السبت 26 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

فقه جديد لمجتمع جديد.. عمر بن الخطاب يدافع عن سعد الدين الهلالى

حرف

- لقد تعرّض سعد الدين الهلالى لأكبر حملة تشويه يمكن أن يتعرض لها عالم

جلس العالم الجليل على أريكته الناعمة التى تتوسط مسجده يحيط به عدد من مريديه الذين يبدون إعجابهم بكل ما يقول حتى لو لم يفهموا منه شيئًا، يطلقون بين الحين والآخر آهات الإعجاب حتى لو كان ما يفعله مجرد النفس الداخل إليه والخارج منه، يتفاعلون مع كلماته التى يعتقدون أنها وحى من الله، لا يقبل تكذيبًا ولا تأويلًا. 

كان الشيخ يتحدث عمن يطالبون بمساواة الرجل والمرأة فى الميراث. 

قال فى سخرية بالغة: من يقول هذا الكلام نَصِفه بالجاهل، ولمّا تبقى عالم أبقى أناقشك، أما أنت عبيط، وعندك عبط مشلتت، ومعندكش علم، لأن الميراث نظام متكامل. 

يتحرك العالم الكبير على أريكته بنصف جسده متهكمًا، فى محاولة لنسف من يقول بالمساواة فى الميراث، وحتى يؤكد جهل من يذهب إلى ذلك، فهناك حالات فى الميراث تأخد المرأة مثل الرجل، وحالات تأخذ أكثر منه، وحالات أخرى تأخذ المرأة ولا يأخذ الرجل من الأساس. 

ضرب الشيخ مثلًا للحالة التى تأخذ فيها المرأة ولا يأخذ الرجل. 

قال: رجل مات وترك زوجة وابنة وأمًا وأختًا وأخًا، فالابنة تحصل على النص والزوجة تأخذ الثمن والأم تأخذ السدس، والأخ لا يرث من الأساس. 

هلل مريدو الشيخ إعجابًا ليس بما يقول، ولكن لأنه أفحم من يريدون تبديل شرع الله، وتغيير آياته، والإساءة إلى القرآن الذى يريدون أن يغيروا قواعده وقوانينه، رغم أنها قوانين الله التى لا تقبل تعديلًا أو تبديلًا. 

ما فعله العالم الجليل- له كل الاحترام والتبجيل بالطبع- هو التضليل الكامل، فهو لا يرد على من طالب بالمساواة بين الرجل والمرأة فى الميراث، ترك القضية الأساسية، وراح يتجول فى شوارع خلفية وحارات جانبية ومسارات فرعية، فمن يتحدثون عن المساواة يقصدون حالة واحدة وهى توزيع الميراث بين الأخ وشقيقته من أبيهم، أما الحالات الأخرى فلا أحد يقترب منها ولا يلتفت إليها. 

منذ سنوات وفى برنامج «٩٠ دقيقة» كنت أناقش خبرًا واردًا إليه من تونس.

كان ذلك فى حدود نوفمبر ٢٠١٨. 

وكان الخبر يشير إلى أن مجلس الوزراء التونسى صادق بإشراف رئيس الجمهورية الباجى قايد السبسى على مشروع قانون الأحوال الشخصية الذى يتضمن أحكامًا بالمساواة فى الإرث بين الرجل والمرأة. 

وقال الخبر إن الحكومة ستعرض مشروع القانون خلال الشهور المقبلة على البرلمان من أجل المصادقة عليه حتى يصبح سارى المفعول. 

المتحدثة الرسمية باسم رئاسة الجمهورية التونسية سعيدة قراش، قالت إن هذه المبادرة تكرس نضالات أجيال وحقوقيات دافعن عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمرأة التونسية وعلى ترسيخ عقلية المساواة التامة بين الجنسين. 

وأضافت أنه تمت المحافظة على نفس المبدأ وهو ملاءمة المقترحات مع الدستور بإقرار المساواة فى الإرث قانونًا، مع ترك حرية اختيار للمورث إن أراد فى قائم حياته النص على قسمة التركة وفق المنظومة الحالية. 

عرضتُ الخبر على الشاشة كما جاء من تونس، وسألت: هل يمكن أن نجد لدينا فى مجلس النواب مشروع قانون للأحوال الشخصية يتضمن مادة تقر وتقنن مساواة الرجل بالمرأة فى الميراث؟، وطالبت بأن تكون لدينا مرونة لمناقشة الأمر وقبوله إذا كان هذا يحقق مصلحة للمجتمع وخيرًا لمن يعيشون فيه. 

كان ما قلته مجرد اقتراح مشفوع بأن نتيح لمن يريد أن يجتهد أن يفعل ذلك، ومن يستطيع أن يقدم قراءة حديثة للنص القرآنى مستندًا إلى كل قواعد الاجتهاد ألا يتأخر على المجتمع، وضربت أمثلة على ما ورد عن الصحابى الجليل وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، عندما عطل نصًا قرآنيًا لأن أحوال المجتمع تجاوزته. 

فمن بين ما ترويه كتب التاريخ الإسلامى أن سيدنا أبا بكر، رضى الله عنه، أعطى لعيينة بن حصن والأقرع بن حابس عطاء، وأراد أن يشهد سيدنا عمر على ذلك، لكن الفاروق العادل مزق الكتاب الذى يسجل العطاء، وقال لهما: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان يتألفكما والإسلام يومئذ قليل، وإن الله قد أعز الإسلام، اذهبا فاجهدا جهدكما. 

لم يصمت عيينة وبن حابس على ما قاله عمر، احتجا عليه، وصرخا فى وجهه، ووجها كلامهما لأبى بكر، قالا: ما ندرى والله.. أأنت الخليفة أم عمر؟ فرد أبو بكر عليهما: لا.. بل هو لو كان شاء. 

قال عمر، رضى الله عنه، ما قاله وهو يعلم أن هناك آية فى القرآن الكريم تقول «إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفى الرقاب والغارمين وفى سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم» وهى الآية رقم ٦٠ من سورة التوبة، لكن التطور الذى حدث فى مجتمع المسلمين جعله ينظر فى الآية ويجتهد فيها، ويعطل حكمًا من أحكامها، لأن المجتمع لم يعد فى حاجة إلى هذا الحكم، الذى كانت له ظروفه ومقتضياته. 

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد فيما يخص اجتهاد الفاروق عمر بن الخطاب، فعندما أصبح خليفة للمسلمين وحل بالناس عام الرمادة، يقول أهل العلم إنه معلوم من سيرة عمر فى عام الرمادة أنه لم يقطع يد سارق. 

بنى الخليفة اجتهاده على أنه لا يجب قطع يد السارق لشبهة الضرورة الملجئة إلى السرقة، فالحدود تُدرأ بالشبهات. 

أسس عمر بن الخطاب- رغم أن زمنه لا يبتعد عن زمن الرسول، صلى الله عليه وسلم، إلا سنوات معدودة- فقهًا جديدًا لمجتمعه، رأى بفطنته وبما فتح الله به عليه أن أحوال الناس تغيرت، وأن ما يناسبهم أيام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لم يعد مناسبًا لهم فى أيامهم، فلم يتأخر عن الاجتهاد وتعطيل أحكام قرآنية واضحة، أحدها تم تعطيله نهائيًا ولا يزال معطلًا حتى الآن باجتهاده وهو حكم المؤلفة قلوبهم، أما الثانى فتم تعطيله مؤقتًا، لأنه كان مرهونًا بظرف مجتمعى وهو حد السرقة. 

فما بالنا ونحن الذين تفصلنا أربعة عشر قرنًا عن زمن الرسول، صلى الله عليه وسلم، ألسنا فى حاجة أكثر لأن يكون لدينا فقه مجتمع جديد؟ 

لقد تعقدت الحياة وتشابكت للدرجة التى تجعلنا فى حاجة إلى أن نتأمل النص القرآنى الذى هو مصدر التشريع الأساسى، لنجعله يعمل من أجل مصلحة الناس وما ينفعهم وهى غاية الرسالات السماوية التى تلقاها الأنبياء من ربهم. 

فى تراث الشيخ محمد مصطفى المراغى وهو الإمام الأكبر- الذى شغل منصب شيخ الأزهر المرة الأولى بين العامين ١٩٢٨ و١٩٣٠، ثم عاد إلى منصبه مرة أخرى بين العامين ١٩٣٥ و١٩٤٥- قاعدة أعتقد أنها القاعدة الأهم التى يمكن أن نؤسس عليها فقهًا جديدًا للمجتمع. 

كان الشيخ المراغى يقول: آتونى بما ينفع الناس.. آتيكم عليه بدليل من القرآن. 

مصلحة الناس هى الأساس إذن وليس النص. 

لن أقول إننى أسعى إلى وضع هذا الفقه الجديد. 

وأذكر أننى عندما طالبت بمشروع قانون يساوى بين المرأة والرجل فى الميراث أن قام الناس وغضبوا وشنوا علىّ حملات ظالمة، اتهمونى فيها بما تتخيلون ولا تتخيلون، وهو ما جعلنى أرد على هذا الهجوم وقتها. 

فى الحلقة التالية مباشرة التى عرضت فيها الفكرة قلت: هذه الفكرة التى طرحتها هدفها الرئيسى هو الوصول إلى منظومة قيم تقوم على العدل والمساواة والإنصاف، فلا معنى لأن يخلق الله البشر متساوين، ثم يتدخل أحد لإحداث نوع من التمييز، دون أن يكون ذلك متفقًا مع ناموس الله فى الأرض وهو العدل. 

وقلت: لقد طالبت بأن يتم تقديم مشروع قانون للمساواة بين الرجل والمرأة فى الميراث، على أن يكون ذلك خاضعًا للنقاش بين أعضاء البرلمان والعلماء والمتخصصين، وبعدها يقبل القانون أو لا يقبل، فأنا لم أدع إلى إقصاء الدين، ولم أعترض على آية الميراث أو حكمها، ولم أطالب بتحريفها، ولا يوجد عاقل يستطيع أن يقترب من نص دينى إلا بعلم وما تقتضيه مصلحة المجتمع. 

لقد اعتقد البعض- كما اعتقدوا من كلام الدكتور سعد الهلالى الذى يطرح نفس الطرح – أننا نريد إلغاء الآية، رغم أن ما نقوله هو الاجتهاد فى تعطيل الحكم، لأنه لم يعد يتناسب مع ما جرى فى المجتمع من تطور وتحديث وتغيير فى معادلات العلاقات الحاكمة بين الرجل والمرأة، وهو أمر لا يخفى على أحد. 

لقد استندت فيما طالبتُ به ولا أزال فى الحقيقة إلى ما سبق وفعله خليفة المسلمين سيدنا عمر بن الخطاب، فهل يمكن أن يزايد أحد على إيمان وتدين الفاروق، وهل يمكن أن يتهمه أحد بأنه كان يخالف القرآن أو يعتدى عليه؟ 

إننى أرى فيما فعله الخليفة العادل دفاعًا واضحًا عما يقوله الآن الدكتور سعد الدين الهلالى، الذى لا يخرج ما فعله عن كونه محاولة للاجتهاد.. فهل أصبحنا نحرم الاجتهاد على الناس؟ ثم إن الدكتور الهلالى ليس واحدًا من آحاد الناس، فهو أستاذ فى جامعة الأزهر، درس وحصل على درجة علمية مرموقة، ودرس للطلاب سنوات طويلة، ويقوم بدور تنويرى هائل سبق به دعوات تجديد الخطاب الدينى. 

من بين آثار الرسول، صلى الله عليه وسلم، التى يعرفها الجميع- فالحديث ورد فى صحيح البخارى- قوله إذا حكم الحاكم فاجتهد وأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر. 

فى تفسير هذا الحديث يقول العلماء: الحكم بين الناس ينبغى أن يكون مبنيًا على علم، ولا يتولى القضاء إلا العلماء العارفون بأحكامه وضوابطه؛ حتى يتم القضاء بالعدل وعن علم. 

وفى هذا الحديث يخبرنا النبى، صلى الله عليه وسلم، أنه إذا أراد الحاكم أو القاضى أن يحكم بين طرفين فاجتهد وتحرى الصواب بقدر ما عنده من علم لاستخراج الحكم الصحيح من النصوص الشرعية، ثم أصاب بأن وافق ما فى نفس الأمر من حكم الله، فله أجران، أجر الاجتهاد وأجر إصابة الحق. 

وإذا أراد أن يحكم فاجتهد ثم أخطأ بأن وقع ذلك بغير حكم الله، فله أجر واحد، وهو أجر الاجتهاد فقط، وإنما يؤجر المخطئ على اجتهاده فى طلب الحق وبذلك الجهد، لأن اجتهاده عبادة، ولا يؤجر على الخطأ، بل يوضع عنه الإثم فقط. 

وحتى لا يتجرأ أحد على الاجتهاد ويقول برأيه فيما لا يفهم أو يدرس، فإن علماء الحديث وضعوا قواعد مهمة لا بد أن تتوافر فى المجتهد، فلا بد أن يكون عالمًا بالأصول وبوجوه القياس، فأما من لم يكن محلًا للاجتهاد فهو متكلف ولا يعذر بالخطأ.

بالنسبة لى ما فعله الدكتور سعد الدين الهلالى اجتهاد، وهو مؤهل لهذا الاجتهاد تمامًا لما حصله من علم فى جامعة الأزهر، وعليه فلا غبار على ما يقوله، حتى لو كان مفارقًا للمجموع، وعلى من يتصدى له أن يراعى أنه عالم ومجتهد، فلو فرضنا أنه أخطأ فله أجر عند الله. 

لكن ما جرى لم يكن شيئًا من هذا على الإطلاق. 

لقد تعرض سعد الدين الهلالى لأكبر حملة تشويه يمكن أن يتعرض لها عالم، جردوه من كل شىء، بل تجرأ أحدهم وبدأ ينشر مذكراته التى يطعن بها فى كل ما يقوم به الهلالى، ويعتبره رجلًا صنعته الرغبة فى الشو وتحصيل الشهرة والمال، لا يقدم دليلًا على ما يقوله، إلا أنه حضر مجلسًا جمعه مع خالد الجندى والهلالى، وبدأ فى نسج حكاية لا يمكنه أن يؤكد على أنها حدثت إلا بروايته وحده، وهى رواية آحاد، ويعرف هو رأى أصحاب الفقه والحديث فى روايات الآحاد. 

كنت أتمنى أن يسمو علماء الأزهر ممن حاصروا سعد الدين الهلالى على هذه الحالة من الكيد والسب والشتم والافتراء وتجريد عالم زميل لهم من كل وأى شىء يمكن أن يتميز به. 

إننى أدعو إلى كلمة سواء بين الجميع. 

كلمة سواء تحفظ للجميع أقدارهم، وتحفظ للمنتمين إلى حقل العمل بالدعوة والفكر الدينى صورتهم، فليس معقولًا أن يتحول الحوار حول مسألة فقهية إلى خناقة فى حارة، تستخدم فيها كل الأساليب التى لا تتناسب أبدًا مع علماء الدين وأساتذة الأزهر. 

أعرف أن أحدًا لن ينصت إلى ما أقول. 

إننى أتمنى أن أجد الدكتور سعد الدين الهلالى جالسًا فى سيمنار علمى تنظمه جامعة الأزهر، يحضره من يريد، ومن لديه رأى فيما يقول، يدور الحوار بينهم بشكل راقٍ ومحترم، وتكون له مُخرجات واضحة ومحددة. 

فهل يمكن أن يحدث ذلك بعيدًا عن صخب الحوار على الشاشات اللامعة، الذى لا يتناسب أبدًا مع التعاطى مع مسألة علمية دقيقة؟ ونكتفى بالحديث فى حجرات العلم وجلسات النقاش الجادة؟ 

أستبعد أن يحدث ذلك لأن كل الأطراف تتعامل بعصبية شديدة، وفى النهاية لن نخرج بشىء. 

يمكن أن تهدأ ضجة تصريحات الدكتور سعد الدين الهلالى عن مسألة المساواة فى الميراث، كما هدأت ضجة الهجوم علىّ بعد ما قلته فى العام ٢٠١٨، ولن يحدث شىء، لكن توقعوا أن تظهر هذه الضجة مرة أخرى فى وقت آخر وعن طريق شخص آخر، وهكذا سيتكرر الأمر دون أن نصل إلى ما يحتاجه المجتمع ويلح عليه.

فهل آن الآوان لنمسك بالعقل؟ 

أتمنى أن يحدث ذلك لوجه الله.. ولوجه هذا المجتمع.