوبل لغسيل اسمه من الجرائم التى يرتكبها العالم يوميًا بسبب اختراعه «الديناميت»، المفجر الأقوى فى زمنه، وأوصى دون علم أسرته أو أصدقائه أو أى من معارفه بتخصيص معظم ثروته التى جناها من ذلك الاختراع للجائزة التى تمنح سنويًا فى ذكرى ميلاده، ولعله من المناسب أن أذكر هنا أن خطأ وقع فيه صحفى فرنسى ربما كان السبب المباشر فى تفكير ألفريد نوبل فى التأسيس لتلك الجائزة، إذ حدث أن توفى شقيقه لودفيج نوبل فى روسيا عام ١٩٨٨، وكان مخترعًا أيضًا ورجل صناعة، وكتب عنه صحفى فرنسى اختلط عليه الأمر مقالًا تحت عنوان «رحيل ملك الموت»، وقيل إنه بسبب تلك المقالة عاش بقية حياته يكره الصحفيين.. قبلها بسنوات غير قليلة اهتزت العاصمة السويدية ستوكهولم بفعل انفجار قوى داخل معمل عائلة نوبل، بسبب احتفاظه بنحو مائة كيلوجرام من مادة النيتروجلسرين سريعة الانفجار، وأدى الانفجار إلى مقتل ثمانية أشخاص من المتواجدين بالمعمل وقتها، من بينهم شقيقه الأصغر الذى لم يكن قد تجاوز العشرين من عمره، ونال ألفريد نوبل منها جروحًا عدة بالوجه.. هى إذن فى الأساس جائزة ندم شخصى جدًا، وهى لذلك تستهدف الانتصار للحياة، ولجميع القيم الإنسانية النبيلة والعليا.. وهى لذلك أيضًا جائزة دولية، لا محلية، تتصدر اهتماماتها الأفكار والمنجزات التى تستهدف تحسين حياة الإنسان فى مجملها، سواء انطلقت هذه الأفكار والتصورات أو بنيت على أرضية مُغرقة فى المحلية، أو أى صيغة أخرى.. وهى بعد ذلك جائزة يمنحها العالم الغربى المصاب فى نسبة غير قليلة من أفراده بالعنصرية، والتمييز، وليست الحرب العالمية الثانية ببعيدة حتى ننسى أنها قامت وفقًا لتصور عنصرى يمجد العرق الآرى.. فماذا فعلت لجان الجائزة طوال ١٢٣ عامًا للوصول إلى أهدافها وتحقيق ما أراد منشئها؟!

وربما يكون من المناسب أن أشير هنا إلى المقال الذى كتبه الشاعر الكبير إبراهيم داود قبل أيام بصحيفة «الأهرام»، والذى يبدأه بهذه الفقرة المهمة التى يقول فيها: «جميل أن تذهب جائزة نوبل هذا العام إلى سيدة تبلغ من العمر ٥٤ عامًا، وأن تكون من ثقافة لا نعرف الكثير عن الأدب فيها، كوريا الجنوبية فى السنوات الأخيرة برعت فى صناعة الدراما التليفزيونية، وباتت تنافس الهنود والمكسيك والأتراك فى العالم الثالث، وأيضا فى الموسيقى التى جذبت الأجيال الجديدة، ومثل كل عام، نقرأ ونسمع الكلام نفسه، عن المغزى السياسى وراء منح الجائزة، وعن غياب المعايير، وعن تجاهل الثقافة العربية رغم وفرة المبدعين الذين يستحقونها فيها، وما إلى ذلك، وربما يكون معظم ما يقال صحيحًا، ولكن يظل إعلان اسم جديد حاصل على الجائزة حدثًا ثقافيًا، شئنا أم أبينا».. ويختم داود مقاله بالتأكيد أن «فوز كاتبة من ثقافة لم تعبر عن نفسها كما ينبغى ثقافيًا، رغم التقدم الذى تشهده كوريا الجنوبية فى الصناعة والاقتصاد والتكنولوجيا، هو مكسب لكل الأطراف، حتى لو كان الغرب، الذى يمنح الجائزة، يكافئ حلفاءه، ولأنه من الوارد أن يظهر شخص طيب لديه ما يحكيه»..

يوسف إدريس

ما يهمنى هنا هو تلك العبارة: «يظل إعلان اسم جديد حاصل على الجائزة حدثًا ثقافيًا، شئنا أم أبينا»، فهذا بالضبط ما فعلته لجان الجائزة طوال تاريخها، رسخت لقيمة وأهمية ما تقدمه من أسماء وإن طالها الجدل، وأصبحت بمثابة مقدمة شديدة الأهمية لقراءة كل من يفوز بها عالميًا وإن حاصرتها اتهامات المجاملة والحسابات غير العادلة.. أخفقت بالطبع فى بعض الدورات، وخضعت لضغوط سياسية فى فترات أخرى، وطالتها الانتقادات الحادة فى كثير من الأحيان، تجاهلت، أو جهل أعضاؤها، قيمة كتاب كبار ومؤثرين فى تاريخ الأدب العالمى، بداية من تولستوى وإبسن وتشيكوف، ووصولًا إلى التشيكى الراحل ميلان كونديرا، وغيرهم كثيرون، لكنها بقيت البوابة الأكبر لأى كاتب أو أديب حول العالم للوصول بمنتجه إلى جميع أركان الكوكب، وأغلب ظنى أنه لكى نفهم ما تبحث عنه الجائزة فيما ينتجه كتابها، ربما يكون مفيدًا أن نقرأ مثلًا ما جاء فى حيثيات تتويج أحدث الفائزين بها، هان كانج، والتى تبدأ بالقول بأن قلمها «يتميز بسرد قصص شديدة الخصوصية، عالمية فى إنسانيتها»، ثم تتحدث عن «أسلوبها الشعرى المكثف الذى يواجه الصدمات التاريخية ويكشف عن هشاشة الحياة البشرية»، فيما يتحدث رئيس لجنة الجائزة عن «تعاطف هان الملموس مع حياة الضعفاء، والنساء فى كثير من الأحيان، يعززه نثرها المشحون بالاستعارات، إنها تتمتع بوعى فريد بالارتباطات بين الجسد والروح، والأحياء والأموات، وبأسلوبها الشعرى والتجريبى أصبحت مبتكرة فى النثر المعاصر»، وهى الحيثيات التى يمكن رؤيتها بصورة أدق إذا ما ركزنا على بعض العبارات الكاشفة: «عالمية إنسانيتها»، «هشاشة الحياة البشرية»، «التعاطف مع حياة الضعفاء»، «الأسلوب الشعرى المكثف الذى يواجه الصدمات التاريخية».. وإن لم تخنى الذاكرة، فذلك هو بالضبط، أو على وجه التقريب، ما قالت به حيثيات فوز كثيرين غيرها بذات الجائزة طوال سنوات منحها، ما يؤكد ما ذهبت إليه فى هذه الفقرة من حيث إنها بالفعل جائزة ندم شخصى، تبحث عن تكفير لخطيئة اختراع أحد أسلحة القتل الجماعى حول العالم.

اعترافات بالفشل.. واتهامات وشكوك وتسريبات

لكى نفهم حقيقة وصية مؤسس الجائزة، ربما يكون من المفيد أن أشير إلى ما كتبه الرئيس الأسبق لمجلس السلام النرويجى، المسئول عن اختيار الفائز بجائزة نوبل للسلام، فريدريك ستانج هيفرميهل عام ٢٠٠٨، فى كتابه «جائزة نوبل.. ما كان يريده نوبل فى الحقيقة» بشأن فشله فى منح جائزة السلام لمردخاى فعانونو رغم أنه رشحه بنفسه ١٨ مرة، وهو فنى نووى إسرائيلى سابق وناشط سلام، يُعرف أيضًا باسم جون كروسمان، واشتهر لكشفه عن تفاصيل برنامج الأسلحة النووية الإسرائيلى للصحافة البريطانية عام ١٩٨٦ كونه معارضًا لأسلحة الدمار الشامل، فتم استدراجه إلى إيطاليا من قبل وكالة المخابرات الإسرائيلية «الموساد»، حيث تم تخديره وخطفه، ونقله سرًا إلى إسرائيل حيث أدين فى محاكمة عُقدت خلف أبواب مغلقة.. واتهم هيفرميهل الحكومة النرويجية بالمسئولية عن هذا البرنامج، وقال: «لقد فشلتم، ولم تحقق إرادة ألفريد نوبل فى السلام، ويكفى أن ٤٥٪ من جوائز السلام منذ ١٩٤٥ ليست لها شرعية قانونية»، موضحًا أن حصول هنرى كسينجر ولى دوك ثو عام ١٩٧٣، وعرفات وبيريز ورابين عام ١٩٩٤، والأم تريزا ١٩٧٩، غير قانونية وخرجت عن نطاق المعايير المحددة للفائزين، كما لم يكن يجوز منحها لآل جور ولا محمد يونس ولا انجارى ماثاى، أو الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أو منظمة العفو الدولية وأطباء بلا حدود، ويذهب الناقد الأمريكى بروتون فيلدمان فى كتابه «جائزة نوبل.. تاريخ العبقرية والجدال والحظوة» إلى أن «الجائزة تُرى على نطاق واسع كجائزة سياسية، أى جائزة نوبل للسلام متنكرة فى قناع أدبى»، وفى كتابه «١١٤ نوبل.. شىء من العنصرية» يقول الكاتب الصحفى محمد عبدالسلام: «من بين الأعضاء الثمانية عشرة للجنة نوبل للأدب، يوجد عدد قليل يقرأ الرواية أو الشعر، كما أن أعضاء اللجنة المسئولة عنها أساتذة فى جميع المجالات إلا الأدب، ومتوسط أعمارهم سبعين سنة، ولا يمكن استبدالهم إلا بالموت»، وكانت المرة الوحيدة التى تنحى فيها أعضاء من مجلس الأكاديمية السويدية عام ٢٠١٨، بسبب فضيحة جنسية ومالية، وتأجل بسببها الإعلان عن الفائزة بجائزة نوبل للأدب إلى العام التالى، حيث صرح رئيس لجنة جائزة نوبل للآداب أندريس أولسون بأن الجائزة يتوقع أن تكون أكثر تنوعًا، وتراعى التوازن بين الجنسين، بالإضافة إلى تجنب «مركزية أوروبا» التى هيمنت سابقًا، وإن معايير الجائزة تغيرت لتصبح أكثر اتساعًا وشمولية، وهى التصريحات التى ربما كانت ردًا على ما قاله السكرتير السابق للأكاديمية السويدية هوراس إنجدل عام ٢٠٠٩، والتى قال فيها أن «أوروبا لا تزال مركز العالم الأدبى»، وأن «الولايات المتحدة معزولة للغاية، ولا تترجم بشكل كافٍ، ولا تشارك حقًا فى الحوار الكبير للأدب».

ولأن أعضاء لجنة تحكيم نوبل يقرأون الأعمال الأدبية المرشحة لنيل الجائزة بعدد محدود من اللغات، كلغات الشمال الأوروبى، إلى جانب اللغات الفرنسية والألمانية والإنجليزية والإسبانية، سيطرت تلك اللغات على جوائز الأدب لمدة ثلاثين عامًا منذ بدايتها، كما اتسمت سنوات بدايتها بغلبة الأسماء الأوروبية على قوائمها، بل واستمرت حتى وقت قريب، فلم تفز بها سوى أسماء قليلة جدًا ممن يكتبون بغير هذه اللغات، أو من خارج القارة العجوز، ما دفع الروائى والأكاديمى البريطانى تيم باركس إلى التشكيك فى أن يكون أعضاء اللجنة السويديون قادرين على تذوق الشعر الإندونيسى أو الأدب الإفريقى مثلًا، أو أن يكونوا قادرين على تحديد أعظم الروائيين والشعراء على الساحة الدولية، مشيرًا إلى انحيازهم للثقافة الإسكندنافية التى فاز بالجائزة ما يقرب من العشرين كاتبة وكاتبًا ممن يكتبون بها، ولم يكن كثيرون منهم هم الأفضل فى وقتهم.

هنا ربما يكون مفيدًا التوقف أمام تصريحات سابقة للكاتب الكبير إبراهيم عبدالمجيد، والتى يقول فيها «إن مجموع الأعمال العربية المترجمة إلى لغات أجنبية لا تتجاوز نحو ١٠٠ رواية عربية، و٤٠ ديوانا شعريًا»، وهى أرقام ليست صادمة فى الحقيقة بقدر تعبيرها عن بؤس النخبة العربية التى تحتاج إلى وقفة ربما تطول قليلًا.

ترجمات وجوائز بلا قواعد.. ولا مصداقية

ماذا يريد العرب من «نوبل» وغيرها من الجوائز الإبداعية العالمية، وماذا فعلنا للفوز بها أو لمجرد التواجد على قوائم ترشيحاتها؟! وكم من موهبة كبيرة أهدرت بسبب أمراض الوسط الثقافى المصرى والعربى!

ربما لا تكون الأرقام التى ذكرها الأديب الكبير إبراهيم عبدالمجيد بخصوص ترجمة الآداب العربية دقيقة تمامًا، أو تخص الأدب المصرى فقط، هو فى النهاية رجل كتابة وأدب وإبداع، لكنها أيضًا تشير إلى جزء من الحقيقة، وربما يدعمها ما جاء من أرقام فى تحقيق صحفى لباحثة الماجستير اللبنانية كاتيا الطويل، التى تنقل عن «مؤسسة الأدب عبر الحدود» البريطانية ما نصه: «على الرغم من التقدم الكبير الذى شهده مجال الترجمة من العربية إلى الإنجليزية تبقى الأرقام مجحفة وقليلة مقارنة بما يصدر فى العالم العربى من روايات ومؤلفات، ففى عام ٢٠١١ صدرت ١٨ ترجمة فى بريطانيا و١٨ ترجمة فى الولايات المتحدة الأمريكية، وسنة ٢٠١٢ وصلت الأعمال المترجمة من العربية فى بريطانيا وحدها إلى ٣٨، بينما كانت ٢٥ فى الولايات المتّحدة، أما فى سنة ٢٠١٣ فصدر ٢٣ عملًا مترجمًا فى بريطانيا، و١٧ فى الولايات المتّحدة، لتبقى الأرقام متراوحة بين هذه المعدلات فى الأعوام اللاحقة، فعام ٢٠١٥ صدرت ٢٥ ترجمة فى بريطانيا و٢٦ فى الولايات المتّحدة.. وبذلك يكون مجمل الأعمال المترجمة من العربية إلى الإنجليزية فى خمسة أعوام حوالى ٢٥٢ عملًا، وهو رقم ضئيل بالنظر إلى أنه يشمل أدب ٢٢ دولة وليست دولة واحدة فقط».

نوال السعداوي

وتقول كاتيا الطويل فى تحقيقها المنشور فى يوليو ٢٠٢٢، «بعد مقابلات مع ناشرين غربيين ومتخصصين فى ترجمة الأدب العربى، يمكن أن نجمل عقبات الترجمة من العربية إلى الإنجليزية ضمن خانتين: العقبات الناتجة عن الفاعلين فى الحقل الأدبى وقلة فاعليتهم، والعقبات الناتجة عن تقصير التمويل المؤسساتى والحكومى والإدارى لحركة الترجمة»، وتضيف: «الناشر العربى نادرًا ما يتخذ مبادرة التواصل مع ناشرين غربيين لعرض إصداراته عليهم، كما أن اتحاد الناشرين العرب لا يقدم للغرب أى نشرة أو كاتالوج أو أى نوع من لوائح الكتب الصادرة فى العالم العربى كل عام، عدا عن غياب واضح وجلى لوظيفة الوكيل الأدبى الذى يجب أن يكون صلة وصل بين الأدب العربى وترجماته. تضاف إلى هذا التقصير أزمة توزيع الكتب وأزمة إيصالها إلى المكتبات الغربية ومعاهد الأدب العربى والمراكز الثقافية العربية فى الغرب. إن جهل الناشر الغربى بما يمكن ترجمته إلى الإنجليزية من نصوص وأعمال عربية يشكل سببًا كبيرًا فى انخفاض أرقام الترجمة إلى الإنجليزية، ومعظمها لا تملك قارئًا عربيًا متخصصًا يختار ما يجب أن يترجم، ولا تملك لجنة أو قسمًا يتتبع ما يصدر فى العالم العربى وينشر أفضله. وتتكل على خيارات المترجمين، ونتائج الجوائز العربية، وما تقع عليه فى معارض الكتب».

ولعله من المعروف أن الاهتمام بترجمة الأعمال العربية بدأ فى التصاعد بعد فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، فمازالت الجائزة تحظى بمتابعة واهتام عالميين واسعين، ومثلها جائزة «بوكر» البريطانية، و«بوكر مان انترناشيونال» التى تذهب إلى الروايات المترجمة إلى اللغة الإنجليزية، والتى تؤدى إلى زيادة عدد قراء أعمال الفائزين بها، وبالتواجد على قوائم ترشيحاتها، رغم التحفظات والإخفاقات وسوء الاختيار فى بعض الأحيان، وهو أمر متسق مع الطبيعة الإنسانية لأعضاء لجان التحكيم فى تلك الجوائز، من حيث أنهم آدميون طبيعيون، يخطئون ويصيبون.. أما الجوائز العربية فيبدو أن لجان تحكيمها لا تريد الصواب أبدًا.. ولا يعرفون ما الطريق إليه!!

بالفعل لدينا جوائز كثيرة جدًا، فى الشعر والرواية والمسرح والنقد والفلسفة، وبعضها يمكن اعتبارها جوائز كبيرة، «ماليًا» ومعنويًا، يكفى أن بينها جائزتين تحملان اسم كبير الكتّاب العرب، نجيب محفوظ، لكن تعال معى ننظر إلى أسماء الفائزين بهذه الجوائز، وماذا قدموا لها أو قبلها أو بعدها؟.. أسماء كثيرة، من مصر ولبنان والمغرب وفلسطين وسوريا والبحرين والكويت والسودان وتونس والجزائر وليبيا.. لكن الحقيقة أن تلك الجوائز فى مجملها ذهبت لمن ذهبت إليهم لأسباب لا علاقة لها بجودة المكتوب، أو تفرده، أو لغته، أو جدته، هى أقرب إلى ترسيخ فكرة «قلة الأدب العربى»، وضعفه وتهافته.. ولك أن تعرف أن كثيرًا من أشهر الكتّاب العرب يتباهون بأنهم لا يقرأون، يعترفون بذلك جهارًا نهارًا، لا يخجلون من التصريح بذلك أمام الجميع، بل إن منهم من يلقى بالكتب التى يهديها إليه شباب الكتّاب من أقرب نافذة، دون أن يلقى ولو نظرة خاطفة على محتواها.

ربما تجذب قوائم الجوائز العربية اهتمام الناشر الأجنبى، على افتراض أنها تختار الجيد من الأدب، لكنها إن لم تفلح فى إقناع القارئ العربى بالفائزين بها، ولا بأى من اختياراتها، فكيف يقتنع بها من لا يعرف العربية من الأصل؟! تقول كاتيا الطويل: «معظم المترجمين والناشرين الغربيين اتفقوا على الجوائز الأدبية العربية تسهم فى تأمين ترجمة العمل ونشره.. لكنها لا تضمن جذب اهتمام القارئ».. و«إن الجوائز الأدبية التى تمنح فى العالم العربى لا تشجع القارئ الغربى على شراء أعمال الفائزين بها، فهى لا تملك حتّى الآن شهرة عالمية ولا قاعدة شعبية متينة»، وهناك كتاب حقّقوا أرقام مبيعات عالية فى أعمالهم المترجمة دون أن ينالوا جوائز عربية، مثل الكاتبة الكبيرة نوال السعداوى، واللبنانى إلياس خورى وغيرهما، لتبقى الجوائز العربية، وما يصدر عنها من ترجمات مجرد جوائز بلا قواعد شعبية حقيقية، بالتالى بلا مصداقية.. محليًا ودوليًا.

تلك هى الحقيقة المؤلمة التى يعرفها الجميع ويتغافل عنها الجميع، على أن الأمر ليس بهذه الصورة القاتمة، فعدد من يستحقون الجائزة من الكتّاب العرب والمصريين كثير بالفعل، لكنهم فى الأغلب لا يجيدون «البروباجندا»، ولا يرضى عنهم الجالسون على «حنفيات الجوائز والمنح»، لكننا نحن الذين لا نحتفى بهم، ولا نعطيهم حق قدرهم، نحن الذين نعيب «نوبل» والعيب فينا.. حتى منح التفرغ التى تقدمها وزارة الثقافة المصرية للأدباء والمبدعين من أجل التفرغ للإنتاج الأدبى والفنى، تحولت إلى بوابة للتسول والارتزاق، فلا ينتج عنها أى عمل مهم أو فارق، ولم نسمع عن قصة أو رواية أو ديوان شعر لمئات الذين يتقدمون سنويًا لهذه المنح.. حتى أن الوسط الثقافى المصرى لا يزال حتى وقتنا هذا يتندر بما فعله الراحل الكبير إدريس على، عندما تقدم إلى لجنة التفرغ بعد ستة أشهر طالبًا وقف منحته لأنه انتهى من كتابة الرواية التى تقدم للحصول على المنحة من أجلها، فسخروا منه، ولم يجيبوه إلى طلبه.

فريدريك ستانج

 

نعيب «نوبل» والعيب فينا

ربما كنا بحاجة إلى أن نلقى نظرة متفحصة إلى الأسماء التى تتصدر المشهد الثقافى والأدبى فى عالمنا العربى، وننظر كيف يتم «تصنيعها» وتصديرها باعتبارها نخبتنا المثقفة، وطليعة كتابنا.. وهى فى الغالب تتوزع ما بين شعراء وروائيين وقصاصين تتجلى موهبتهم الأولى فى تدوير منظومة واسعة من العلاقات العامة محليًا وعربيًا، وإدعاء المرض والحاجة إلى مبلغ الجائزة، والكذب وطول اللسان وسباب كل من لا يعجبهم ما يكتبون.. حتى أن أشهر شعراء مصر والعرب من الشتامين، وممن يخشى ألسنتهم النقاد والصحفيين، فإذا كنا نمنح جوائزنا للمريض حتى يشفى، والغائب حتى يعود، ومن يوقع بندًا فى عقود النشر باقتسام قيمة الجائزة مع دار النشر، فكيف نتصور أن هناك من سوف يهدر من عمره «أيامًا» لترجمة ما ينتجه هؤلاء من غثاء؟! وأى قارئ سوف يتابع ما نعمل على تصديره إليه؟! فكتائب صفحات التواصل الاجتماعى لا تصنع كاتبًا، ولا تعبر عن قيمة، ربما تصلح لتقديم كاتب أو كتاب إلى جموع المراهقين الذين ينفقون أوقاتهم فى تصفحها والتعليق على ما لا يروق لها دون غيره، فهذه طبيعة المرحلة السنية التى تبحث عن إثبات الحضور، ولو بالمخالفة لكل قيمة أو اعتبار، ولو بدون وعى من صاحبها.. غير أن كثيرًا من دور النشر العربية تبنى خططها وفقًا لعدد متابعى الصفحات الخاصة بالكتاب والكاتبات، وهو معيار يدرك الجميع مدى تهافته، لكنهم يسلمون به، ويستسلمون له.. وهم يعرفون جيدًا أن غالبية الكتابات الجادة لا تتوجه إليهم، بل وربما لا يعرف أصحابها كيف يصلون إلى الأجيال الجديدة.

ومن طرائف موسم الإعلان عن جوائز نوبل، هو إضافة بعض الأسماء العربية هذا العام على سبيل السخرية من أصحابها، ومن المنتج العربى عمومًا، وكلها لفائزين بجوائز يظن البعض فى أهميتها، أو قدرتها على تدشين الفائزين بها كأدباء أو مبدعين تتم ترجمة أعمالهم إلى عدد من اللغات الأوروبية، فى مقدمتها اللغة الإنجليزية بالطبع، ولكنها بالتأكيد لا تحيى الموتى، ولا تصنع من «الفسيخ شربات»، فهذا هو الحال الذى ينبغى أن نعترف به، وهذه هى الحقيقة التى ينبغى أن نواجهها.. غالبية من يتصدرون المشهد الثقافى العربى عبارة عن كتّاب لا يقرأون، ومنهم من يستخدمون الكتابة كواجهة اجتماعية أو كمصدر للرزق.. لا أكثر ولا أقل، وكثير من النقاد القادمين من فقر الصفحات الأدبية بالصحف والمجلات، ومن المتفرغين لمجاملة الأصدقاء والمعارف ورفاق الموائد والمقاهى، والجيل الواحد، ولجان تحكيم يقوم عملها على إعانة المحتاج وستر المعذور، ومكافأة الأجير، ورفيق الحزب والتيار، أو الصاحب فى الليالى، بينما يتم تغييب الأسماء الجيدة الجادة، المخلصة للكتابة والأدب، وقراءة الحياة، والمدهش فى الأمر أن الجميع يعرف ذلك، فالحكايات كثيرة، ومتداولة، ويعلم بتفاصيلها الجميع، لكنهم يفضلون المشاركة فى لعبة التواطؤ تلك، فهل تصدق أنه من الممكن أن ينظر العالم إلى أدبائنا ومبدعينا بجدية واهتمام ونحن من نطمس الأسماء، ونغيّب الأعمال لمجرد أننا لا نحب كتّابها، أو لا نعرفهم بصورة شخصية، ولم نقرأ لهم من الأصل؟

قبل أن نتهم لجنة «نوبل» وغيرها بتجاهل الأدب العربى، علينا أن نعرف ما المنتج الأدبى الذى نقدمه؟ وأن نجيب عن عدد من الأسئلة البسيطة والبديهية.. منها مثلًا، كم عدد الفائزين بجوائزنا «السخية ماديًا» طوال السنوات الماضية؟ هل يذكرهم أحد؟ ما القيمة الأدبية والإنسانية لما يكتبه أى منهم؟ هل يستحقونها بالفعل؟ وبعيدًا عن الجوائز والمنتديات، كم عدد رسائل الماجستير والدكتوراة التى تناقشها الجامعات المصرية حول أعمال «نكرات» لا يعرف بها أحد، ولا يقرأ لهم أحد، ولا قيمة لما يسطرون؟

الحقيقة أننا نحن من نحط من قدر مبدعينا، وكتّابنا، وأدبائنا، ثم نتساءل بعد ذلك بمنتهى الجهل والصلف: «لماذا لا يرانا العالم؟»، بينما السؤال الأدق أو الأصح هو: «كيف يرانا العالم ونحن ندوس بأقدامنا على أنفسنا، ولا نظهر لهم إلا أسوأ ما فينا؟»