كاتبات ضد الإقصاء.. كيف قاومت المرأة «السلطة الذكورية»؟

- السلطة الذكورية وليدة تراكمات اجتماعية وثقافية وفكرية كثيرة
- الظلم الذى يقع على المرأة عمومًا والكاتبات خصوصًا ظلم واضح ومكثف وتاريخى
عندما صدر كتابنا «لماذا تموت الكاتبات كمدًا؟!» عن مؤسسة بتانة عام 2016، أثار جدلًا متنوعًا وكثيفًا، بين رافضين بشدة لما ذهبنا إليه من الاستبعاد وعمليات التقزيم التعسفى التى رصدناها للكاتبات من كل التيارات الفكرية والأدبية والسياسية، ورصدنا كتّابًا ومفكرين من طراز د. طه حسين الذى هاجم- على سبيل المثال- الآنسة مى زيادة والسيدة درية شفيق بشدة ليست غريبة عليه، رغم طليعته التى لا تخفى على أحد، فنحن نتنفس طه حسين وفكره وأدبه على مدى حياته المديدة، وحتى الآن، ولكن فى كل معاركه كان يستخدم كل سلطاته السياسية والأدبية واللغوية، حيث إنه كان وزيرًا للمعارف فى حكومة حزب الوفد عام 1950، ثم بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952 أصبح أكثر المقربين لها، بل كان أحد المتحدثين باسمها، وكأن هذا القرب دفعه لعملية سحق مكثفة لدرية شفيق، التى طالبت هى ورفيقاتها بإدراج مطالب عادلة فى الدستور الجديد عام 1954، وهذا لا ينفى بأى شكل من الأشكال تعظيمنا وتقديرنا للدكتور طه حسين ودوره التنويرى العظيم الذى قدّمه للمصريين والعرب والإنسانية جمعاء،
كما أننا نؤكد أن هذا الظلم الذى يقع على المرأة عمومًا، والكاتبات خصوصًا، ليس وليد نفس ذكورية شيطانية فردية مجردة عن كل ما يحيط بها، بل إنه ظلم واضح ومكثف وتاريخى، لتراكم المنظومة الثقافية والاجتماعية المتردية، والتى لعبت عناصر مؤسسية وبشرية عديدة فى تعميق توجهها، ولم يتوقف الأمر عند طه حسين، بل امتد لأحمد لطفى السيد وسلامة موسى وأحمد أمين وعباس محمود العقاد وإبراهيم عبدالقادر المازنى، كما أوضحنا فى كتابنا السالف الذكر، وكتابنا الثانى فى هذه السلسلة، والذى خصصناه للكاتبة «مى زيادة»، وهو كتاب «الذين قتلوا مى»، والذى صدر عن مؤسسة أخبار اليوم فى مطلع عام ٢٠٢٢، وهذا يثبت أن الأمر لا يتعلق بمفكر أو كاتب أو شاعر فرد فحسب، بل يتعلق بالمنظومة الفكرية والاجتماعية والثقافية والسياسية المصرية والعربية، كما أكدنا مرارًا وتكرارًا.

كما أن الكتابين «لماذا تموت الكاتبات كمدًا؟!»، و«الذين قتلوا مى» وجدا اهتمامات إيجابية حانية من أطراف عديدة، واعتبرهما بعض المتابعين بأنهما كتابان يفتحان هذا الملف للمرة الأولى، ويكشفان عن عوار شبه مجهول وتم السكوت عنه لفترات طويلة، وكان سكوتًا شبه مستتر تحت شعارات جوفاء، وعبارات فضفاضة، لا تنكأ الجراح الكامنة فى كل أنحاء القضية، كما أن هؤلاء المتابعين الإيجابيين اكتشفوا أن الأمر لا يقتصر على أباطرة الثقافة والجيل القديم فقط، ولكنه امتد إلى الأجيال الجديدة، وفى قلبها تيار اليسار الحداثى والطليعى والثورى، وقد قمنا بعمليات بحثية وتنقيبية فى مجلات يسارية مستقلة، منها «جاليرى ٦٨»، فلم نعثر على نص واحد «يوحّد الله» لكاتبة من الكاتبات اللاتى كن يشاركن بقوة فى الحركة الأدبية، فقط نص للكاتبة الشابة «آنذاك» صافيناز كاظم- لأنها كانت قريبة من اليسار- كما عثرنا على قصيدة شعرية لأبولينير، ترجمتها إلى العربية الأستاذة نادية كامل، دون ذلك لا توجد أى دراسة أو مقالة تتناول أى كتابة تخص المرأة بالنقد أو التحليل، رغم كثرة الكاتبات وانتشارهن فى ذلك الوقت، ولكنه انتشار دون أى اهتمام.
ورغم كل أشكال الاستبعاد التى تشبه التنكيل، ورغم كل هذا التسخيف لما تكتبه المرأة، إلا أننا سننشغل فى هذه الحلقات بما قدّمته الكاتبات على مدى عقود عديدة، واستطاعت أن تقاوم كل أشكال التعسف والتهجير والاستبعاد والتنكيل، وبالفعل كانت المرأة الكاتبة شبه منفية، وغير موجودة، وعندما قدم الكاتب والأديب الكبير يحيى حقى د. نوال السعداوى فى أول مجموعة قصصية لها عام ١٩٦١، وهى مجموعة «تعلمت الحب»، والتى صدرت عن مكتبة النهضة المصرية، كان شبه متردد فى تقديمها، لهذا الإرهاب السلطوى الذكورى المشرع فى وجه الكتابة النسائية، أو كتابة المرأة، إذ كتب فى مقدمة حديثه: «قد لا يرضى علىّ أساتذة النقد حين يروننى وأنا أتناول بترحيب قصة بقلم واحدة من بنات حواء، وأجعل أول همّى لا أن أتدبر شكلها ومضمونها والمذهب الذى تنتسب إليه، بل أن أعرف أكان حديثها حديث المرأة عن المرأة فأفرح به، أم حديثًا يعتنق لغة الرجل ومنطقه فأقول علينا ضاعت الفرصة وعليها؟ فأنا وليد مدنية ألفت وهامت بأن تصف المرأة بأنها لغز، هيهات لذكاء الرجل الفطن أن يسبر غوره! كل ما يعرفه منها أو يكتبه عنها نوع من الرجم بالغيب، وضرب من الحدس والتخمين، قد يكون فى هذا الوصف كثير من الوهم الغافل أو النصب المتعمد».

هذه شهادة من كاتب كبير ومنصف ومحايد، ويركن سلطته الذكورية جانبًا دون أن يتخلص منها بالطبع، حيث إن السلطة الذكورية وليدة تراكمات اجتماعية وثقافية وفكرية كثيرة، والتخلص من تلك السلطوية يعنى التخلص من تلك التراكمات وفقًا لتطورات تاريخية مرهونة بأحداث عديدة، لكن من الممكن تنحية تلك السلطة قليلًا، وقراءة المشهد بما يشبه الحياد، كما فعل يحيى حقى فى قراءته مع نوال السعداوى، وفى أول إنتاج أدبى لها، وما فعله مع نوال السعداوى فعله مع أخريات، إذ قدّم رواية جميلة وممتعة لكاتبة شبه مجهولة، وهى الكاتبة علية هاشم، والتى كتبت رواية لم تنل الاهتمام الذى يليق بها، وهى رواية «صراع فى الأعماق»، ونشرتها عام ١٩٦٧، فى المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، وكتب لها المقدمة يحيى حقى، والرواية تسرد وقائع حادثة حقيقية وقعت بالفعل، ولكنها- كما يكتب حقى- «ارتفعت إلى مقام الإبداع والتعبير الفنى بفضل طاقة روحية كبيرة وحساسية مرهفة».
وكان أيضًا من نصيب الشاعرة ملك عبدالعزيز، مقدمة طيبة من كاتبنا الكبير يحيى حقى، وذلك لمجموعتها القصصية «الجورب المقطوع»، ورغم أنه أثنى عليها وعلى كتابتها وعلى ثقافتها، إلا أنه آثر أن يقول عنها: «فهى نعم الزوجة وكاتب اليد أحيانًا لأحد أئمة النقد والأدب فى وطننا الدكتور محمد مندور، وقد آن للجيل الناشئ الهاجم على فن القصة أن يدرك أن الموهبة وحدها لا قيمة لها ما لم يمدها معين لا ينضب من الثقافة»، وجدير بالذكر أن هذه القصص كُتبت ما بين عامى ١٩٥٤، و١٩٥٨، ثم صدرت فى السنوات الأولى من عقد الستينيات، ورغم أنها قدّمت الكثير من الشعر والنقد والقصة القصيرة، إلا أن المتابعين لها، كانوا حريصين على تذكيرنا بأنها زوجة الناقد الدكتور محمد مندور، وكأن هذا التذكير يعطيها شرعية خاصة، رغم أنها كانت قد حققت حضورها بشكل لافت فى الحياة الثقافية المصرية والعربية، وذلك على المستويين الشعرى والنقدى.
كانت مرحلة الستينيات تعنى دخول المرأة حقل الكتابة بشكل واضح وقوى، رغم كل أشكال الحصار والاستبعاد، وكانت كتابة المرأة فى ذلك الوقت بمثابة حدث غريب، ينظر إليه باندهاش، وهذا ما عبّر عنه د. عبدالقادر القط، عندما كتب مقدمة لمجموعة «سجن أملكه» القصصية، للكاتبة إحسان كمال، والصادرة عام ١٩٦٥ عن الدار القومية للطباعة والنشر، إذ بدأ المقدمة بقوله: «من الظواهر التى يغتبط لها من يتتبع إنتاجنا الأدبى المعاصر ازدياد مشاركة المرأة فى فنون هذا الأدب المختلفة من شعر ورواية وقصة قصيرة، فبعد أن كان عدد الأديبات عندنا صغيرًا محدودًا، وبعد أن كان الناس ينظرون إلى وجودهن فى عالم الأدب كأنه شىء طريف غير مألوف، أصبحنا نلتقى كل يوم فى صحفنا ومجلاتنا وكتبنا بكثير من الأديبات، منهن ناشئات ما زلن يلتمسن طريقهن فى دأب وإخلاص، ومنهن مبرزات يقفن جنبًا إلى جنب مع المرموقين من الرجال فى دنيا الأدب».

هذا ناقد كبير، يعترف بأن وجود المرأة الكاتبة كان غريبًا أو من باب الطرافة، ومن خلال ما كتبه يبدو أن الأمر كان فلكلوريًا، وكنا قد رصدنا كل أشكال الاستبعاد التى سبقت ذلك التاريخ، أى عام ١٩٦٥، ورغم ذلك فإن الأمر ظلّ فاعلًا على هذا المنوال بعد ذلك، وأخشى أن أقول ما زال فاعلًا وقائمًا حتى الآن، وأذهلنى صدور مجلدين كبيرين فى عامين متتاليين «١٩٦٨ و١٩٦٩» عن سلسلة كتابات معاصرة، وكان المجلدان يضمان مجموعة مختارة من القصص القصيرة، والمذهل أن المجلدين لم ينطو أى منهما على اسم كاتبة واحدة، إذ ضم الأول كلًا من «ألفريد فرج وثروت أباظة وسوريال عبدالملك وصلاح الدين حافظ وعبدالحميد جودة السحار ومحمد جبريل ومحمود البدوى ومحمود تيمور ونجيب محفوظ ونعيم عطية ويحيى حقى ويوسف الشارونى»، وقدّ كتب الناقد غالى شكرى دراسة وافية جاءت فى خمس وخمسين صفحة، ورغم أنه كان يتحدث عن فنّ القصة القصيرة فى عمومه، إلا أنه لم يأت على ذكر كاتبة واحدة، وأما الأكثر إدهاشًا أن غالى شكرى نفسه، كتب ونشر فى عام ١٩٧٧ كتابًا كاملًا فى مائة وتسعين صفحة، عن الكاتبة السورية غادة السمان، وكان عنوانه «غادة السمان بلا أجنحة»، وقدّم تحليلًا ممتازًا فى أدب غادة السمان، وهو ما ضنّ به د. غالى فى الساحة المصرية، وكذلك امتنع عنه نقاد آخرون.
وهذا الأمر تكرر فى المجلد الثانى، والذى ضمّ كتّابًا من الرجال، وكتب دراسة نقدية مطولة جلال العشرى، تجنّب تمامًا الحديث عن المرأة الكاتبة أو كتابة المرأة فى عمومها، وآثر أن يتعامل مع المادة المختارة بعناية فائقة، ولا يمكن إنكار أن مصر كانت تضج بكاتبات قديرات، ملأن الساحة الأدبية والثقافية بإبداعهن القصصى والروائى والأدبى عمومًا، منهن على سبيل المثال فوزية مهران، وصوفى عبدالله، وجاذبية صدقى، وإحسان كمال، وهدى جاد، وإقبال بركة، ونجيبة العسال، وأليفة رفعت وغيرهن من الكاتبات اللائى حققن مستويات راقية فى الكتابة، ولكن تم تجاهلهن تمامًا من كل الاتجاهات، وهذا التجاهل ظلّ يخترق كل المجالات الكتابية، حتى إن كاتبًا صحفيًا أصدر كتابًا عنوانه «مائة شخصية مصرية وشخصية»، ولم يأت على ذكر أى من الكاتبات المرموقات مثل سهير القلماوى ولطيفة الزيات وبنت الشاطئ وغيرهن من كاتبات مجيدات، ولكنه اختار ثلاث شخصيات فقط من النساء، هن: زينب محمد مراد، والشهيرة بسيزا نبرواى، ثم جيهان رطل، ثم شافية أحمد، وقد صدر الكتاب عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام ١٩٨٧، عن سلسلة «تاريخ المصريين»، ومؤلف الكتاب هو الأستاذ شكرى القاضى.

ولا أريد أن أستفيض فى مأساة الاستبعاد وتهجير المرأة التعسفى من مساحات الكتابة، فهذا ما عرضنا بعضًا منه فى الكتابين السابقين، ولكننى أريد هنا أن أسرد أشكال المواجهة والقتال والمقاومة التى حققتها الكاتبات على مدى قرن ونصف من الزمان، منذ الشاعرة والكاتبة ملك حفنى ناصف، والتى قاومت كل الظروف التى حولها، وكتبت شعرًا ونثرًا وفكرًا وتعقيبات وردودًا وملاحظات، وتحاورت فكريًا مع قمم العصر مثل مى زيادة وقاسم أمين، واستطاعت أن تعطى نموذجًا حيًا للمقاومة الجبّارة على المستوى الفكرى، رغم الخديعة التى شارك فيها رجال كثيرون، مرورًا بالكاتبة ورائدة تعليم الفتيات فى مصر نبوية موسى، وكان أول إصدار لها عام ١٩١١، وهو كتاب عنوانه المطالعة العربية، وما هو إلا مجموعة من القصص الاجتماعية، تم تجاهلها بتعمد وقصد مسبق، وعاشت حياة تشوبها أشكال التحدى لكل ما تعرضت له، ثم الكاتبة «أوليفيا عبدالشهيد» الأقصرية، والتى أصدرت كتابًا عام ١٩١٢وكان عنوانه «العائلة»، وهو ينطوى على مجموعة شعرية ناضجة، وكذلك بضعة قصص طيبة، ثم موضوعات فى الشأن الاجتماعى، وكانت مشكلة أوليفيا لا تكمن فى كونها امرأة فحسب، بل إنها صعيدية، وللصعيد تقاليده وأعرافه ولوائحه الصارمة، ولذلك اضطرت أوليفيا لتغيير اسمها المعروف بأوليفيا، إلى «الزهراء»، هذا الاسم الذى طالعناه فيما بعد فى صحف ومجلات كثيرة وفاعلة، وكان آخر هذه المجلات مجلة «روز اليوسف» فى عقد الخمسينيات، ولها إنتاج فكرى فى مجال حقوق المرأة شبه مجهول، أو شبه مستبعد، أو مهمل، وهذا نتيجة عدم الاهتمام بكتابة المرأة بشكل عام، ولذلك ضاعت أوليفيا وكاتبات كثيرات لهن إبداعات كثيرة وذات شأن فكرى وأدبى كبير.
ولا يقتصر الأمر على الكاتبات اللائى ملأن مساحات من الصحف والمجلات والحياة الأدبية فى مصر والعالم العربى قديمًا، بل إننا سنلاحظ أن هناك عمليات انتخاب شبه أيديولوجية أو شخصية عنيفة، هذه العمليات استثنت كاتبة أو كاتبتين، واكتفى النقاد بهن، فمع تقديرى ومحبتى واعتزازى بكاتبة كبيرة مثل لطيفة الزيات، إلا أن اختصار كتابة المرأة وتطورها فى إبداعات لطيفة الزيات، يعدّ نوعًا من التعسف وإهدار قيمة ما تكتبه أخريات، إذ إن ذلك الانتخاب الأيديولوجى استبعد كتابات أمينة السعيد التى كتبت رواية مهمة عام ١٩٥٠، وهى رواية «الجامحة»، وهى رواية ذات شأن نسوى مهم ولافت، ثم كتابات صوفى عبدالله وجاذبية صدقى وفوزية مهران وغيرهن، ولكتابتهن حضور مهم، ولا يقلّ بأى أهمية عن رواية «الباب المفتوح»، والتى صدرت طبعتها الأولى عام ١٩٦٠، وكتبت الإهداء إلى «أستاذى الدكتور رشاد رشدى».
وهنا لا بد أن أفتح قوسًا قصيرًا، ربما يجلب هذا القوس قدرًا من المتاعب لى، ولكننى أريد أن أكتب بعيدًا عن أى هوى، وبعيدًا عن أى أيديولوجيات أو مواقف مسبقة، وكذلك لا بد من ذكر الوقائع والأحداث الشخصية والعامة التى ترتبط ارتباطًا كبيرًا وعميقًا بمسارات الإنتاج الأدبى، فالدكتورة لطيفة الزيات التى كانت إحدى المناضلات المجيدات فى عقد الأربعينيات، وقادت اللجنة الوطنية للعمال والطلبة عام ١٩٤٦، وكانت قد نشرت بعضًا من القصص القصيرة فى مجلات ذلك الزمان، وكانت قصتها الأولى على سبيل الحصر تحت عنوان «يد الله»، نشرت فى مجلة «الفجر الجديد»، عام ١٩٤٥ وكانت لطيفة تدرس الأدب الإنجليزى، وتزوجت من المناضل أحمد شكرى سالم، وعاشت لطيفة مع زوجها حياة مطاردة بشكل واضح، وكان أحمد شكرى سالم ضيفًا دائمًا على المعتقلات، وتحت ضغوط ما أوضحتها الزيات فى كتابها «حملة تفتيش»، طلبت الطلاق من زوجها عندما كان سجينًا، لتتزوج من أستاذها الدكتور رشاد رشدى.
ومن ثم انفتح عالم جديد للأديبة الجميلة والشابة، وعلى مدى عقد الخمسينيات كله، اتخذ رفاقها اليساريون موقفًا صارمًا منها، والباحث فى صحف ودفاتر تلك الأيام، لن يعثر على نشاط كتابى أو ثقافى بارز للدكتورة لطيفة الزيات، وخاصة فى صحف اليسار ومجلاته، وعلى وجه الخصوص جريدة المساء، ومجلتىّ صباح الخير وروز اليوسف، وجريدة المساء التى تأسست وصدر عددها الأول فى ٦ أكتوبر عام ١٩٥٦ خصيصًا لاستيعاب كل أطياف الطليعة الثقافية والفكرية والسياسية، وكانت قد ضمّت فى إهابها الكتّاب والصحفيين اليساريين، حيث إن تحالفًا وطنيًا كان قد نشأ بين سلطة يوليو والشيوعيين، واختارت السلطة الأستاذ خالد محيى الدين رئيسًا لتحرير الجريدة، لأنه كان الأقرب إلى الشيوعيين من أى ضابط آخر، ورغم ذلك لم نقرأ للطيفة أى إبداع نقدى أو أدبى فى تلك الجريدة، ولا مطبوعة أخرى ذات طابع طليعى أو تقدمى، كما أن مجلتىّ صباح الخير وروز اليوسف كانتا ذات هوى يسارى، وكان يكتب ويعمل فيها يساريون ضالعون فى صياغة التوجه العام لليسار، منهم محمود أمين العالم، وعبدالعظيم أنيس، وعبدالرحمن الشرقاوى، ولطفى الخولى، وصلاح حافظ، وصلاح جاهين وغيرهم من اليساريين المصريين المرموقين.
حتى إن ظهرت رواية «الباب المفتوح» عام ١٩٦٠، وصدرت عن مكتبة الأنجلو المصرية، وهى دار نشر أشد ما تكون بعيدة عن اليسار، وحاولت أن أعثر على مقال واحد، أو دراسة واحدة لأحد نقادنا اليساريين عن الرواية، فلم أجد، ربما يدلّنى أحد على شىء من ذلك لكى أغيّر ما أريد أن أشير إليه لاحقًا، وهو أن لطيفة الزيات أهدت روايتها هذه إلى زوجها الدكتور رشاد رشدى، وكذلك أهدى لها هو مسرحيته لعبة الحب فى العام ذاته، وكتبت لطيفة دراسة طويلة عن مسرحيته «خارج السور»، ولم تنشرها فى أى من كتبها التى جمعتها فيما بعد، كما أنها حذفت الإهداء فى الطبعة الثانية من الرواية، وكانت الحياة بين لطيفة وأستاذها تسير بشكل طيب، ولكنها كانت شبه مستبعدة من جنّة الرفاق، حتى أن تمّ الطلاق بينها وبين رشدى عام ١٩٦٥ كما سردت هى فى كتابها «حملة تفتيش»، وتعود إلى بيتها اليسارى مرة أخرى، وتبدأ مجلات اليسار تستعيدها كناقدة وككاتبة، فنقرأ مجددًا لها فى مجلتىّ «الطليعة، والكاتب»، بل تصبح فى هيئة تحرير مجلة «الطليعة»، وتشارك بقوة فى تحرير المادة الثقافية فى المجلة، كما نشرت مقدمة مهمة للشاعر مريد البرغوثى عندما كتب قصيدة طويلة عن حبيبته «رضوى»، وتم نشرها على ثلاثة أعداد فى مجلة «الكاتب».
وهكذا تم تدشين لطيفة الزيات، ليس لكونها كاتبة مهمة، ولكن لأنها عادت إلى بيت اليسار مرة أخرى، ولم يقتصر التدشين على نشر كتاباتها فحسب، بل تم اختصار تاريخ الكتابة النسوية عليها، ثم كان امتدادها فى كتابات د. رضوى عاشور.
أعرف أن ذلك الحديث سيكون صادمًا لكثيرين من المتابعين لمسيرة لطيفة الزيات، ولدرجة بعيدة، رغم أننى اختصرته بشدة، وأعرف أنه سيجرّ قدرًا من التذمر والتنمر عند رفاقى اليساريين، ولكن الحقيقة أكثر أهمية من الخواطر، ومن الانتماء الأيديولوجى، وسوف نستعرض فى الحلقات القادمة إن شاء الله ما يتفق مع ضميرنا، بعيدًا عن أى اعتبارات أخرى، وسنتناول بعضًا من الكاتبات المستبعدات لأسباب عديدة فى الماضى والحاضر، حتى تكتمل الرؤية، ويتضح الهدف الذى نسعى إليه.