تاريخ الأساتذة.. الفريضة الغائبة فى نقابة الصحفيين

- نحتاج إلى برامج لتعريف الصحفيين الجدد بتاريخ المهنة وتاريخ أساتذتها
قد يعتقد الزملاء الأعزاء المنتمون إلى مهنتنا المقدسة أننى سأفتح مرة ثانية باب الحديث عن قيمة الحوار المفقودة فيما بيننا، على هامش الواقعة المحبطة التى جمعت بين الصديق العزيز خالد البلشى، نقيب الصحفيين، والكاتب الكبير عادل حمودة، أستاذنا وأستاذ أجيال متعاقبة، لكننى لن أقترب منها رغم خطورتها ودلالتها وموقعيتها فيما وصلنا إليه وما وصلت إليه مهنتنا.
فى أحد تعريفات الصحافة، هى الأداة التى تقوم بإدارة الحوار فى المجتمع بين ألوانه السياسية المختلفة، وصنوفه الفكرية المتباينة، وأطرافه المتصارعة.
فما بالنا وقد وصلنا إلى افتقاد القدرة على إدارة حوار فيما بيننا حول قضايانا وأزماتنا؟، فبدلًا من أن نصل معًا إلى كلمة سواء، إذا بالحوار بيننا يتحول إلى ساحة قتال تُستخدم فيها كل الأسلحة المشروعة وغير المشروعة، بل إن بعض الزملاء لا يترددون فى استخدام أسلحة محرمة مهنيًا.
قد تحتاج هذه القضية إلى مزيد من الضبط، وكذلك إلى المزيد من الإجراءات الحاسمة.
فمَن يتجاوز لا بد أن يُعاقب.
ومَن يخرج على لغة الحوار الراقية، لا بد أن يتعلم.
ومَن لا يعرف قيمة وسمو المهنة التى ينتمى إليها، عليه أن يبحث لنفسه عن مهنة أخرى.

لفتت هذه الواقعة، التى انتهت ببيان من خالد البلشى، يطالب فيه مَن خرجوا على آداب الحوار مع الأستاذ عادل حمودة بأن يلتزموا بالتقاليد النقابية العريقة التى تعلمناها من أساتذتنا الكبار، وبأن تقف أى سجالات حتى لا ننجر إلى أى تلاسن، لا يليق بنا جميعًا، إلى قضية مهمة أعتقد أنها أولى بالنقاش، وعلى القادم إلى مقعد نقيب الصحفيين فى الانتخابات المقبلة أن يمنحها اهتمامه الأكبر.
لقد اهتمت نقابة الصحفيين، خلال السنوات الماضية، بتطوير برامج التدريب التى تقدمها للصحفيين، وبذل زملاء أعزاء فى ذلك جهدًا مقدرًا ومشكورًا، وهى برامج تهتم بإعداد الزملاء وتنمية مهاراتهم وتعظيم أدواتهم، وهو جهد لا ينكره أحد، وإن كنت أعيب عليه أنه يفتقد لشىء مهم، وهو تعريف الصحفيين الجدد بتاريخ وعطاء ومساهمة الأساتذة الكبار فى مهنتنا العظيمة.

فى مقاعد الدراسة بكلية الإعلام جامعة القاهرة، تعلمنا من أساتذتنا وعلّمنا طلابنا تاريخ الصحافة المصرية، ورغم أن كثيرين يضيقون فى قاعات الدرس بهذه المادة، على اعتبار أنه يمكن تحصيل محتواها دون الحاجة لأن تكون مادة للتدريس والاختبار، فإن فلسفة تدريس هذه المادة تشير إلى أهميتها.
فليس معقولًا أن ينتمى أحدهم إلى مهنة لا يعرف تاريخها وتطورها، ولا يكون لديه علم بمَن سبقوه فيها، ولا ما قدموه وبذلوه من جهد وتضحيات لاستمرار هذه المهنة، التى تجد نفسها طوال الوقت فى مواجهات حادة مع سلطات المجتمع، ولا فرق بين السلطة السياسية التى تريد تطويع الصحافة لتنطق بلسانها، والسلطة الاجتماعية التى لا تريد للصحافة أن تنطق من الأساس، وإذا نطقت فلا بد أن تكون مؤدبة ومهذبة وغير مشاغبة، فلا توجد سلطة تحب الصحافة أو ترحب بها، فالكل يريد للصحافة أن تظل ساكنة فى بيت الطاعة لا تغادره أبدًا.
يعرف مَن دخلوا الصحافة من أبواب كليات الإعلام وأكاديمياته المختلفة قيمة المهنة وقيمة روادها وأساتذتها، ولكن قد تغيب هذه القيمة عن هؤلاء الذين يلتحقون بالمهنة من غير أبناء كليات الإعلام، فهؤلاء يغيب عنهم أحيانًا تاريخ المهنة وتاريخ أساتذتها، ولذلك لم يكن غريبًا أن يتحدث هؤلاء عن المهنة وأساتذتها باستهانة، وهى استهانة تبدو فى سؤال تافه ومتهافت يطرحه البعض عن أحد أساتذة المهنة مثلًا بصيغة: هو مين فلان؟ أو ماذا أضاف فلان إلى المهنة؟

الفريضة الغائبة التى أتحدث عنها هنا، وأعتقد أن نقابة الصحفيين تهملها تمامًا فى برامج تدريبها، هى تعريف الصحفيين الجدد من خلال برامج تدريبها بتاريخ المهنة وتاريخ أساتذتها، وهو ما يضمن استمرارها وتواصل تراكمها، فنحن لا نعمل إلا لأن هناك مَن مهد لنا الطريق، وجعله سهلًا بسيطًا ميسرًا، ودون هؤلاء فلا أصل ولا سيرة ولا تاريخ.. ولا مستقبل أيضًا.
لدينا فى مكتبات كليات الإعلام دراسات كثيرة عن تاريخ الصحف وتاريخ الصحفيين، لكنها فى النهاية تظل دراسات أكاديمية جافة، غير قادرة على أن تكون مصدرًا للمعرفة الحقيقية، وهو ما يجعلنا أمام تحدٍ كبير، فتحويل تاريخ المهنة وتاريخ أساتذتها إلى مادة معرفية جذابة للأجيال الجديدة، مهمة يجب أن تتصدى لها النقابة.

وحتى لا يكون اقتراحى نظريًا يتبدد بمجرد نهايتك من قراءة ما أكتبه هنا.
فإننى أقترح على نقيب الصحفيين القادم أن يُطلق مركزًا بحثيًا تكون مهمته الأساسية «دراسات الصحافة فى مصر»، يعمل على واقعها وتاريخها ومستقبلها، وينتظم فيه عدد من أساتذة الجامعة والباحثين الجادين من الصحفيين، ولدينا عدد كبير منهم، وسيكون من السهل توفير تمويل ملائم ليعمل هذا المركز بحرية واستقلالية، فيمكن أن تسهم المؤسسات الصحفية فى تمويله والإنفاق على الدراسات التى سينتجها، وهى الدراسات التى ستصدر بعد ذلك فى كتب وكراسات، ولدينا عشرات من دور النشر الكبيرة التى يمكن أن ترحب بنشرها.
هناك محاولات كثيرة من زملاء صحفيين كتبوا بالفعل فى تاريخ المهنة، ووثّقوا تاريخ الأساتذة، لكنها فى النهاية تظل محاولات فردية لا يجمعها سياق واحد، فالكتب التى صدرت حتى الآن، فوق أنها تعانى من بعض السطحية والشعبوية، إلا أنها تهتم بالمشاهير من أساتذة المهنة فقط، دون الالتفات إلى أساتذة كبار أسهموا مساهمة كبيرة فى تطوير مهنتنا، لكنهم لم يحظوا بالشهرة والانتشار.
إننى أضع فى عنق هذا المركز مهمة أساسية، وهى وضع خريطة كاملة لتاريخ المهنة، من الصحف التى صدرت، والصحفيين الذين عملوا فيها، والقضايا التى عالجتها الصحف ومواقفها من الأحداث الكبرى، والأفكار التى طرحها المجتمع، خريطة تكون معنية بتأكيد استحقاق الصحافة المصرية؛ لأن تكون مصدرًا أساسيًا من مصادر التاريخ.
إننا نتحدث كثيرًا عن أساتذة المهنة، ونستفيض فى الحديث عن مدارسهم المهنية، لكننا فى الحقيقة نقع أسرى للعشوائية فى الحديث عن هذه المدارس.
وأذكر أننى منذ سنوات جمعنى حديث مع الصديق العزيز سعيد شعيب قبل تغريبته فى كندا عن المدارس الصحفية المختلفة التى شكلت الصحافة المصرية.

قلت له: «يمكنك أن تسمع مثلًا عن مدرسة الأستاذ أحمد بهاء الدين أو مدرسة الأستاذ إحسان عبدالقدوس أو مدرسة الأستاذ هيكل أو مدرسة الأستاذ مصطفى أمين، أو مدرسة الأستاذ صلاح حافظ أو مدرسة الأستاذ محمود عوض أو مدرسة الأستاذ عادل حمودة، لكن لا تستطيع أن تجد كتابًا واحدًا أو دراسة فى تفصيل هذه المدارس ولا ملامحها المهنية والفكرية، كل ما أنتجناه حتى الآن مجرد انطباعات شخصية وتاريخ ذاتى بمنهجية السيرة الغيرية، لا مكان فيه للعلم أو الدراسة المنهجية».
اقترح سعيد، وقتها، وكان يعمل فى اليوم السابع، أن نلتقى الصديق العزيز خالد صلاح، الذى كان متحمسًا للغاية للفكرة، ويومها اتفقنا أن تتولى اليوم السابع تأسيس مركز لدراسات المدارس الصحفية، لكن أخذتنا مشاغل الحياة وتقلباتها، فلم يُكتب للفكرة أن ترى النور.

الآن أنا أعيد طرح هذه الفكرة، وأرى أنه من المناسب أن تتبناها نقابة الصحفيين، فهى ليست معنية بإدارة شئون المهنة فى حاضرها فقط، ولكنها مسئولة، كذلك، عن الحفاظ على تاريخها وتاريخ أساتذتها.
وما يجعلنى أؤكد أهمية هذه الفكرة، ما أراه من حالة تجاهل لتاريخ المهنة وعطاء أساتذتها، سببها فى اعتقادى الجهل الشديد بهذا التاريخ.
فمَن يكتب تاريخنا، إن لم نبادر نحن إلى ذلك؟
ومَن يمكنه أن يحافظ على تراثنا، إن لم نكن نحن مهمومون بذلك؟
ومَن يستطيع أن يجمع شتات ما تفرق، إن لم نقم نحن به؟
إننى أثنى بشدة على مبادرة الزميل العزيز أيمن عبدالمجيد، عضو مجلس النقابة، التى يحتفى من خلالها بشيوخ المهنة ويقوم بتجميعهم للاحتفاء بهم وتكريمهم، وهى لفتة إنسانية راقية، لكن لماذا لا نفكر فى مشروع كبير يكون أحد مهام المركز المقترح، نسجل من خلاله مذكرات هؤلاء الصحفيين الكبار، ونرصد تجاربهم فى بلاط صاحبة الجلالة، ونقوم بنشر هذه التجارب فى صحفنا ونصدرها فى كتب بعد ذلك، ونحولها إلى وسائط تكنولوجية حديثة؛ حتى تكون متاحة على أوسع نطاق.
إننى على استعداد كبذرة لهذا المشروع وبمساعدة عدد من الزملاء المؤهلين لذلك، علينا أن نقوم على جمع كل كتب مذكرات الصحفيين والكتب التى صدرت عنهم، أو جمعت حوارات معهم وهى كثيرة جدًا، وتأسيس مكتبة خاصة لها، تكون مرجعية للصحفيين، يعرفون من خلالها مَن سبقوهم.

كما يمكننا أن ندشن صالونًا فى نقابة الصحفيين نطلق عليه «صالون الرواد»، يكون ضيوفه من شيوخ المهنة، يحضره شبابها، كى يستمعوا مباشرة من أصحاب التجارب ما قدموه للمهنة، وهو عمل لن يكون مفيدًا على المستوى المعرفى فقط، ولكن عائده العملى سيكون كبيرًا، فالصحفيون من الشباب الذين أرصد فى تصرفاتهم وكتاباتهم غرورًا غير مبرر، سيجدون أنفسهم أمام مَن أسهموا فى بناء صرح المهنة الكبير، ما يمكن أن يكون حافزًا لهم لأن يكون أكثر تواضعًا وانتماء لمهنة هى عظيمة بالفعل، وإذا كانت تعانى الآن، فذلك لأننا لا نعرف قدرها ولا تاريخها ولا دورها ولا قيمتها.
قد يعتبر البعض أن ما أطرحه هنا رفاهية معرفية تتضاءل أهميتها أمام المشاكل الاقتصادية العنيفة التى يعانى منها الصحفيون، وهى قضية أعتقد أن النقابة فى عهدها الجديد يجب أن توليها اهتمامها الأكبر، لكن فى الحقيقة فإن ما أتحدث عنه هنا يعزز مكانة الصحفيين ويرفع من قيمة شعورهم بمهنتهم.

الصحفيون ليسوا أرزقية، ولكنهم قادة رأى لهم دورهم الذى يعتز به أو يجب أن يعتز به الجميع، لكننا نحن مَن فرطنا فى مهنتنا، أهدرنا قيمتها، تعاملنا معها على أنها مصدر لراتب شهرى هزيل، دون أن نعى أننا نستطيع برفع كفاءتنا أن نحصل على كل ما نريده، فلا تكون هناك شكوى من ضيق رزق أو ضياع مستقبل للمئات كل عام، هؤلاء الذين يتفلتون من طابور المهنة لأنهم ليسوا على قدرها، يعملون فيها كموظفين، ولستم فى حاجة إلى أن أقول لكم إن هذه المهنة لا مكان فيها للموظفين.
أمامنا الآن فرصة حقيقية أن نقدم شيئًا محترمًا وله قيمة لمهنتنا.

علينا أن ننحى جانبًا حالة الصراع على خلفية سياسية، خاصة أن المهنة دخلها خلال السنوات الأخيرة مَن لا يجيدونها ولا يملكون مؤهلاتها، انخرط فيها من جاءوا من خلفيات سياسية بحتة، وهؤلاء الشأن المهنى هو آخر همهم، وأقل ما يعملون من أجله.
هل مناسب الآن أن أدعو إلى تطهير جداول النقابة ممن انتسبوا إلى المهنة دون أن يكون لهم الحق فى ذلك؟
هل مناسب أن أقول إننا فى حاجة إلى لجنة محايدة من شيوخ المهنة وأساتذتها والخبراء بها تقوم على فرز من دخلوا النقابة منذ ٢٠١١ حتى الآن، والقيام على مقابلة من سيدخلونها فى السنوات المقبلة؟
أعتقد أننا أصبحنا فى حاجة ملحة إلى ذلك، هذا إذا كنا نريد أن نحافظ على هذه المهنة ونحميها من السقوط الذى أصبح يهددها كل يوم.

إننا فى حاجة إلى قرارات جريئة، لا نراعى فيها شيئًا إلا صالح المهنة ومستقبلها، الذى هو مستقبلنا جميعًا.
إننا نتصدى فى الصحافة للمطالبة بتطهير كل مؤسسات الدولة حتى يستقيم لها الحال، وأعتقد أننا مطالبون، أيضًا، بأن نطالب بتطهير صفوفنا ممن انتسبوا إلى المهنة دون وجه حق.. وهم كثيرون.. ونحن نعرف أنهم كذلك.
أعتقد أن ما أقوله يجب ألا يُغضب أحدًا، رغم أننى أتوقع أن يتزايد من حولى الغاضبون، لكن لا خير فينا إن لم نقلها، ولا خير فيكم إن لم تسمعوها.