الأربعاء 02 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

الوتر السرى.. كيف تكون الموسيقى دواءً؟

حرف

- الاستماع إلى الموسيقى ينشط مناطق معينة من الدماغ وينتج مواد أفيونية ذاتية المنشأ

- الموسيقى سبقت اللغة المنطوقة.. والاعتقاد بقدرتها على العلاج يعود إلى ما قبل 20 ألف عام

- 10٪ من البشر لا يحبون الموسيقى بسبب طفرات جينية عشوائية

قد تنسى ما حدث خلال أيامك الماضية، لكن أبدًا لن تنسى أغنية تحبها، بل إن بعض الأغنيات تظل عالقة فى ذهنك، لتعيد عليك ذكريات بعينها، فقوة الموسيقى لن تقف عند هذا الحد، بل إنها ببساطة تحسن مزاجك وتجعل اليوم السيئ يمضى.

ومن الشرق الأقصى إلى الإمبراطورية العثمانية، ومن أوروبا إلى إفريقيا وأمريكا قبل الاستعمار، طورت عديد من الثقافات تقاليدها الخاصة فى استخدام الصوت والإيقاع والموسيقى لتخفيف المعاناة، وتعزيز الشفاء، وتهدئة العقل.

فالموسيقى تعد واحدة من أقدم الأدوية التى ابتكرتها البشرية، وهناك روابط عميقة تربط بينها وبين الشفاء، فلها قوى علاجية تعتبر من الأكثر فاعلية اليوم، وهو ما تؤكده نتائج عدد من الدراسات حول الموسيقى والدماغ، وكيفية مساهمتها فى علاج مجموعة من الأمراض.

تتنوع هذه الأمراض من العصبية إلى الإدراكية وأيضا الاكتئاب والألم، ومن خلال مقابلات حية مع بعض أشهر الموسيقيين من فرنسا وأمريكا وإنجلترا، يوضح أستاذ علم النفس والأعصاب والموسيقى «دانيال جيه ليفيتين»، سبب كون الموسيقى علاجًا فعالًا.

ودانيال ج. ليفيتين هو العميد المؤسس لكلية الآداب والعلوم الإنسانية فى جامعة مينيرفا فى «سان فرانسيسكو»، وأستاذ فخرى لعلم النفس وعلم الأعصاب فى جامعة ماكجيل فى مونتريال. ألف خمسة كتب متتالية من أكثر الكتب مبيعًا: «هذا هو دماغك مع الموسيقى»، و«العالم فى ست أغان»، و«العقل المنظم»، و«دليل ميدانى للأكاذيب»، و«الشيخوخة الناجحة».

وفى كتابه الأحدث «سمعت أن هناك وترًا سريًا: الموسيقى كدواء»، يلقى الضوء على الدور الحاسم الذى لعبته الموسيقى فى علم الأحياء البشرى، وفوائد الموسيقى العميقة للصغار والكبار، على حد سواء.

الكتاب صدر عن دار نشر «دبليو دبليو نورتون أند كومبانى» الأمريكية، فى نهاية أغسطس من العام الماضى، فى 416 صفحة، ويعد أحد أفضل 10 كتب علمية حسب تصنيف مجلة «سميثسونيان» المتخصصة فى العلوم والطبيعة لعام 2024، ويأتى فى المرتبة الأولى للكتب الأكثر مبيعًا فى فيزياء الصوت وتذوق الموسيقى.

داخل الدماغ 

يؤكد المؤلف خلال صفحات كتابه قدرة الموسيقى الجيدة على الشفاء، بعد دراسة هذه الظاهرة لسنوات، مستخدمًا التصوير بالرنين المغناطيسى وتقنيات متقدمة أخرى لمعرفة ما يحدث داخل الدماغ.

وخلال ذلك يمزج بين التفسيرات العلمية المعقدة والحكايات الحية من مسيرته الموسيقية الخاصة، ومسيرة العديد من الفنانين الذين التقى بهم وعمل معهم، حيث عمل كمهندس صوت، ومنتج تسجيلات، وتشمل عروضه الموسيقية الأخيرة العزف على الجيتار والساكسفون.

وتعتمد الفكرة الرئيسية فى الكتاب على أن عناصر الموسيقى المختلفة تعالج بواسطة دوائر عصبية مختلفة فى أدمغتنا، وتجمع المعلومات المنفصلة، ثم تنقل إلى دوائر عصبية جديدة، لمعالجة جوانب أكثر تعقيدًا من الموسيقى. 

وتخزن تفاصيل النغمة والمدة ودرجة الصوت فى مرحلة مبكرة، ثم تتجه سلسلة أقسام الدماغ المتعاونة فى النهاية إلى قضايا معقدة مثل شكل اللحن، والطابع الصوتى للآلات، والروابط العاطفية للمستمع.

يقول الكاتب إن «الموسيقى سبقت اللغة المنطوقة»، حيث تظهر أبحاث من مختبره أن «الهياكل التى تعالج الموسيقى أقدم تطوريا من الهياكل التى تعالج الكلام». ويشير ليفيتين إلى أن موسيقى البشر الأوائل ربما بدت وكأنها «كلام لحنى، زمنى، إيقاعى» يستخدم للتعبير عن المشاعر. وبينما تستطيع الشمبانزى عزف إيقاعات الطبل، يشير المؤلف إلى أنها لا تستطيع ضبط الوقت أو المزامنة، مما يشير إلى أن البشر قد طوروا دوائر عصبية فريدة تمكن من تأليف الموسيقى وتقديرها.

ويتتبع المؤلف أصول الاعتقادات حول قدرة الموسيقى على شفاء العقل والجسد والروح إلى ما قبل ٢٠ ألف عام، وصولًا إلى العصر الحجرى القديم الأعلى، عندما لجأ الشامان القدماء «سحرة دينيون تنبع أصولهم من الشعوب الأصلية فى شمال أوروبا وسيبيريا» وغيرهم من المعالجين، إلى استخدام الطبول على أمل علاج الأمراض من الاضطرابات العقلية إلى الجروح والأمراض.

ويوضح الكاتب أن كلمة «شامان» مشتقة من الكلمة الروسية «شامان»، وتعنى شخصًا ذا مكانة خاصة داخل قبيلة، يعمل كوسيط بين العالم الطبيعى والعالم الخارق للطبيعة، مستخدمًا السحر للتنبؤ بالمستقبل، وعلاج الأمراض، والتحكم فى القوى الروحية. 

ويشير إلى أن هذه الشخصية هى ثقافة عالمية، تتكرر فى المجتمعات البشرية وفى كل قبيلة من قبائل الصيد والجمع تقريبًا، موضحًا أن التقليد الشامانى بدأ على يد النساء، وأن الشامانية ليست سوى سابقة تاريخية للعلاج بالموسيقى فى القرن الحادى والعشرين. 

ويقول ليفيتين إنه خلال القرن الحادى عشر قبل الميلاد، وفى أواخر حياته، عانى الملك شاول من اكتئاب واضطرابات دورية. فى مثل هذه المناسبات، كما يقال، كان يستدعى داود، داود نفسه الذى حارب جالوت، والذى كان يعرف بأنه من أعظم الموسيقيين فى المملكة. كان داود قادرًا على قتل عملاق بحجر، وسحق الاكتئاب بقيثارة. 

دانيال ليفيتين

لغة عالمية

ولذا فهو يؤكد أن الموسيقى للشفاء قديمة قدم جنسنا البشرى، ولا يزال يمارسها غالبية شعوب العالم حتى اليوم؛ فقدرتها على توفير يوم أكثر إشراقا، وتعزيز الصحة البدنية والنفسية - لا تعرف حدودًا للغة أو الثقافة. 

وكما قال لونجفيلو الشهير: «الموسيقى هى لغة البشرية العالمية». وقبل قرون، وعلى بعد قارة، كتب كونفوشيوس: «الموسيقى تنتج نوعًا من المتعة لا غنى للطبيعة البشرية عنه».

وقيل: «الموسيقى تعطى روحًا للكون، وأجنحة للعقل، وطيرانًا للخيال، وسحرًا ومرحًا للحياة ولكل شىء». واعتقد أفلاطون أن الموسيقى قادرة على تجاوز عقلنا: «أكثر من أى شىء آخر، يجد الإيقاع والانسجام طريقهما إلى أعماق النفس ويسيطران عليها بقوة». ولعله ليس من المستغرب إذن أن نعلم أن إله الطب اليونانى، أبولو، كان أيضًا إله الموسيقى.

ويعرف أبقراط (القرن الخامس قبل الميلاد) بأنه أبوالطب الغربى، وكان يؤمن إيمانًا راسخًا بإمكانية استخدام الموسيقى لعلاج مجموعة متنوعة من الحالات الصحية الجسدية والعقلية. 

وعلى الرغم من عدم وجود وصفات موسيقية باقية، فإننا نعلم أن سلالم موسيقية محددة كانت تستخدم لعلاج أمراض معينة، وكان الأطباء الأثينيون يصفون نغمات موسيقية معينة، لعلاج نزلات البرد والآلام والاكتئاب والإصابات.

بعد سبعمائة عام، كتب بطليموس، الذى عاش فى الإمبراطورية الرومانية، أطروحته «التوافقيات»، التى تناول فيها بالتفصيل العلاقة بين الموسيقى والعواطف والعلاج.

واستلهم المؤلف من الشهادات المؤثرة للشعراء والفلاسفة. فيقول كلمات الشاعر جورج فيليب فريدريش فرايهر فون هاردنبرج (نوفاليس)، حوالى عام ١٧٩٩: «كل داء مشكلة موسيقية، وشفاؤه حل موسيقى». 

ويضيف: كان الفيلسوف والملحن فريدريش نيتشه هو من عبر عما أصبح بمثابة دليل لى فى بحثى، وهو أن الموسيقى وسيلة للتعبير عن الأفكار والمشاعر التى لا يمكن التعبير عنها بالكلمات. فقد كتب: «الحياة بدون موسيقى خطأٌ فادح».

العلم والفن

ويرى الكاتب أن الفارق الوحيد بين ذلك الحين والآن هو أن المجتمع الغربى الحديث يفصل بشكل متزايد بين الشفاء والموسيقى. ويكتب: «نميل إلى رؤية الشفاء باعتباره اختصاص الأطباء، والموسيقى باعتبارها ترفيهًا. ربما حان الوقت لإعادة توحيد اثنين من أكثر أجزاء حياتنا حميمية».

ويضيف: قد نتصور أن العلم والفن يقفان فى مواجهة بعضهما البعض، لكنهما مرتبطان بهدف مشترك. يسعى العلم إلى إيجاد الحقيقة فى العالم الطبيعى؛ ويسعى الفن إلى إيجاد الحقيقة فى العالم العاطفى. 

يقع الطب فى مكان ما بينهما، حيث يربط بين العلم والفن والمشاعر التى تدفعنا نحو إرادة البقاء والشفاء وتناول الدواء وممارسة الرياضة وتفعيل كل تلك الأشياء التى تحافظ على صحتنا. 

وليس من قبيل الصدفة أن تكون كلمة «حركة» جزءًا من كلمة «عاطفة». فكلتاهما مشتقة من اللاتينية «emovere»، التى تعنى التحرك أو الخروج أو التحرك من خلال. عندما تتحرك الموسيقى عبر أجسادنا، فإنها ترسل إشارات، وتمارس، وتثير المشاعر.

ويستعين ليفيتين بتجارب واكتشافات علمية قيمة على مدار حياته المهنية، لإثبات الطرق العديدة التى يمكن للموسيقى أن تستخدم بها لعلاج عدد من الأمراض، سواء متلازمة توريت (خلل عصبى وراثى) أو مرض ألزهايمر. 

ويشير إلى أن هناك ٥٥ مليون شخص مصاب بالخرف حول العالم اليوم، والذى يسبب الهياج والقلق. ويقول: إن الهياج المزمن يعد أحد أكثر التحديات إلحاحًا لرعاية المرضى فى دور الرعاية طويلة الأجل: «لقد عرفنا لعقود أن الموسيقى لا تقل فعالية عن العلاجات الدوائية فى تخفيف القلق، لكن إدخالها إلى العيادات ومرافق الرعاية كان طريقا شاقا».

ويلفت إلى أن هناك عملا جاريا فى جامعة تورنتو متروبوليتان على تطوير علاج قائم على الموسيقى، للمساعدة فى إدارة الأعراض العصبية النفسية للخرف، «مما يشير إلى الطب الموسيقى للاسترخاء».

ويعتقد المؤلف أن الموسيقى يمكن أن تشفى، من خلال دورها فى تخفيف الألم، لكن ما نحتاج إلى معرفته هو الحصول على «الجرعة» المناسبة من الموسيقى، فالاستماع إليها ينشط مناطق معينة من الدماغ، وينتج مواد أفيونية ذاتية المنشأ، تحفز بعض وظائف الدماغ، بدءًا من التحكم الحركى والذاكرة، وصولًا إلى التركيز والتحكم العاطفى.

ويوضح: «تؤثر الموسيقى على بيولوجيا الدماغ من خلال تنشيطها لمسارات عصبية متخصصة، وتزامنها لأنماط إطلاق التجمعات العصبية، وتعديلها للنواقل العصبية والهرمونات الرئيسية».

وهذا التحفيز يساعد المناطق المتضررة بسبب المرض أو التى تعانى من خلل وظيفى يسبب الاكتئاب والقلق أو غيره من المشاكل النفسية، لكن فى الوقت نفسه فإن الآليات العصبية والبيولوجية الكامنة وراء قدرة الموسيقى على تخفيف هذه الأعراض «معقدة وغير مفهومة تمامًا». 

تشمل التفسيرات المحتملة التى قدمها الكاتب لذلك، تحفيز الموسيقى الممتعة للنواقل العصبية المحسنة للمزاج، مثل الدوبامين، وتأثيراتها المخففة للتوتر على الجهاز العصبى السمبثاوى.

ويذكر أن العلماء يكتشفون كيف يمكن تسخير الموسيقى لعلاج أمراض مثل مرض باركنسون، واضطرابات المزاج، واضطراب ما بعد الصدمة، موضحًا أن كل حدث نمر به، سواء أكان إيجابيًا أم سلبيًا، صادمًا أم مبهجًا، يغير بيولوجيا الأعصاب فى الدماغ، للأفضل أم للأسوأ.

ومع ذلك، يمكن تخفيف التوتر الذى يشعر به المرء بعد صدمة نفسية أو جسدية شديدة، من خلال تغيير الدماغ لمستويات بعض المواد الكيميائية فيه، عند الاستماع إلى موسيقى هادئة.

يؤكد ليفيتين أن الموسيقى تساعدنا على التأقلم مع الصدمات النفسية. ويوضح أن عزف الموسيقى أو الاستماع إليها يحسن مستويات السيروتونين والدوبامين فى الجسم. 

التجربة الحميمة

ويشير إلى أن من العوامل الأخرى المرتبطة بالعلاج بالموسيقى، التجربة الحميمة التى يجلبها، حيث إنه عندما نستمع بمفردنا، عادة ما نرتدى سماعات رأس أو نجد مكانًا منعزلًا. تبقى الموسيقى فى رءوسنا وتسمح لنا بالشعور بمختلف الحواس.

ويشرح المؤلف أن «الدوبامين يفرز عند الاستماع إلى الموسيقى التى تحبها». «هى مسكنات طبيعية، تماما مثل الحبوب التى نتناولها». تتضاعف الفوائد إذا كنت تستمتع بالغناء. ليس فقط أن الغناء أسهل من الكلام، بل إنه يمنحك أيضا السيروتونين ويطلق هرمونات التوتر «الكورتيزول».

ويضيف: «نعلم الآن أن الموسيقى تعزز جهاز المناعة، خاصة مستويات الجلوبولين المناعى أ. لذا، يمكن أن يكون الاستماع إلى موسيقى تحبها وسيلة لتبنى الطب الوقائى».

كما تحفز الموسيقى قدرة الدماغ على تكوين خلايا عصبية جديدة، بالإضافة إلى بناء روابط جديدة بينها، «مما يعزز تعافى الدماغ، ويعيد استجابة الجسم للتوتر إلى طبيعتها».

تعزيز التعافى

يقول الكاتب إن التحفيز السمعى الإيقاعى يساعد مرضى التصلب المتعدد وباركنسون على زيادة ثباتهم وتوازنهم أثناء المشى وتقليل السقوط ونوبات التجمد، حيث تحفز الموسيقى اللدونة العصبية، وتعزز تعافى الدماغ، وتعيد استجابات التوتر إلى طبيعتها لدى العديد من الأشخاص الذين يعانون من إصابات رضحية (مفاجئة وخطيرة).

ويضرب مثالًا على ذلك، حيث ساعدت ورش عمل كتابة الأغانى التعاونية المحاربين القدامى على معالجة أعراض اضطراب ما بعد الصدمة لديهم، من خلال «تعريضهم بلطف وبشكل متكرر لإعادة تفسير فنى لصدماتهم».

كما يلفت إلى أن الاستماع إلى الموسيقى يقلل من آلام ما بعد الجراحة، وكمية التخدير المطلوبة أثناء التعافى، حتى لجراحة العمود الفقرى.

ويشير ليفيتين إلى أن الانخراط فى الموسيقى، سواء كمستمع أو عازف، يسهل الدخول إلى شبكة الوضع الافتراضى فى الدماغ من الترابط العصبى العالى، وهى مسار إلى العقل الباطن، وهو أساسى فى كل شىء، من حل المشكلات إلى الاسترخاء، ومن الإبداع إلى وظائف الجهاز المناعى. 

وبالنسبة للكثيرين، توصلنا الموسيقى إلى شعور بقوة عليا، بجمال عظيم ودائم، والاستماع إليها أو عزفها، يتيح لنا بعضًا من أكثر لحظات حياتنا بهجة ومعنى.

حالة التدفق

ويوضح الكاتب الأثر على من يقوم بعزف الموسيقى فيقول: «عندما نعزف على آلة موسيقية (بما فى ذلك الغناء)، فإننا نشغل قدرات عقلية أكثر من أى نشاط آخر تقريبا: الأنظمة الحركية، والتخطيط الحركى، والتخيل، والمعالجة الحسية السمعية».

وإذا شعرنا بالإلهام، الإبداع، والروحانية، والمشاعر الاجتماعية الإيجابية، وربما، حالة من الوعى المتزايد المقترن بالهدوء، تعرف بحالة التدفق.

ويقول إن التحكم الحركى الدقيق يتحسن لدى كبار السن الذين يتلقون دروسًا فى العزف على البيانو، أكثر من مجموعة من مستمعى الموسيقى؛ حيث تتحسن سرعة المعالجة العقلية.

ويقدم حالات عن جوانب العزف الموسيقى، حيث كشفت إحدى التجارب التى أجراها عالم الأعصاب «تشارلز ليمب»، أن «حالة التدفق» لموسيقيى الجاز المرتجلين، تظهر على أجهزة مسح الدماغ، على أنها تزيد من التنشيط فى جزء الدماغ المرتبط بالوصول إلى الذكريات الذاتية. ويقول ليفيتين إن تفسير هذا هو أن الارتجال وسيلة للتعبير عن الصوت الموسيقى الخاص بالفرد، فالموسيقى شخصية للغاية، مما يجعل العلاجات والتدخلات الموسيقية أكثر نجاحًا، عندما يختار المريض أو المستمع الموسيقى.

تكوين الأنماط

ويوضح المؤلف أحد الخيوط المركزية التى تربط بين الذاكرة والأنماط، ويخبرنا أنه فى غياب وعينا الواعى، تحاول أدمغتنا باستمرار العثور على أنماط من أجل خلق النظام من الفوضى، والتنبؤ بما قد يحدث بعد ذلك. 

وبالنسبة للأشخاص الذين فقدوا جزءًا من ذاكرتهم، فإن الأنماط تشكل أهمية بالغة لإعادة التعلم، ولهذا السبب تستخدم الموسيقى فى العلاج لأولئك الذين يعانون من الصدمات. ويكتب: «إن التنبؤ والتوقع، إلى جانب التعرف على الأنماط المتكشفة، يشكلان جوهر التجربة الموسيقية».

ويشير إلى أن الذكريات الموسيقية قادرة على ربط «أنماط وعى مختلفة بروايتنا الداخلية، وإحساسنا بذاتنا، وأين كنا، والأهم من ذلك، إلى أين نرغب فى الوصول».

حيث تتميز الذكريات الموسيقية بقوتها الفريدة، مع تحفيز أى من سماتها العديدة - درجة الصوت، واللحن، والتناغم، ومدة النوتة، والمقياس، والإيقاع، وشدة الصوت، وجرس الصوت - دوائر تكوين الأنماط فى الدماغ، ما يعزز وظائف المناعة ويحافظ على بقائها حتى لدى المصابين بمرض ألزهايمر.

وإلى جانب الأمثلة العديدة التى يقدمها الكاتب حول كيفية مساعدة الموسيقى فى التعافى - من طبول البونجو «أداة قرع أفرو كوبية» التى تساعد المرضى المصابين بمرض هنتنجتون العصبى غير القابل للشفاء، إلى المغنية الكندية جونى ميتشل التى تتعافى بعد تمدد الأوعية الدموية فى المخ بمساعدة موسيقى تصويرية مختارة بعناية - فإنه يقدم أيضًا أدلة مرضية على أشياء نؤمن بها حدسيًا. 

فى إحدى الحالات، يروى تجربة أجراها مع زميل له، أظهرت أنه حتى الأشخاص الذين يستمعون إلى نفس الموسيقى فى أوقات مختلفة، يكشفون عن تزامن عصبى فى موجات أدمغتهم. وبالتالى فإن الاستماع إلى الموسيقى، يضع دماغك حرفيًا على نفس الطول الموجى لدماغ الآخرين.

طب مخصص

يلفت ليفيتين إلى أن الذكاء الاصطناعى يمكن أن يساعد فى «اختيار الموسيقى التى تلبى أذواق الفرد وأهدافه العلاجية والصحية المنشودة. وهذا ما تفعله العديد من الشركات الناشئة». ويضيف أن هذا التوجه البحثى «قد يبشر بعصر جديد من الطب الموسيقى المخصص».

ويقول إن شركات مثل سبوتيفاى وأبل ميوزيك ويوتيوب وباندورا، تأمل فى إعداد قوائم تشغيل فعالة لا تساعد فقط على تنظيم مزاجك أو تغييره، بل تناسب أيضًا أذواقك الشخصية. 

ويلفت إلى أنه بالفعل، تتميز هذه الخدمات الموسيقية بقدرتها على التكيف، حيث تتعرف على ما تتخطاه وما تستمع إليه. وخلال السنوات الخمس المقبلة، ستحسن أداؤها. فمن خلال استخراج البيانات، تتعرف برامج الشركات على عمرك وجنسك ودخلك وموقعك الجغرافى وآرائك السياسية ووقتك اليومى والأشياء التى بحثت عنها. 

تسجل الخوارزميات أنك تقود سيارتك عبر المدينة يوم الأحد الساعة الرابعة مساء، وتتبع هذه الخوارزميات الموسيقى التى تختارها عادة لنفسك فى تلك الرحلة. كما أنها تعلم من خلال فحص رسائل البريد الإلكترونى أن أحدث تقرير مختبرى أظهر إصابتك بارتفاع ضغط الدم؟

ويقول المؤلف: قريبًا، سيتم تنظيم قوائم التشغيل المخصصة تلقائيًا وفى الخلفية، لتصبح غير مرئية لك بشكل أساسى - ستعرض عليك سيارتك أو هاتفك الذكى تشغيل ما تعتقد أنك بحاجة إليه فى هذا الوقت المحدد، بناء على ذوقك الفردى.

ولتخصيص قوائم التشغيل حسب ذوق كل شخص، تستخدم معظم الخوارزميات التصفية التعاونية، فمن استمع إلى مغنى أو موسيقى معينة، سيفضل أيضًا مطرب أو موسيقى من نفس النوعية. ويشير إلى أن هذا هو مستقبل قوائم التشغيل المخصصة، وبالتالى مستقبل العلاج بالموسيقى.

فروق فردية

مع إقرار المؤلف باستمتاع معظم الناس بالموسيقى، يقدر أن ١٠٪ من الناس لا يحبونها، بسبب طفرات جينية عشوائية. كما يختلف الناس فى حساسيتهم لجوانب مثل كلمات الأغانى، مقابل العناصر الموسيقية. 

فالبعض تحركهم عاطفيًا كلمات الأغانى، بينما لا يبالى بها آخرون. كما تختلف تأثيرات الموسيقى بين الاستماع المتعمد والواعى، وبين اعتبارها «خلفية صوتية».

وهذا يقودنا إلى اللغز الأول والأخير فى الكتاب: ما الذى يجعل الموسيقى قوية جدًا للبشر؟ يمكننا تخمين ما قد يكون - يعتقد الكاتب أنه ربما لا يكون من ترددات محددة، ولكن من إيقاعات مسببة للنشوة، أو مزيج من العناصر الموسيقية مع بعضها البعض.

«بما فى ذلك البنية التوافقية، واللحن، والنغمة (الكبرى أو الصغرى)، والإيقاع، والوتيرة» - ولكن لا يمكننا أبدًا أن نعرف على وجه اليقين. وهنا يكمن سرها وسحرها. فلا عجب أننا لا نستطيع التوقف عن الاستماع إليها.

ويضيف ليفيتين: «جميعنا معالجون موسيقيون مبتدئون». يعرف معظمنا «أى موسيقى نختار» عندما نريد «الحفاظ على مزاجنا أو تغييره». ويشير إلى أننا جميعا نملك وترًا سريًا فى داخلنا، وعندما نعثر عليه، سنجد الفرح فى الموسيقى.