المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

الرئيس والجورنالجى.. معركة الإهانة الكبرى بين هيكل ومبارك

حرف

فى عام 2005 ظهر الرئيس مبارك على لافتات الدعاية الانتخابية لفترة رئاسية جديدة، بصورة لم يعتدها المصريون. 

الصورة كانت له وهو يرتدى قميصًا وكرافتة دون جاكت بما يمنحه مظهرًا شبابيًا كان يفتقده. 

استبق هيكل الانتحابات الرئاسية بحديث مع قناة الجزيرة كان عنوانه الأساسى هو «الإصلاح السياسى فى مصر». 

من بين ما قاله فى حديثه: مصر اليوم فيها محاولة للإصلاح، لكن يجب أن تناقش بأدب، لأن مقام رئيس الدولة رفيع، ونحن نتكلم عن رمز، وما يمكن أن نناقشه فيه هو الجانب السياسى منه، إننى أقدر للرئيس مبارك أشياء كثيرة، لكننى أخشى أن نجد التغيير بعد سنوات طويلة من الانتظار يمكن أن يؤدى إلى اضطراب، فهناك فجوة فى القيادات والأفكار، وأنا أتمنى أن يقود الرئيس مبارك عملية التغيير، لأننى لا أريد أن تحدث هزة فى مصر. 

كان نظام مبارك فى هذا التوقيت يعتبر أن ما يقوله هيكل خارج الزمن، لذلك لم يلتفت إليه أحد. 

قرر المسئولون عن الحملة الانتخابية للرئيس أن يقربوه أكثر من المصريين، وكان أن ظهر مع الإعلامى الكبير عماد الدين أديب فى حوار ممتد لست ساعات يروى فيه ما خفى من قصة حياته على المصريين. 

ضمن هذا الحوار، قال له عماد: هناك كاتب كبير قال إن الرئيس السادات كانت له قناة اتصال خلفية خاصة مع الأمريكان من خلال خط تليفون ربط بينه شخصيًا وبين مكان ما فى الولايات المتحدة «المخابرات الأمريكية»، فهل هذا صحيح؟

أجاب مبارك: لم أسمع عن هذا نهائيًا. 

لم يترك أديب هذه النقطة، قال للرئيس: من قال ذلك كان يريد الإيحاء وكأن الرئيس السادات رحمه الله كان يتفاوض مع الأمريكان ضد المصلحة الوطنية المصرية؟

رد مبارك: أكيد الذى يكتب هذا هو شخص ضد الرئيس السادات، ثم إنه لو كان للرئيس السادات قناة سرية مع الأمريكان لتم الكشف عنها، فالأمريكان لا توجد لديهم سرية، بل كانوا قالوا وتحدثوا عن هذه الاتصالات مائة مرة، وخرجت الوثائق التى تتضمن الاتصالات عبر هذه القناة، ففى أمريكا لا يوجد شىء يتم فى الخفاء. 

فى لقاء بين عبدالله السناوى والأستاذ هيكل بعد هذا اللقاء سأله: هل كنت أنت المقصود فعلًا بما جاء فى حوار الساعات الست، وهل تعتقد أن ما قاله الرئيس يمثل تشكيكًا فى روايتك المنشورة لقصة القناة السرية؟

قال هيكل: لست متأكدًا أننى المقصود بما جاء فى السؤال، أو الجواب، وحتى لو كنت مقصودًا بالاثنين فقد تعودت ألا أجادل فيما يقال عنى أو ينسب لى، أما إذا كان الموضوع يهمك فى حد ذاته، أى موضوع الاتصالات التى أجراها الرئيس السادات أثناء حرب أكتوبر مع هنرى كيسنجر عن طريق وكالة المخابرات المركزية وقناتها السرية مع الرئاسة فى ذلك الوقت، فإنك تستطيع الرجوع فيه إلى ما كتبه هنرى كيسنجر بنفسه فى كتابه الأخير «الأزمة.. تشريح لأزمتين كبيرتين فى السياسة الخارجية»، وإذا سمحت فسوف أبعث إليك نسخة منه، وميزة هذا الكتاب بالذات أنه لا يحتوى إلا على نصوص لوثائق مكتوبة، أو تسجيلات لمحادثات هاتفية مع الأطراف مسجلة أو محاضر سرية من ملفات البيت الأبيض فى عهد ريتشارد نيكسون. 

كانت مثل هذه الرسائل مقصودة بين الرئيس والكاتب، لكنها لم تثر أى ارتباك فى العلاقة بينهما، فقد كانت فى معظمها رسائل مشفرة، يفهم من خلالها ما يريده كل واحد منهما من الآخر، لكن كانت هناك رسائل مزعجة بقدر كبير.

فى العام ٢٠٠٧ أعلن هيكل عن تدشين «مؤسسة محمد حسنين هيكل للصحافة العربية». 

كان الكاتب الكبير يرغب فى لعب دور مؤثر وملموس فى تكوين أبناء المهنة الجدد من الصحفيين، ووضع لها أهدافًا نص عليها بيان تأسيسها، وكانت هذه الأهداف هى: 

أولًا: المساهمة فى تحقيق أعلى قدر ممكن من تعرّف العاملين فى الصحافة العربية على آخر التطورات فى ميدان الصحافة فى العالم.

ثانيًا: تقديم برامج مكثفة وعلى أعلى مستوى فنى ومهنى لتدريب شباب الصحفيين.

ثالثًا: دعم الجهود الرامية إلى تأسيس نظم عربية مستدامة للتدريب الصحفى على الصعيدين المحلى والإقليمى، وعلى مستوى المؤسسات الصحفية.

رابعًا: تشجيع ورعاية الحوار وتبادل الخبرة والتعلم المتبادل بين الصحفيين العرب فيما يتعلق بالحالة الراهنة للمهنة وآفاق تطويرها وبالقيم والمعايير المطلوب تكريسها وباحتياجات وإمكانات تطوير العمل الصحفى العربى إلى أعلى المستويات العالمية.

خامسًا: تقديم الدعم الفنى - على مختلف المستويات - للمؤسسات الصحفية الناشئة، خاصة المستقلة وغير الحكومية منها.

سادسًا: متابعة ورصد مستويات الأداء المهنى فى الصحافة العربية، ودعم وإبراز الممارسة الأفضل بشتى الوسائل.

سابعًا: تشجيع ودعم البحث العلمى فى شتى القضايا ذات الأهمية للصحافة العربية ودعم نشر وترويج نتائجها وتوسيع نطاق الحوار حولها.

ثامنًا: تشجيع ودعم الحوار وتبادل الخبرة بين الصحفيين العرب وغيرهم من الصحفيين فى مناطق أخرى من العالم، وبخاصة فى العالم الثالث.

فى الأوساط الصحفية المحيطة بهيكل تم التعامل مع المؤسسة على أنها مهنية فى المقام الأول.. والأخير أيضًا. 

لكن كانت هناك دوائر أخرى فى قلب نظام مبارك ترى أن المؤسسة لا يمكن أن تكون مقاصدها مهنية، فقد رصد هيكل لها ولأنشطتها وقفية قيمتها ٥ ملايين دولار قابلة للزيادة وفق الاحتياجات. 

بدأ الحديث يدور عن هدف هيكل لاختراق الأجيال الجديدة فى الصحافة، وهى أجيال لا تعرفه جيدًا، فى محاولة لاستكمال سيطرته على الصحافة المصرية بكل أجيالها. 

كان الإعلان عن ميلاد المؤسسة صاخبًا، فقد بدأ نشاطها بدعوة الصحفى الأمريكى الشهير «سيمور هيرش» لإلقاء سلسلة محاضرات تدريبية عن نمط «التحقيقات الصحفية المعمقة»، وحضرها ما يقرب من ٧٠ صحفيًا مصريًا تم اختيارهم من بين أكثر من مائة تقدموا للمشاركة فى هذه الدورة. 

ختم هيرش محاضراته المتخصصة بمحاضرة عامة ألقاها من على مسرح قاعة «إيوارت» بالجامعة الأمريكية. 

خلال هذا النشاط كان هناك ما هو معلن... كما كان هناك ما هو خفى أيضًا.

قبل أن يبدأ سيمور هيرش محاضرته العامة، وقف هيكل ليقدمه، وفى كلمته وردت عبارة كانت مهمة ولها دلالتها، قال: إن الجامعة الأمريكية لم تكن مقصدنا الأول.. إنما كانت ملاذنا الأخير. 

تم فك شفرة هذه الجملة فى كواليس نشاط المؤسسة الأول.. وقد كنت هناك. 

كانت مؤسسة هيكل قد وضعت شرطًا لمن يشترك فى دورتها الأولى يتعلق بالسن وكنت قد تجاوزته ربما بعامين أو ثلاثة، ولما سألنى عبدالله السناوى: هل قدمت فى الدورة الأولى للمؤسسة؟ أخبرته بأننى لم أفعل، ولما عرف السبب، تواصل مع الأستاذ هيكل الذى أخبره أننى سأحصل على استثناء لحضور الدورة، وبالفعل قابلت هانى شكرالله فى مقر مجلة «وجهات نظر» وتمت الموافقة على حضورى. 

كان الحوار فى كواليس الجماعة بالتحرير حيث عقدت جلسات الدورة فيه كثير من القلق والتوتر. 

شعر الموجودون أنهم بالفعل يشكلون تنظيم الأستاذ هيكل. 

تقريبًا لم يتخلف عن الحضور إلا العاملون فى الموسسات الحكومية، وكان يقف هيكل بين الجميع، وكأنه بالفعل حاكم دولة الصحافة. 

كان هيكل يعرف أن نظام مبارك ليس سعيدًا بمؤسسته لكنه مضى فى تنفيذ ما أراده بهدوء

كان من المفروض أن تقام أعمال هذه الدورة فى نقابة الصحفيين بوسط القاهرة، لكن وضعت عراقيل مقصودة أمام الحصول على الموافقة، وكان هناك من علل الأمر بأن الظروف الأمنية فى منطقة وسط البلد التى كانت قد بدأت تزداد فيها المظاهرات ضد مبارك يمكن أن تحول دون استكمال أعمال الدورة. 

كان هيكل يعرف أن نظام مبارك ليس سعيدًا بمؤسسته، لكنه مضى فى تنفيذ ما أراده بهدوء، وربما كان هذا سببًا فى ألا تكون هناك أزمة معلنة على هامش ظهور المؤسسة، لكن الأزمة المعلنة جاءت بعد أقل من شهر من بداية نشاطها. 

ففى ٩ أبريل ٢٠٠٧ هبت عاصفة جديدة من العواصف التى أصبحت تشكل ملامح العلاقة بين هيكل ومبارك. 

هيكل عن مبارك: هذا الرجل لم يكن مجهزًا أبدًا للسياسة فقد بدأ حياته كسياسى فى الخامسة والخمسين

كان الكاتب البريطانى الكبير روبرت فيسك قبلها بأيام فى زيارة إلى القاهرة، جلس خلالها إلى هيكل ودار بينهما حوار لعدة ساعات، ترجمه «فيسك» فى مقال وضع له عنوان «محمد حسنين هيكل: رجل الشرق الأوسط الحكيم»، وبمجرد ترجمته فى القاهرة عاد الصخب الذى ما كان يهدأ إلا لينفجر بين الكاتب والرئيس. 

نقل «فيسك» عن هيكل قوله: رئيسنا مبارك يعيش فى عالم من الخيال فى شرم الشيخ، فلنواجه الأمر، هذا الرجل لم يكن مجهزًا أبدًا للسياسة، فقد بدأ حياته كسياسى فى الخامسة والخمسين عندما عينه السادات نائبًا له قبل اغتياله. 

لم يستسلم «فيسك» لوصف أصدقاء هيكل نقده لمبارك على أنه حاد ولاذع، فقد رأى ما يكتبه صديقه عن الرئيس مدمرًا تمامًا. 

وذهب «فيسك» إلى أن مبارك من المؤكد أنه سيتنهد عندما يقرأ ما يقوله هيكل عنه، وسيتنهد أكثر عندما يقرأ كلامه فى صحيفة «الإندبندنت» التى يعرف «فيسك» أن مبارك حريص على قراءتها بانتظام. 

هيكل قال لـ«فيسك» أيضًا: مبارك كان بالفعل طيارًا جيدًا، ولكنه لكى يبدأ حياته كسياسى بعد الخامسة والخمسين، فإن هذا يتطلب جهدًا كبيرًا، إن حلمه الأساسى كان أن يصبح سفيرًا، وأن يكون جزءًا من النخبة، والآن بعد أن مرت خمسة وعشرون عامًا على رئاسته، لا يزال يستطيع تحمل أعباء الدولة. 

ولأن «فيسك» كان صديقًا لهيكل ولم يكن درويشًا من دراويشه، توقف معه عند التناقض الكبير فى علاقته بمبارك. 

قال له: يشغلنى دائمًا هجومك على مبارك رغم أنك مدحته كثيرًا وبشكل مستمر بعد أن أطلق سراحك من السجن فى العام ١٩٨١.. كيف تفسر لى ذلك؟ 

رد هيكل بأنه كان يمدح مبارك ظنًا منه أن مبارك تعلم درسًا. 

قال: ظننت هذا لأنه كان بجوار السادات عند اغتياله، وكان ينبغى أن يقدر شيئًا، ولكن علمه هذا أن يراعى الأمن أكثر من أى شىء آخر. 

شرح هيكل الوضع فى مصر، وهو ما نقله عنه روبرت فيسك، فحركة «كفاية» نظمت مظاهرة طالبت فيها بإنهاء حالة الطوارئ فى مصر، وإنهاء حكم مبارك والتصدى لرغبته الواضحة فى نقل السلطة إلى جمال مبارك، بما أصبح المصريون يعرفونه بـ«التوريث»، مثلما كان يحدث فى عهد الخلافة الإسلامية، إلى جانب وضع نهاية لقوانين الانتخابات الجديدة التى ستحرم الإخوان المسلمين من الحصانة البرلمانية. 

أمسك «فيسك» بما قاله هيكل واعتبره وصفًا دقيقًا لمصر، فقد قال له هناك بحر شاسع بين السلطة والشعب، وحدثه هيكل عن القرية المتاخمة لمزرعته فى برقاش. 

قال له: إننى مندهش بشدة من وجود حى للفقراء أمام كل حى للأثرياء، لقد قال لى أحد أصدقائى: فى يوم من الأيام سيزحف كل حى فقير على القصر المقابل له. 

تحققت نبؤة صديق هيكل، ولم يكن ذلك فى عصر مبارك، ولكن عندما طرد المصريون الإخوان من الحكم، فقد تعرضت مزرعة هيكل للاقتحام من قبل مجموعة من اللصوص والمجرمين، وكان الغرض الأساسى هو السرقة، وليس شيئًا آخر. 

خلص «فيسك» من حديثه مع هيكل إلى معنى واحد وهو أن الشعب المصرى ليس سعيدًا أبدًا فى ظل حكم مبارك. 

لم يكن غريبًا أن تبادر الصحف المعارضة وبعض المواقع الإلكترونية التى كانت لا تزال تحبو إلى ترجمة نص مقال روبرت فيسك، لكنها جميعًا ورغم موقفها من مبارك امتنعت عن ترجمة ما قاله هيكل عن مبارك وكان مهينًا ومبتذلًا فى الوقت نفسه.

كانت الجلسة بين هيكل وفيسك جلسة أصدقاء تغلب عليها الحميمية، ويبدو أن هيكل تباسط إلى درجة كبيرة، معتقدًا أن صديقه الكاتب البريطانى الكبير سيراعى ما ينشر وما لا ينشر، لكنه ربما فوجئ كما فوجئ الجميع أن فيسك كتب ما قاله هيكل، حيث أطلق على مبارك اسم «لافاش كيرى.. البقرة الضاحكة»، وأكد له أن هذا الاسم كان ولا يزال شائعًا عن مبارك فى الأوساط السياسية وجلسات النميمة المصرية، وأنه التصق به منذ أن كان نائبًا للرئيس، فقد تم إلصاق هذا الوصف به فى محاولة لرسم دوره فى السياسة المصرية أيام السادات. 

كان هيكل بالفعل يردد هذا الكلام عن مبارك ومبكرًا جدًا، وكان يتندر به فى جلساته الخاصة، لكنه لم يصرح به علنًا ولم يكتبه قبل ذلك. 

هيكل قال عن مبارك: شخصية أعقد بكثير من انطباع عام لدى الناس أشاع عنه نكتة «لافاش كيرى»

يمكننا أن نعود معًا إلى جلسة مبارك مع أسامة الباز ومنصور حسن، وهى الجلسة التى سبقت لقاء الساعات الست بين الكاتب والرئيس فى ديسمبر ١٩٨١، والتى حاول فيها هيكل أن يعرف منهما ملامح شخصية مبارك، بالتالى يحدد الطريقة التى يتعامل بها معه. 

قال هيكل لأسامة الباز ضمن ما قال عن مبارك: إننى أراه أمامى شخصية أعقد بكثير من انطباع عام لدى الناس أشاع عنه نكتة «لافاش كيرى.. البقرة التى تضحك»، بينما هو فى ظنى شخصية أكثر تعقيدًا. 

ورد أسامة الباز على الفور بأننى على صواب فى طرح حكاية البقرة التى تضحك جانبًا، لأنها بالفعل تبسيط لشخصية مركبة.

ورغم أن هيكل كان يعرف حقيقة الأمر، فإنه بعد الخلاف الكبير مع مبارك استخدم التعبير، بل نسب لنفسه أنه من أطلقه على مبارك على عكس الحقيقة. 

أدرك هيكل أن توصيفه لمبارك بهذا الشكل الشائن سيجر عليه عاصفة من الهجوم، وهو ما كانت مؤسسة روزاليوسف رأس الحربة فيه من خلال رئيس تحريرها عبدالله كمال، لذلك حاول هيكل بطريقته أن يتبرأ مما نسب إليه، لكن دون أن يكذب صديقه. 

فيما نشره عنه عبدالله السناوى أنه سأله: هل ورد مثل هذا الوصف فى كلامك؟ 

فرد هيكل: كل ما هو منسوب لى صحيح وأتحمل مسئوليته، لكن مثل هذه الأوصاف لا ترد على قاموسى السياسى ولا الشخصى وأنت تعرف ذلك. 

وفى كتابه «أحاديث برقاش» يقول السناوى: فى أول تصريح صحفى نفى ما هو منسوب إليه من تعريض شخصى لا يليق به، كان يعرف بالاسم من أطلق ذلك التعبير سخرية من النائب واستخفافًا به من داخل الدائرة الضيقة للرئيس «السادات»، لكنه لم يكن يقحم نفسه فى صغائر الأمور، ولا كانت له قضية شخصية مع مبارك بقدر ما كانت قضيته من أولها إلى آخرها مع سياساته، وما ترتبت عليها من آثار ونتائج على مجمل الحياة العامة.

رغم معرفة عبدالله السناوى بهيكل، إلا ما يقوله هنا يؤكد لى تمامًا أنه لم يكن يعرف هيكل كما ينبغى، أو على الأقل كان يعرف عن هيكل ما يريد الأستاذ أن يعرفه عنه، فلم تكن القضية بين الكاتب والرئيس سياسية فقط أبدًا، ولكن كان فيها جزء كبير يمس ما بينهما من خلافات ومعارك وأخذ ورد لا يخلو من محاولات الكيد، ولذلك استخدم هيكل كل أسلحته للانتقام من مبارك.. ولم يتورع عن النيل منه فى جلسات النميمة التى كان يتباسط فيها هيكل مع أصدقائه ومريديه. 

ردت الصحف القومية على هيكل بما أوجعه وأزعجه. 

أطلق عليه عبدالله كمال فى مقالات وصف «هيكل أبو هزيمة» وكتب مقالًا مطولًا نشره على حلقتين بنفس الاسم، نشرهما بالتزامن موقع «إيلاف» فى ١٥ و١٦ إبريل ٢٠٠٧. 

لم يكن عبدالله كمال يتحدث بلسانه، ولكن بلسان مبارك ونظامه، والحقيقة أنه لم يكن فى حاجة إلى تكليف بالرد على هيكل، فقد كان يمارس عمله، وما يقتنع بأنه صحيح، وكان يصل إلى أبعد مدى فى تجريح خصوم النظام، بل لم يتورع عن الخوض فى سيرتهم وأعراضهم. 

مقال كمال عن هيكل كان وصلة من الردح الصحفى بدأت من العنوان، لكننى سأتوقف فيه عند رؤية صحفى كانت له حيثية سياسية ومهنية كبيرة فى عصر مبارك للعلاقة بين الكاتب والرئيس، لأنها فى النهاية تعكس رؤية النظام نفسه لهيكل ولدوره ولما يريد أن يفعله. 

يقول كمال: ظن محمد حسنين هيكل أنه يمكن أن يستعيد بعض مجده فى أيام الرئيس عبدالناصر، حين جاء الرئيس مبارك إلى الحكم، لا سيما أن مبارك افتتح عهده بالإفراج عن المعتقلين، وكان بينهم هيكل، لكن مبارك الذى بدأ عصرًا جديدًا، لا يعتمد على احتكار السلطة، ولا يريد فيه لإدارته أن تخدع الناس من خلال مقالات هيكل، ولا يسلم أذنيه لمستشار دفع برئيس سابق إلى الهزيمة، وباع أصدقاءه لرئيس تال، فلم يقرب إليه محمد حسنين هيكل، وظل بعيدًا عن دوائر الحكم طوال هذه السنوات الماضية وحتى الآن. 

ويضيف كمال: إن هيكل بنى بناءه، الذى قد يراه البعض مجدًا، وأراه هشًا، كما لو أنه قلعة من رمال، ليس استنادًا إلى كفاءة الصحفى وقدرته، وإنما بدعم خاص من مؤسسة الدولة المصرية فى عهد الرئيس عبدالناصر، وقد منحه هذا الدعم وذلك الاقتراب مكانة وفرت له فتح الآفاق الصحفية الإقليمية وربما العالمية، ومن ثم فإنه حين أُبعد من قبل السادات، ولم يستدع من قبل مبارك فقد الأرضية التى كان يمكن أن يواصل عليها بناء قلعة الرمال، وظل منذ نحو ٣٣ عامًا قيد اختبار لا يستطيع عبوره، وهو أنه كصحفى يمكن أن ينال اعترافًا بعيدًا عن الدولة.

يحتاج كلام عبدالله كمال عن ظاهرة هيكل كثيرًا من التوقف بالطبع، لكنها فى النهاية رؤيته، التى كانت تعكس بالتأكيد رؤية نظام مبارك أو على الأقل المجموعة الجديدة التى طفت على سطح نظامه فى سنواته الأخيرة، يقودها جمال مبارك وكان فى القلب منها عبدالله كمال. 

يرى عبدالله أنه حتى لو كان هيكل قابل ملكًا هنا أو رئيسًا هناك، فإن القراء ظلوا يتعاملون معه باعتباره الصحفى الذى كان قريبًا من عبدالناصر، ولا يملك وثيقة من عصر السادات، وليست لديه معلومات من أى نوع يمكن تقديرها عن عصر مبارك، وبخلاف مجموعة من الكتب والمقالات التى يدرك هيكل أن بمقدور أى صحفى مجتهد ومنظم أن يقوم بمثلها فإنه لم يضف جديدًا، وبالتالى احتفظ بكراهية عظيمة للسادات الذى أبعده، ومبارك الذى لم يجد ضرورة للاستعانة به.

ويلجأ عبدالله كمال إلى المنطق، كانت لديه قدرة معقولة على التحليل، يقول:

مع مبارك ظل هيكل يصارع أكثر من أمر: 

الأول: أنه مطارد بجميل الإفراج عنه، مقابل لا شىء يريده الرئيس منه، وهو شعور قاتل لا تقبله نرجسية هيكل.

الثانى: أن مبارك ظل غير محتاج إليه، وهو ما مثل تحديًا لغرور هيكل، الذى ظن أنه لا يمكن لرئيس مصرى أن يستغنى عنه، وقد حاول هيكل بشكل مباشر، وعبر وسطاء، وعبر الصحف طوال السنوات الماضية أن يعرض خدماته على الرئيس، وكان منها مطالبته بتشكيل مجلس مستشارين للرئيس، يكون بالطبع هو المسئول عنه، ومنها تلميحاته إلى أنه يستطيع أن يقدم جمال مبارك للرأى العام بصورة مختلفة، ولم يعره أحد انتباها.

 عبدالله كمال: تجاوز مبارك عن كل ألاعيب هيكل وتشنيعاته فى لحظات مختلفة

ويستخدم عبدالله كمال واقعة تم تسريبها له من الدائرة المحيطة لمبارك، أراد بها معايرة الكاتب الذى ينكر الجميل ويتنكر له. 

يقول كمال: تجاوز مبارك عن كل ألاعيب هيكل، وتشنيعاته، فى لحظات مختلفة، كان أبرزها حين اتصل به ليطمئن على صحته، بعد أن أصيب بالسرطان فى البروستاتا، وتقول جريدة الإندبندنت: كان مصابًا أيضًا بالسرطان فى الكليتين، وعرض مبارك رعاية الدولة من خلال الوزير فاروق حسنى.. وبالتالى أغرقه بجميل إضافى، أظن أنه أشعر هيكل بضآلته أمام رئيس مختلف.

ويفسر كمال الأمر بأن هيكل لم يكن يريد جميلًا معنويًا، وإنما كان يريد اعترافًا بأنه صحفى مؤثر، ويريد اقترابًا حميمًا من السلطة فى مصر، يجعله يمارس دوره الأفضل بالنسبة له، ويمنحه فرصة استغلال المكانة الداخلية المفترضة فى تدعيم اعتراف قيادات الدول الأخرى به، إذ لا يمكنه أن ينال اعتراف الآخرين ما دام لم يعترف به رئيس دولته، وبالتالى تحول إلى صحفى صالونات، ونميمة، وتشنيعات، يضفى رونقًا من الوقار على شائعات يرددها، وعبارات الدخان الأزرق المتصاعد من سيجارة خاوًيا من المعلومات، وخاليًا من الوثائق ولا يحظى بإضافة تعبر به من مرحلة الرئيس عبدالناصر.

 هيكل كان يثأر من تجاهل مبارك لما يعتقد أنه دور يمكن أن يقوم به

أخذ عبدالله كمال من هذه المقدمة الطويلة مدخلًا حتى يصل إلى ما قاله هيكل لروبرت فيسك. 

رأى عبدالله أن هيكل خلال كلامه مع فيسك كان يقوم بأمرين: 

الأول: يتخلص من وطأة جميل مبارك عليه. 

والثانى: يثأر من تجاهل مبارك لما يعتقد أنه دور يمكن أن يقوم به. 

هيكل وسيمور هيرش

ويقول: فى هذا الحوار الذى بدا من صياغته أن المحاور يحابى هيكل إلى أقصى مدى، ورط روبرت فيسك محمد حسنين هيكل فى أن كشف عن أنه أطلق على الرئيس- رئيس الدولة- وصف «لافاش كيرى»، وهو ما يجسد فضيحة متكاملة الأركان، إذ كيف يمكن لكاتب أن يبلغ هذا القدر من التدنى والتطاول، وأن يمارس عبث الصغار، وهو الذى يحاول أن يقدم نفسه ككاتب ثقة، كيف بقلم له تاريخ كما يظن أن يفعل هذا؟ وإذا ما وضعنا ذلك إلى جانب وصفه العنصرى لأم الرئيس السادات، فإننا يمكن أن نعرف حجم الوضاعة المهنية التى بلغها محمد حسنين هيكل. 

ويقفز عبدالله كمال إلى مساحة الانتقاص من قدر هيكل، فيشير إلى أن الكاتب الكبير «٨٤ سنة وقتها» لم يعد لديه من القدرة العقلية ما يجعله يسيطر على ما يقول، فقد هوى تمامًا، ويحتاج لأن يتم فرض الحجر الصحفى عليه، قبل أن يتوه ما بقى من قلعة الرمال، ذلك أنه يقول ما لا يفهم. 

ويفند عبدالله كمال ما قاله مبارك لفيسك عن أن مبارك يعيش فى عالم من الخيال أو عالم خيالى فى شرم الشيخ فى نقاط محددة على النحو التالى: 

أولًا: لا يمكن لرئيس راغب فى أن يحمى عاصمة مزدحمة من حركة مواكب صعبة، وزيارات متوالية من جميع دول العالم، تفرض تأمينات ضرورية، إلا أن يبحث عن مكان إضافى، يمكن أن يخفف وطأة القيود على العاصمة، ولا يسبب كلما أمكن معاناة للناس.

ثانيًا: واقعيًا لا يعيش الرئيس مبارك فى شرم الشيخ، وإنما يعيش فى بيته القديم فى مصر الجديدة، ويعمل من خلال مقر الاتحادية.

ثالثًا: شرم الشيخ باعتبارها أحد أهم روافد صناعة السياحة فى مصر، اكتسبت أهميتها من الثقل السياسى والدعائى الذى منحه لها مبارك، وقد أدى هذا إلى تعويض هائل لصناعة السياحة بعد حادثة الإرهاب الكبرى فى الأقصر.

رابعًا: لا تمثل شرم الشيخ، عالمًا خياليًا، إلا إذا كانت تلك دعاية من هيكل للمدينة، فهى مدينة يعمل فيها خيرة شباب مصر من مختلف المحافظات، وهى لا تفقد الرئيس قدرته على التواصل مع كل قطاعات المجتمع، ولو عاش وعمل فى الوادى الجديد لظلت هذه القدرة على التواصل قائمة.

خامسًا: ليس مطلوبًا من رئيس الجمهورية أن يعيش فى عشش قلعة الكبش- مع كامل الاحترام لقلعة الكبش- لكى يواجه الواقع، وحين كان عبدالناصر يقضى وقتًا طويلًا فى المنتزه وكينج مريوط لم يكن يبتعد عن الواقع، وحين كان السادات يقضى بعض وقته فى شبين الكوم وأيضًا أسوان لم يكن يفقد اتصاله بالواقع، ويعلم هيكل من خلال اطلاعه على آليات الحكم من قبل أن الرئيس- أى رئيس- يبقى قادرًا على الاطلاع على كل شىء أيًا ما كان موقعه.

سادسًا: من المفهوم أن شرم الشيخ فى وضعها الحالى تمثل طعنة للدولة التى كان يمثلها هيكل، ونظامه المهزوم، فقد حررها مبارك ضمن ما حرر، وحولها من رمز للنكسة- اسم الدلع للهزيمة- إلى مقصد سياحى وسياسى عالمى، وبعد أيام سوف تستضيف المدينة اجتماعًا وزاريًا بالغ الأهمية حول العراق.

سابعًا: ليس هيكل رئيسًا، لكى نقارنه بالرؤساء، ولكن هذا الكاتب الذى يدعى التواصل مع الواقع، يعيش أغلب وقته فى شقة فاخرة فى لندن، ومنزله الأول فى القاهرة حسب وصف روبرت فيسك نفسه فى هذا الحوار هو شقة تطل على النيل، حيث السجاجيد، واللوحات على الجدران، والأثاث المذهب، ويعيش فى بيت منيف فى برقاش، فيما يسخر من قصور الأثرياء على مقربة منه فى المنصورية، أو فى أبوتلات، ويدخن سيجارًا فى اليوم بما يكفى لسد رمق عائلة مصرية متوسطة الحال، وليست فقيرة، طوال شهر كامل، إذا افترضنا أنه دخن ثلاثة فقط فى اليوم الواحد، ثمن كل منها على الأقل خمسون دولارًا.

ويشير كمال إلى أن روبرت فيسك اهتم فى حواره مع هيكل، بالحديث المطول عن سيجاره الرأسمالى على سبيل المجاملة، أو رصد التناقض، لا أعرف، ولم يهدأ فيسك إلا حين نال من هيكل سيجارًا فى نهاية الحوار بدا أنه انتظره ثلاثين عامًا كاملة- على حد قوله- وفيما يبدو كان ذلك قد أنسى فيسك عمله الصحفى الأساسى، بحيث يدقق ما يقول هيكل، ويطرح عليه الأسئلة الواجبة لكى تكتمل صورة الواقع الذى يتحدث عنه.

ومن بين تلك الأسئلة مثلًا، هل محمد حسنين هيكل يقصد أبناءه حين تحدث عن الأثرياء الذين توجد أمام قصورهم أحياء عشوائية، وإن كان يقصدهم تحديدًا، ترى لماذا لا يطالب أبناءه بالكشف عن ثرواتهم، وصفقاتهم، وحدود علاقتهم بالنظام الذى يهاجمه.. والعمولات التى يحصلون عليها، وآخر ما نفذوا من عقود؟

وبمواجهة مباشرة يقول عبدالله: لا أظن أن هناك من يمكن أن يقبل من هيكل الآن، وبعد كل هذه السنوات، أن يحكم على أداء الرئيس مبارك بأنه ما زال عاجزًا عن تحمل مسئوليات الدولة، أى كلام فارغ هذا يمكن أن يقال فى حق زعيم كبير؟ عبر بمصر من كوارث التخلف والإرهاب وحافظ على سيادة التراب الوطنى بعد أن حرره، أم أن عبدالناصر الذى كتب له هيكل خطاب التنحى بعد أن احتل بلده كان قادرًا على أن يدير الدولة؟ ما هذا الكلام الأبله؟ وكيف ترد أنت يا هيكل على ملايين المواطنين الذين انتخبوه رئيسًا من بين متنافسين؟ هل كان كل هؤلاء على خطأ، وهيكل فقط الذى على صواب؟ 

ويختم كمال مقاله بقوله عن هيكل: لقد أعماه الغرور، وضرب الخرف عقله، أو لعله كان يمارس نوعًا من الابتزاز السياسى كغطاء لأنشطة أولاده المالية، وهو ما زال يحاول أن يتهرب من وحل الهزيمة التى روط فيها رئيسه الراحل. 

وفى مقاله الثانى يواصل كمال ما يرى أنه سقطات هيكل. 

يقول: من بين تشنيعاته التى وردت فى حديثه لروبرت فيسك ما يتعلق بالشرطة المصرية والجيش المصرى، أيضًا، إذ ادعى أن الدولة تنفق على الشرطة أكثر مما تنفق على الدفاع، وهى عبارة تنطوى على أعلى درجة من درجات التأليب والوقيعة، وقصدها واضح. 

أجمل كمال قصد هيكل فى أنه يريد أن يقول إن مصر تفرغت لحفظ الأمن الداخلى على حساب الأمن الخارجى، وأن النظام إنما يدافع عن ذاته بدلًا من أن يدافع عن البلد، ويريد إحداث وقيعة بين الشرطة والجيش، وبين النظام والجيش، ويسبب إحباطًا للرأى العام الذى يعتز بمكانة جيشه وقوته. 

ويذهب كمال إلى أن هناك مقاصد أخرى يمكن استنتاجها من هذه التشنيعة الخبيثة للغاية، ولكن هذه العبارة تدفن نفسها بنفسها للأسباب التالية: 

 محمد حسنين هيكل مارس تشويهًا متعمدًا للقوات المسلحة وتخريبًا مقصودًا لسمعتها

أولًا: لم يكشف هيكل دليله على ما يقول، وارتكب الصحفى البريطانى الشهير خطأ مهنيًا فادحًا، حين لم يسأله عن ذلك الدليل، ولا أظن أن هيكل من الجرأة بحيث إنه يدعى أنه يملك تلك الأرقام. 

ثانيًا: مثل هذا النوع من الحيل التى تضر بالأمن القومى هدفها هو أن يخرج مسئول لكى يعلن الأرقام، وهو هدف غير محقق للمصلحة الوطنية. 

ويجزم كمال بأن محمد حسنين هيكل مارس تشويهًا متعمدًا للقوات المسلحة، وتخريبًا مقصودًا لسمعتها، وبالتالى لا ينبغى على أحد أن يتجاهل هذا العامل الجوهرى حين يبحث فى الأسباب التى دفعت الرئيس محمد حسنى مبارك إلى عدم الاستعانة بخدمات محمد يونيو سبعة وستين حين تولى حكم مصر، وهى خدمات لا أشك لحظة فى أن هيكل قد عرضها عشرات المرات بطرق مباشرة وغير مباشرة.

ويعلل عبدالله كمال ذلك ناطقًا بلسان النظام أن مبارك قائد عسكرى عظيم، وكان بين جنوده ومقاتليه فى الثكنات وعلى الجبهة يقرأ ويتأثر هو وهم بما يكتبه هذا الكاتب غريب الأطوار، ولا شك أنه كانت تصله ردود أفعال من يدربهم فى اتجاه الحرب، ويرى أن مقالًا واحدًا فى الأهرام، حيث بنى هيكل ما يراه مجده كافٍ لمحو عملية شحن معنوى وتدريبى استمرت شهورًا، كما لو أن تلك المقالات كانت تطفئ نارًا مشتعلة، ولم تفلح محاولات هيكل فى إحباطها.

أوجع عبدالله كمال هيكل بما لا يتصور أحد، وهو ما دفعه لأن يرد على بعض ما كتبه، لكن بطريقة غير مباشرة. 

يكشف لنا عبدالله السناوى ما جرى فى «أحاديث برقاش»، يقول: 

أشارت إحدى الصحف الرسمية فى معرض هجومها على الأستاذ محمد حسنين هيكل على خلفية حواره مع روبرت فيسك كبير مراسلى الإندبندنت البريطانية إلى اتصال هاتفى أجراه الرئيس مبارك مع الأستاذ هيكل ليطمئن على صحته بعد أزمة صحية خطيرة تعرض لها قبل سنوات.

جاءت المعلومات التى أوردتها الصحيفة تسريبًا من جهة ما، غير دقيقة فى وقائعها ومسيئة للرئيس والكاتب الكبير معًا. 

والقصة الحقيقية أن السيدة قرينة الرئيس اقترحت عليه الاتصال بالأستاذ هيكل ليطمئن على صحته، وطلب الرئيس رقم هاتف الأستاذ فى مزرعة برقاش من وزير الثقافة فاروق حسنى دون لجوء للأجهزة الأمنية أو رئاسة الجمهورية، مفضلًا الطابع الشخصى فى هذا الاتصال، وبدوره اتصل وزير الثقافة بالناشر المعروف الأستاذ إبراهيم المعلم، الذى كان موجودًا وقتها فى ألمانيا استعدادًا لمعرض فرانكفورت للحصول على رقم الهاتف، وبدا للوزير أن يتأكد من دقة الرقم، فاتصل بعبدالله السناوى رئيس تحرير «العربى». 

وبعد نحو «١٠» دقائق اتصل الأخير بالأستاذ هيكل سائلًا: ماذا جرى فى الاتصال الهاتفى الذى أنهيته للتو؟

ورد الأستاذ هيكل مستغربًا: أى اتصال؟

ثم فوجئ مرة أخرى بالإجابة: الرئيس.

فى وقت لاحق روى الأستاذ هيكل للسناوى، الذى كان طرفًا فى جانب من الواقعة، أن مبارك قال له: لك دور فى البلد ولك قيمة فيه، وأى تكاليف علاج فى أى مكان فى العالم تختاره سوف تسدده الدولة فورًا.

اعتذر هيكل شاكرًا مبادرة الرئيس: ظروفى المالية تكفى وتزيد للتكفل بمصاريف العلاج، والعملية أجريت بالفعل قبل سنتين، وأنا يا فندم مقدر جميل اهتمامك وممتن، وهناك من هو أولى منى بالعلاج على نفقة الدولة، ثم أردف: ومع ذلك فإننى أعتبر عرضك «احتياطى استراتيجى» حين الضرورة.

ضحك الرئيس ومازحه: يا أستاذ هيكل احتياطى استراتيجى إيه؟.. هو أنت لازم تفلسف كل حاجة فى الدنيا.

بدت هذه المهاتفة فى جانبها الإنسانى مقدرة من الأستاذ هيكل، وقد تكون هناك اتصالات أخرى جرت بينهما فى ظروف مختلفة.

طلب الأستاذ هيكل من السناوى عدم نشر أى أخبار عن هذه الاتصالات، مفضلًا أن يترك للرئيس وحده تقدير النشر من عدمه، وقد التزمت «العربى» برغبة الأستاذ فى عدم النشر إلى أن اقتحمت صحيفة رسمية القصة بصورة مشوهة خلطت ما لا يختلط بين تقديرات سياسية من حق هيكل أن يعرب عنها وأن ينتقد أوضاعًا سياسية حالية وفق اعتقاداته وبين اعتبارات إنسانية ملك أصحابها. 

قبل أن تذهب الجريدة إلى المطبعة صباح السبت ١٤ أبريل اتصل هيكل فى الساعة السادسة صباحًا ليراجع الصياغة بنفسه ويتأكد من دقة كل حرف فى كلام حساس.

ويقول السناوى: كان يراجع ما رويته على نص أصلى أمامه، فقد سجل الواقعة فى خطاب شكر مكتوب بعث به إلى الرئيس من باب الوفاء، وفى الوقت نفسه لكى يكون هناك مرجع لا يترك مجالًا لسوء فهم، كما كتب بقلمه فى كتابه الأخير «مبارك وزمانه»، وقد كان مبارك فى السجن وزمانه انقضى، ويستوقف الانتباه أولًا تعبير الوفاء للسؤال عنه فى لحظة مرض، ويستوقف الانتباه ثانيًا أنه نشر الرسالة بكامل ألفاظها وحروفها كما كتبت فى وقتها وظروفها دون تعديل حرف واحد.

المرة الثانية التى رد فيها هيكل على حملة الهجوم عليه، كانت فى حلقة بقناة الجزيرة أذيعت فى الأسبوع الأخير من إبريل ٢٠٠٧. 

بدأ محاوره الحلقة بقوله: البداية ستكون من مصر.. هناك فى الأوساط السياسية والصحفية قضية شهيرة باتت تعرف بتصريحات هيكل لروبرت فيسك، ولم يكن حوارًا بل كان جلسة خلقت ردود أفعال بين مؤيد ومعارض، ما قيل إن هيكل قال فى أثناء الحديث مع فيسك إن مبارك يعيش فى عالم خيالى فى شرم الشيخ، وأنه دخل السياسة متأخرًا، أى فوق الخمسين.. كيف تابعت هذه الضجة؟ 

وأجاب هيكل: أولًا أنا لم أجر حديثًا مع روبرت فيسك، وهو صحفى كبير ومعروف، وهو صديق وبقالنا فترة ما اتقبلناش، وسألنى: إوعى يكونوا خوفوك؟ وأنا أجبت: لا خوفونى ولا حاجة، وكمان أنا عاوز أقول أنا قلت كل ما نسبه إلى روبرت فيسك حدث فعلًا، ولكن ضايقنى فى الحديث جملة أنا ماقلتهاش، وكمان فى الحقيقة مانسبش لى إنى قلتها. 

يذكره المحاور بالكلمة: كلمة «لافاش كيرى». 

فيجيب هيكل: أنا ما أحبش أقولها، ولكن اللى عاوز أقوله إن الرجل كان معى لطيفًا جدًا، وإن علاقتنا كانت معقولة جدًا، وأنا قلت إنه عايش فى شرم الشيخ، وهذا الموضوع لفت نظرى لأن عاصمة الدولة هى القاهرة، وإقامة الرئيس فى شرم الشيخ معناها أن تظل الدولة رايحة جاية، فضلًا عن نفقات بالغة على السفر والحراسة وغيره، ولذا يكون رئيس الدولة بعيدًا، فإن الاتصالات تكون بالأوراق، والبلد فيها مشاكل ضخمة تستلزم بقاء رئيس الدولة فى القاهرة، ومعروف أن الرئيس فى مصر فى يده كل السلطات، وهل لما يكون فيه مشكلة اتصل برئيس الوزارة؟ رئيس الوزارة ليس له إلا ما أعطاه الرئيس مبارك من صفة، وهذا ليس اتهامًا لرئيس الوزارة، أو تقليلًا منه، ولكن رئيس الدولة يظل المسئول عن كل التصرفات باستمرار، وهو حسب هذه الرؤية يكون بعيدًا فى معظم الوقت عن العاصمة. 

وينقل هيكل الحوار إلى مساحة أخرى. 

يقول: فى أول مقابلة مع الرئيس مباك كنت بقول له: إن الرئيس السادات طول الوقت كان ينتقل بين القناطر وأماكن مختلفة، وقد وافقنى الرئيس مبارك على كلامى، فأنا أتصور أن الرئيس عنده مسئوليات ويجب أن يكون موجودًا، حيث تكون هذه المسئوليات. 

أما عن دخوله عالم السياسة متأخرًا، فهذا ما قاله الرئيس مبارك بنفسه، قال لى: إن الرئيس السادات حين دعانى كنت أعتقد أننى هاكون سفيرًا وهانضم لعالم الإكسلانسات، الرئيس مبارك بدأ فى العمل السياسى وهو فى الأربعينات أو الخمسينات، وإذا لم تهتم بالسياسة فى مرحلة الشباب الباكر، فأنت محتاج إلى جهد أكبر لتعويض ما فات من مرحلة عمرية، وبذلك كان محتاج إنه يعمل جهد كبير حتى يقترب من السياسة، ورئيس الدولة مهمته أن يسوس ويقود الدولة. 

الرئيس مبارك حسب رأيى تعود فى عمله ومهنته أن يكون رد فعله واضحًا، فهو طيار كل شىء لديه محسوب السرعة والارتفاع، ولكن فى السياسة عليك أن ترد الفعل أمام أشياء غير منظورة، يعنى إيه الجماهير؟ يعنى إيه التاريخ؟ يعنى إيه الأمة؟ وهو كان حتى سن معينة ردة فعله باستمرار أمام الأمور محددة، فهناك فرق بين الرؤية العسكرية ورؤية الأمن القومى، فهناك إسرائيل والعرب والحدود الشمالية والحدود الجنوبية. 

هيكل: مبارك رجل جاء البلد فى فترة احتقان شديدة واستطاع تهدئة الوضع

قال له محاوره: الراجل مظلوم لأنه حينما خلف الرئيس السادات المشاكل كانت بدرجة دائمة لا تسمح له بأن يجلس ويدرس الأمور. 

لا يعلق هيكل على ما قاله محاوره، بل يواصل حديثه كما خطط لذلك. 

يقول: أنا أقدر شخص الرئيس، قلت فى حديث بفضل نجاحه، ليست هناك أفعال مادية متبادلة، ما كان بيننا هو احترام متبادل، وبعض الناس وأنا لا أعتبره صاحب فضل على، لكنه رجل جاء البلد فى فترة احتقان شديدة، واستطاع تهدئة الوضع، أخرجنى من السجن، أستغرب إن حد يقول لى هذا كتبته فى خطاب مفتوح له، الرئيس مبارك عندما جاء لاستعادة شرعية النظام كان قراره الذى لم يختلف عليه أحد، هو إفراجه عن كل المعتقلين، وأنا لم يكن لدى مانع فى السجن لأنها كانت التجربة الغائبة فى حياتى السياسية كلها، لكن مبارك أخذ هذا القرار لاستعادة شرعية النظام وليس إكراما لأحد.

ثم إنه لم يفرج عنى وحدى، بل أفرج عن كل الناس، ودعانا كلنا لكى يطيب الخواطر بعد لحظة عاصفة فى تاريخ مصر، وقال لنا: انسوا ما حدث وابدأوا من جديد. 

أنا أحكى هذه المسائل؛ لأنها تقتضى بعض التوضيح، بعدها بـ٥ أيام دعيت لمقابلته. 

وهنا يفجر هيكل مفاجأة كبرى. 

ففى كتابه «مبارك وزمانه.. من المنصة إلى الميدان» أكد أن الرئيس دعاه وقابله لمدة ست ساعات، وكان فى هذا اللقاء وحده، لكنه هنا يقول: تفضل الرئيس مشكورًا ودعانى مع فؤاد سراج الدين وقابلناه من ٩ صباحًا حتى ٢ ظهرًا، وقد تكرم وأعطانى أرقام تليفوناته. 

مشكلة هيكل وعقدته أنه لم يقترب من مبارك كما اقترب من غيره ولم يستفد به

هنا يمكننا أن نمسك بما نعتبره تدليسًا من هيكل، فقد روى أنه كان وحده، رغم أنه لم يكن كذلك، وهى على أى حال مجرد ملاحظة أعتقد أنها ليست عابرة. 

عاد محاور الجزيرة ليسأل هيكل: من بين ما كتب فى المقالات قول بأن مشكلة هيكل وعقدته أنه لم يقترب من مبارك كما اقترب من غيره، ولم يستفد به، لذلك أصبح هناك نوع من الغيظ حيث إنك تكلمت بمنطق ثأرى؟ 

ويرد هيكل من خلال سرد قصته الكاملة مع مبارك. 

قال: عندما قابلت الرئيس مبارك بعد خروجى من السجن فى لقائى الأول معه، قلت له: هكتب كتاب اسمه «خريف الغضب»، يتعرض لأسباب اختلافى مع الرئيس السادات. 

بعد ذلك كل مرة أتيحت لى فرصة خطاب لم أخاطب سواه. 

وطلبنى ذات يوم مكرم محمد أحمد، وقال لى: مضت سنة على خروجك من السجن، اكتب رؤيتك لما حدث، واستجبت لمكرم وكتبت ٦ مقالات، وعملتها على شكل خطابات مفتوحة للرئيس؛ لأنه فى رأيى لا يمكن مخاطبة غير الرئيس، لأننى لا أعلم هل من الممكن مخاطبة غيره، لأنه تضييع وقت فلا يمكن أن أكلم عاطف عبيد وغيره، كل هؤلاء موظفون، هم ناس كفاءة لكن قاعدتهم هى اختيار الرئيس لهم. 

اخترت أن أكتب مقالاتى كخطابات مفتوحة للرئيس، ٢٥ صفحة فى كل خطاب، وأول خطاب قلت له: أنا باكلمك من قلبى حرصًا على البلد، فأنت لست صاحب فضل على، البلد مر بمشكلة كبيرة أنت خرجت منها رئيس جمهورية، وإحنا خرجنا من السجن؛ لأن الحرية لا يستطيع أحد أن ينزعها ولو كنا فى السجن. 

أخطأ البعض فى فهم هذا؛ لأن هناك من تصور أنها خطابات خاصة للرئيس، لكن هناك آخرين فاهمين طبيعة تلك المقالات، وقلت لمكرم: من فضلك لا تنفرد بقرار فى نشر تلك المقالات، وبعد ١٥ يومًا طلب مقابلتى صديق قديم عندما كنت وزيرًا، جاء لى هو وزوجته فى دعوة عشاء فى منزلى، وهو أسامة الباز ومعه الـ٦ مقالات التى أعطيتها لمكرم، وسألته: فيه إيه؟ 

فقال لى: بلاش المقالات؛ لأنها ممكن أن تسبب إحراجًا خاصة أمام القوات المسلحة. 

قلت له: خلاص مفيش مشكلة. 

واندهش أسامة، وقال لى: غريب قوى أنا لم أكن متصور ده. 

لأن أسامة كان مؤمنًا أنها ستنشر خارج مصر. 

وقلت لأسامة: خلاص لن أنشرها فى مصر أو فى الخارج، واحتفظت بهذه المقالات ٢٥ عامًا حتى هذه اللحظة، وأعتقد أنها صالحة للنشر حتى الآن «نشرها هيكل بعد ذلك بعام واحد فى ٢٠٠٨». 

وأنا لم أطلب الرئيس فى التليفون، ولكنه أثناء مرضى اتصل بى، وقال: المرض ليس له كبير.. روح أمريكا يا أستاذ هيكل، ورديت: أنا رحت اتعالجت ولو احتجت إلى علاج أنا قادر على علاج نفسى، وفيه غيرى أولى. 

استمرت علاقتنا فى هذا الإطار، لكننى لم أخطئ فى حقه، وبعدين عندما قررت أن أكتب، لم أوجه خطابًا لغيره، بمعنى أنه بعد عام كتبت ٦ مقالات عنوانها «سيادة الرئيس»، وعندما كتبوا عنى أننى أكتب تقارير، قلت: دى جوابات مفتوحة. 

عندما جئت أكتب فى المرة الثانية، إبراهيم سعدة دعانى للكتابة فى «أخبار اليوم»، لم يكن هناك اعتراض، واخترت أن أكتب عن صنع القرار السياسى. 

وأنا عارف إنها عملت مشكلة، بعدها تكلمت فى معرض الكتاب عن مشكلة الرئاسة وتم وقفها، وحين تكلمت بالجامعة الأمريكية حملته هو المسئولية، وأثرت قضية التوريث، لكن طول الوقت كنت لم أخاطبه بمنطق أن أكون قريبًا منه أو مستشارًا له. 

الرد الثالث على ما واجهه هيكل كان من خلال رسالة أرسل بها إلى الكاتب الكبير يوسف القعيد، لكن تم هذا بعد ما يقرب من عام، ربما لأن الحديث كان عن أولاده، فاختار أن يثيره بعد أن تهدأ الضجة تمامًا. 

كان عبدالله كمال قد ألمح إلى بيزنس وصفقات أبناء هيكل، فكان رده على هذا الكلام من خلال يوسف القعيد، الذى كان قد نشر حوارًا مطولًا على ثلاث صفحات فى عدد جريدة الدستور الصادر فى ٢٤ سبتمبر ٢٠٠٨، واعتبره هيكل دردشة مطولة وليست حوارًا. 

الرسالة نشرتها جريدة الدستور فى عدد ٢٨ سبتمبر ٢٠٠٨ واختارت لها عنوانًا واضحًا ودالًا ومباشرًا فى سياق القضية. 

كان العنوان «رسالة من هيكل إلى يوسف القعيد.. لا أقترب من عمل أبنائى؛ لأننى أعرف ما يكفى عن تربيتهم وتعليمهم». 

وفى نص الرسالة يقول هيكل: 

أولًا: هناك ملاحظة تتصل بما ورد فى دردشتك عن أبنائى، فأنت صادق إلى أبعد مدى فيما نقلته من سعادتى بهم، فهم فى يقينى أعظم نعم الله على، ولعلمك فإن سعادتى بهم ليست لأنهم دكاترة كما تفضلت وكتبت، فالألقاب العلمية فى عالمنا العربى بالزاف، كما يقول إخواننا فى الجزائر، وربما تستعيد ذاكرتك أن حديث الدرجات العلمية ورد فى سياق دردشتنا عندما استذكرت أنت عن إدوارد سعيد أن لقب دكتور لا يصح أن يستعمل خارج الجامعة، وإلى حد ما فإن ذلك هو العرف، فاللقب الأكاديمى مكانه داخل الجامعة، لكنا كالعادة سحبنا الأشياء إلى ما وراء حدودها. 

ولقد شاع تقليد استعمال لقب الدكتور أو اختصاره فى حرف الدال ربما تشبهًا بصديقى القديم هنرى كيسنجر، لكن من أخذوا بهذا التقليد نسوا أن كيسنجر كان أستاذًا متفرغًا فى جامعة هارفارد، ثم إنه ظل حتى أثناء عمله فى البيت الأبيض مستشارًا للأمن ووزيرًا للخارجية مع الرئيس نيكسون. 

ثانيًا: ولقد استدعت دردشتك ذكر أبنائى فى صدد حديث جريدة يعتزم صديقنا إبراهيم المعلم إصدارها، وذكرت بدقة أننى كنت مترددًا فى حضور إفطار دار الشروق حتى لا أسبب حرجًا له وهو ناشرها، فقد أشيع أن التصريح له بنشرها تأخر بدعوى أننى على صلة بها، لأن شركة يسهم فيها ويديرها أحمد هيكل اشترت بعضًا من أسهم شركة مطابع الشروق، وفى ذاكرتى أننى خلال دردشتك لاحظت أن ذلك ما يقال، لكننى لا أعرف إذا كان القول صحيحًا أو غير صحيح، لأنها كقاعدة لدى- بل كقانون- لا أقترب من عمل أبنائى، ذلك أننى أعرف ما يكفينى عن نشأتهم وعن تربيتهم وعن تعليمهم، وعن مجموعة القيم التى تحكم تصرفهم، أما فيما عدا ذلك فهو باستمرار خيارهم، بالإضافة إلى أننى من مدرسة تعرف أنه ليس من حق جيل الآباء اقتحام حياة جيل الأبناء ولا حتى بالسؤال.

هيكل كان يضرب مبارك ونظامه بقوة ولم يكن يرد على حملات الهجوم عليه

فأنا لم أرد ولا أريد لأحد من أبنائى أن يكون غير نفسه، وأن يكون حرًا مع عصره وزمانه، فتلك الحرية هى حركة التطور الإنسانى ذاته بل دافعه، فالآباء كنسق عام حياة فى الماضى، والبناء بنفس المعيار حياة فى الحاضر، خصوصًا إذا كان هذا الحاضر موصولًا بالعالم وبالكون على اتساعه، وكذلك فإنه يكفينى أن أرى أبنائى أمامى أو من حولى، راضين فأرضى، أو منشغلين فانشغل، وكله بالنظر لا سؤال ولا جواب.

ولعلمك فإننى لن أدخل مكتب أى من أبنائى قصدًا، باستثناء مكتب على، وهو أستاذ فى كلية الطب، وله عيادة يرعى فيها مرضاه وأنا منهم، فقد أخذ على نفسه مهام صحتى، وكان حاجبًا عنى إزاء زيارات طرق فيها السرطان بابى أكثر من مرة، واستطاع برعاية الله أن يتصدى للزائر الملح وأن يقنعه- حتى الآن- أن يتركنى وشأنى ولو إلى حين.

كان هيكل يضرب مبارك ونظامه بقوة، ولم يكن يرد على حملات الهجوم عليه، لكنه رد هذه المرة وبأكثر من طريقة، لأن الهجوم عليه كان موجعًا، دفعه إلى أن يتنازل عن اعتصامه بالصمت، وعندما رد ظهر أنه لم يكن يهاجم مبارك من باب الانتقاد السياسى المشروع، ولكن لأنه كان فى النفس ما فيها.