الخميس 17 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

هل التراث الدرامى مقدس؟.. فهد البطل فى مواجهة حسن أرابيسك

حرف

- لا نرفع مسلسلات الماضى إلى عنان السماء لننتقص من مسلسلاتنا الآن

من بين ما يعانى منه صناع الدراما الآن، ويمثل ضغطًا كبيرًا عليهم، مقارنتهم الدائمة بصناع الدراما زمان. 

وزمان هذه ليست ممتدة فى عمق التاريخ قرونًا أو حتى عقودًا طويلة، فكل عمر الدراما المصرية لا يتجاوز ٦٣ سنة، ما يعنى أن الدراما التى أنتجت من عشر أو عشرين سنة أصبحت تاريخًا وتراثًا. 

المعاناة التى أتحدث عنها تأتى بسبب الانحياز المطلق لتراثنا الدرامى ضد ما يتم إنتاجه الآن، فكل ما كان عظيمًا ومهمًا ومبدعًا ومعجزًا وعبقريًا، وكل ما هو الآن ضعيف وغير مبدع وعشوائى ومهلهل ولا إبداع فيه. 

هذه المفارقة التى قد تكون لها أسبابها النفسية قبل أى وكل شىء، جعلتنا نعيد النظر فى هذا التراث مرة أخرى؟ فى محاولة لإعادة تقييمه من جديد، لكن المشكلة- التى لم أعتقد أنها وصلت إلى محطة الدراما- أننا وجدنا فى مواجهة هذه المحاولة سلفية مجتمعية فيما يتعلق بالمسلسلات القديمة أيضًا وبصناعها وأيضًا بأبطالها الدراميين الذين هم فى النهاية من صناع خيال الكتاب.. أى أنهم شخصيات افتراضية وليست واقعية. 

كان الكاتب الصديق أحمد الصغير يتحدث معى عن رؤية مختلفة فى مسلسلات الزمن الجميل كما أطلق عليها، وصحيح أننى أختلف مع أحمد ومع كل من يتحدث عن حكاية الزمن الجميل هذه، فبالنسبة لى كل زمن جميل لكن بشرط ألا نعيشه أو نكون من سكانه، ولكننى توافقت معه على أن يكتب ما يشاء، فهى عادتى التى لن أتخلى عنها أبدًا، وليعرف عنى من يقرأون لى أننى حريص على نشر للمختلفين معى نفس حرصى على النشر لمن يوافقوننى فى رأيى ومواقفى. 

لم تكن هذه هى المرة الأولى التى يكتب فيها أحمد الصغير- وهو باحث جاد ويمتلك أدوات التفكير والبحث والكتابة- من زوايا مختلفة عن أمر تعارفنا عليه وتوافقنا حوله، فله دراسة مهمة نشرناها هنا فى «حرف» منذ شهور تناول فيها أفلامًا سينمائية، وكان عنيفًا وهو يحمل هذه الأفلام مسئولية انهيارات اجتماعية وثقافية عديدة، ويحمل صناعها مسئولية كثير مما عاناه مجتمعنا ولا يزال يعانى منه. 

ولا أخفيكم سرًا أننى بدأت أشفق على المجتمع الذى نعيش فيه، لأن نخبته المثقفة- أو التى من المفروض أن تكون كذلك- أصبحت على هذه الدرجة من السطحية والسذاجة والرغبة فى التماهى مع رأى الجموع. 

رأى الجموع فى الغالب- وهذا ليس انتقاصًا منهم أو تعاليًا عليهم- رأى متشنج ومنفعل ولا يستند إلى حيثيات علمية أو منطقية، فالناس تحكم على ما تقرأ أو تسمع أو تشاهد بما تحب أو تكره، لكن من يدعون الفهم والمفهومية والعقل والمنطقية لا يجب أن يكونوا كذلك أبدًا. 

لقد كان داعيًا للدهشة ولن أقول للسخرية عندما قرأت ما كتبه أحدهم من أن حسن أرابيسك بطل رائعة أسامة أنور عكاشة الشهيرة «أرابيسك» خط أحمر، وذلك على هامش حوار صاخب وعنيف أثاره ما كتبه أحمد الصغير فى محاكمته لمسلسلات الزمن الجميل كما يحب أن يطلق على الزمن وكما يرغب فى أن يرى المسلسلات، وما كتبه من انتقادات لبطل مسلسل «أرابيسك»، وكأنه أخطأ فى ذات مقدسة مصونة، الاقتراب منها إثم والاعتراض عليها كفر. 

الحقيقة أن هذا الحوار رغم أنه بالنسبة لى يعكس حالة صحية جدًا، فما زلنا قادرين على التفاعل مع ما يكتبه الكتاب والمفكرون، ومناقشتهم فيما يكتبون، والاعتراض عليهم أو الاتفاق معه، لكن الحقيقة التى لا أستطيع أن أتجاهلها أيضًا هى أننى انزعجت جدًا من بعض ما تابعته، فما قرأته كان خنافة فى حارة، تقطيع هدوم، تجاوزات، سباب وشتائم واتهامات، طعن فى الذمام والأعراض، تطاول لفظى لا يليق بمن يملك الحد الأدنى من الأدب والأخلاق والتهذيب، وذلك كله بسبب أن كاتبًا قال رأيه. 

مبلغ علمى أن التراث الدرامى ليس مقدسًا.. كما أن أى تراث ليس مقدسًا. 

ومبلغ علمى أيضًا أن صناع الدراما وشخصياتها المقدسة ليست معصومة من الخطأ.. فالمعصومون عندى هم الأنبياء، وقد عصم الله برخصة منهم وحكم، فقد اختصهم بذلك، ولا راد لحكمه أو إرادته. 

لكن يبدو وفى غفلة من الزمن أن التراث الدرامى تحول من مادة للمتعة من خلال إعادة المشاهدة والحديث عنها ونقدها والبحث فيها، وتقييمها فى ضوء ما يستجد من أدوات بحثية أو حتى ما نعرفه من أسرار عن صناعة هذه الدراما، بما يجعلنا قادرين على أن ننظر لها من زوايا مختلفة إلى تراث مقدس، لا يجب أن نقترب منه، أو نعترض عليه، أو نقول رأينا فيه، وكأنه أصبح مطلوبًا منا أن نتعبد فى محراب هذه الدراما، ونشكر الله على أنه منحنا إياها، ثم نقيس عليها كل ما ننتجه، ونتباكى بعد ذلك على ما وصلنا إليه. 

الدراما هى بنت زمانها. 

نتاج واقعها. 

انعكاس لمجتمعها.

هذا ما يجب أن ننتبه إليه ونحن نتحدث عن الدراما، ولو أغفلنا السياق العام ونحن نناقش ما تعرضه المسلسلات أو ما تقدمه لنا من أبطال، أو ما تطرحه أمامنا من قضايا، فلن نصل إلى شىء. 

عندما نغفل هذا المنهج سندخل فى حالة من الفوضى، ولن نصل إلى مرفأ آمن فى مناقشاتنا أو حوارنا، بل سنظل ندور فى دائرة مفرغة، نشكل اللجان ونعقد المؤتمرات والندوات لنناقش قضية مبهمة، لا نعرف ماذا نريده منها، ولا نعى ما الذى يجب أن نقدمه لها، فقط سنتحدت ونتحدث ونتحدث، ثم يتبخر كل شىء، وفى العام المقبل نجد أنفسنا أمام نفس القضية فنعيد نفس الكلام، فى منظومة لا نهائية من العبث. 

يعتقد كثيرون أن المسلسلات التى قدمها أسامة أنور عكاشة ومحمد جلال عبدالقوى ويسرى الجندى ووحيد حامد ومحمد السيد عيد ومحفوظ عبدالرحمن ومصطفى محرم ويوسف معاطى وغيرهم كانت خالية من العيوب، أو أنها مثلًا كانت تقدم قيمًا صفق لها المجتمع فى وقتها وأثنى عليها، وكان يرى فيها الإبداع الكامل. 

زيارة واحدة إلى أرشيف الصحف يمكننا أن نعرف من خلالها ما تعرض له هؤلاء الكتاب من نقد عنيف، ربما يتجاوز بمراحل النقد الذى يلاقيه الآن كُتاب الدراما فى عصرنا. 

ستقول لى أن كتاب الدراما التى يتعامل معها البعض الآن على أنها مقدسة كانوا يتناولون مظاهر الخلل فى المجتمع من فساد وفوضى وجرائم بصورة نقدية، يشرحون الظواهر الاجتماعية والثقافية والسياسية ويبحثون عن أسبابها وطرق مواجهتها والتعامل معها، لم يكن يقدر أى منهم أن يصور المجتمع بهذه الصورة المنفرة المشوهة التى لا تعكس الحقيقة أبدًا. 

ورغم أن هذا صحيح فى مجمله، لكن ما الذى يفعله كُتاب الدراما الآن غير ذلك؟ 

فى نقد المسلسلات الآن تجد من يتعامل معها، وكأنها وسيلة للترويج للعنف والفوضى والبلطجة والجرائم من كل شكل ولون، يُحبذون النماذج الشاذة وينحازون إليها، يميلون إلى تغليب القبح والهروب من النقاشات الجادة للقضايا التى تعترض طريقنا، لا يقدمون أعمالًا ترتقى بالمجتمع وتشحذ عقله فى اتجاه التفكير والتأمل. 

وعندما تفكر قليلًا فيما يقولون ستجد أن هذا حكم جائر تمامًا، يقول به من لم يشاهدوا الأعمال المعروضة أو يتابعونها متابعة منصفة، أو يجلسوا أمامها كما كانوا يجلسون أمام مسلسلات أسامة أنور عكاشة ورفاقه فى الزمن الجميل. 

ربما كثرة عدد الأعمال هى السبب. 

وربما اللجان الإلكترونية المستأجرة التى ترفع مسلسلًا إلى السماء، وتضع آخر فى قاع أبعد أرض هى السبب. وربما تصوير الواقع بكل ملابساته دون تجميله أو تحسينه أو تذويقه هو السبب. وربما إيقاع عرض الأعمال الدرامية عبر الفضائيات والمنصات الكثيرة ما نعرف عنها وما لا نعرف. 

كنا فى زمن مضى نشاهد عملين دراميين فقط على القناتين الأولى والثانية، وعندما كان يزيد العدد يصبح ثلاثة مسلسلات، واحد منهم دينى، الآن لدينا عشرات المسلسلات فى موسم رمضان فقط، بما يصيب الناس بتخمة ويجعلهم يغم عليهم من كثرة الأحداث والشخصيات والوقائع والقضايا. 

زيادة المسلسلات جعلتها تتعرض لظاهرة تعميم الحكم الذى يخص الجزء على الكل. 

فيمكن لمشاهد أو ناقد أن يرى مسلسلًا واحدًا أو اثنين، فلا يعجبه ما رأى فتصبح كل الدراما عنده مرفوضة، ويمكن أن يعجبه ما رأى فتصبح كل الدراما عظيمة.

ليس معنى ذلك أننى أريد- كما فهم البعض خطأ- ألا يتحدث الناس عن الدراما، أن يمتنعوا عن إبداء رأيهم فيما يرونه، فكل إنسان حر فى أن يتحدث ويكتب ويدافع عن رأيه، لكنه فى النهاية يظل رأيًا غير ملزم للآخرين، ولا حتى لصناع الدراما الذين يعملون طبقًا لقواعد تتداخل فيها معايير كثيرة تخفى فى معظمها عن المتابعين الذين ينصبون من أنفسهم حكامًا وقضاة.. وفى معظم الوقت جلادين. 

إننى لا أجد اختلافًا كبيرًا بين صلاح السعدنى فى مسلسل «أرابيسك» الذى كتبه أديب الدراما العربية وعظيمها أسامة أنور عكاشة وأخرجه جمال عبدالحميد، وأحمد العوضى فى مسلسل «فهد البطل» الذى كتبه محمود حمدان وأخرجه محمد عبدالسلام. 

بل إننى لا أرى بينهما أى اختلاف، ورغم أننى أعرف أن ما أقوله الآن يمكن أن يصيب البعض بالحمى، ويمكن أن يتهمنى البعض بالجنون وما لذ وطاب من اتهامات، لكن لماذا لا نتمسك بالعقل والمنطق وننظر إلى الأمر فى سياقها وعلى أرضيتها؟ 

 

حسن أرابيسك ابن وقته وكاتبه وثقافة زمنه.

وفهد البطل ابن وقته وكاتبه وثقافة زمنه. 

عندما نقارن بينهما لا بد أن يكون هذا واضحًا جدًا ونحن نتحدث، ليس معنى تقديسنا لدراما الزمن الجميل كما يحلو لأحمد الصغير أن يسميها أن ننحاز بشكل مطلق لحسن ضد فهد. 

كل منهما تعبير عن واقع يبدو أننا لا نريد أن نلتفت إليه.. بل فى الغالب قررنا الهروب بعيدًا عنه. 

فى دراما أسامة أنور عكاشة ورفاقه معالجة لكل شىء، الفساد بكل أشكاله وألوانه وأنواعه موجود وواضح، والأشرار يتحركون على الشاشة بحرية كاملة، وكثير منهم لم يتعرض له أحد بعقاب، بل إن كثيرين من أبطال عكاشة ورفاقه كانوا أشد إجرامًا وفسادًا من أبطال مسلسلاتنا الآن. 

لقد أحببنا حسن أرابيسك لأن أسامة أنور عكاشة قرر أن نحبه. 

فبدلًا من أن يدينه بسبب سلوكه وفشله وعدم تحمله المسئولية، قدمه لنا مغلفًا بورق «سوليفان»، فتعلقنا به. 

لكن محمود حمدان قدم لنا فهد البطل على حقيقته، التى لا تختلف كثيرًا عما يحدث على الأرض، ولذلك هاجمناه وتعالينا عليه، واعتبرنا أنه لا يعبر عنا، رغم أنه واقعيًا يجسد التعبير الصادق للواقع الذى نعيشه. 

فى كتاب التاريخ المغلق الذى يوثق ما جرى لمسلسلات الزمن الجميل صفحات من الإدانة والرفض لما جرى، لكننا لا نزال نحب هذه المسلسلات، كما ستحب الأجيال القادمة مسلسلاتنا وتتعلق بها. 

لقد اتهم أسامة أنور عكاشة بعدم الموضوعية والانحياز لجمال عبدالناصر على حساب السادات، وأخذ النقاد عليه أنه منح هزيمة ٦٧ مساحة أكبر بكثير من المساحة التى عالج من خلالها نصر أكتوبر فى رائعته «ليالى الحلمية». 

قاد إبراهيم سعدة حملة صحفية عنيفة ضد أسامة عندما تم تكليفه بكتابة فيلم عن «حرب أكتوبر» وكان محور الحملة الأساسى هو: كيف يكتب فيلمًا عن حرب أكتوبر ونصره من يكره الرئيس السادات كل هذه الكراهية؟ 

وعندما قدم وحيد حامد مسلسله «أوان الورد» حاصرته الاتهامات بإشعال الفتنة الطائفية، وفى مسلسل «العائلة» عندما قدم مشهدًا بين محمود مرسى وشيخ المسجد استنكر فيه مرسى أن يكون هناك عذاب قبر، فصنع مشهدًا آخر حتى يخفف الهجوم عليه وصحح ما قاله وما ذهب إليه من إنكار لعذاب القبر. 

وفى مسلسل «عائلة الحاج متولى» الذى كتبه مصطفى محرم وأخرجه محمد النقلى، كان هناك ترويج واضح لمزايا ومحاسن تعدد الزوجات، وقوبل ذلك بغضب شديد، وتدخلت وقتها السيدة سوزان مبارك، وكتب مصطفى محرم مشهدًا يجمع بين نور الشريف ومصطفى شعبان، تم تصويره بعد الانتهاء من تصوير المسلسل كله، وكان الهدف التخفيف من أثر ما جاء فى المسلسل. 

إننا لا ننتصر لمسلسلاتنا الآن على حساب مسلسلات الماضى، ولا نرفع مسلسلات الماضى إلى عنان السماء لننتقص من مسلسلاتنا الآن. 

المنهج فيه خلل والنفوس معطوبة والنوايا ليست خالصة. 

لذلك تحول النقاش إلى معركة، والحوار إلى خناقة، ولم يستفد أحد، فلم نعد قادرين على نقد المسلسلات التى عرضت، ولا قادرين على وضع تصور للمسلسلات التى نحب أن نراها. 

أعرف جيدًا كيف وصلنا إلى هذه النقطة.

فقد أصبح الحوار عن الدراما كما الحوار فى كل شىء، أنت لا ترى ما أراه فأنت خصمى وعدوى، وهذه فى الحقيقة آفة من آفات زماننا، إذا أردنا أن نتخلص منها، فلا بد أن نفتح النوافذ جميعها، ننتصر لكل ما هو جميل وحق، وما دون ذلك فإننا فى طريقنا إلى الهلاك ودخول مسارات تيه لن نخرج منها أبدًا.. أعاذانا الله إياكم جميعًا منها.