خيانة النقاد.. كيف أفسد كهنة الأدب الحالة الإبداعية المصرية؟
لم أكن قد رأيته قبلها ولو بشكل عابر.
كنا وقتها على وجه التقريب فى العام ٢٠٠٤.
الناقد الكبير فاروق عبدالقادر يجلس فى غرفة الاجتماعات بجريدة «صوت الأمة» مع بعض الزملاء، صافحته وجلست فى مواجهته، ومن اللحظة الأولى وجدت نفسى منصتًا لما يقوله، كان يحمل معه مقالًا مطولًا كتبه عن رواية «حكايات المؤسسة» التى كانت قد صدرت للروائى الكبير جمال الغيطانى.
أخذت النسخة من يد الناقد الكبير، وبدأت فى قراءتها، فهالنى ما كتبه، كنت قد قرأت الرواية وأخذتنى أجواؤها الخاصة غير المسبوقة، ورأيت أن عبدالقادر متحامل على الغيطانى للدرجة التى جعلتنى أبحث عن سبب آخر لكل هذا الهجوم، غير أن ما بين يدى مجرد رأى ناقد موضوعى فى عمل روائى.
غادرت الجلسة التى كانت صاخبة، فقد كان فاروق منطلقًا وصاخبًا يتحدث بحماس يتبادل مع الزملاء النكات والسخرية من الجميع، شعرت به واحدًا من كهنة معبد الأدب الذين يعتقدون أن بأيديهم هدم مَن يريدون ورفع من يشاءون إلى السماء.
سألت أحد الذين كانوا يجلسون إلى جوار فاروق فى غرفة الاجتماعات- عمل لسنوات إلى جوار الغيطانى فى أخبار الأدب بالمناسبة- هل هناك شىء بين فاروق وجمال؟
هز رأسه وابتسامة صغيرة تعبر عن ملامح وجهه: كتير... دى حكاية قديمة.
نسيت الحكاية كلها، حتى وجدت ما أعاننى على فهم بعض ما جرى.
فى ١٧ يونيو ٢٠٠٤ كان جمال الغيطانى يتحدث إلى جريدة الشرق الأوسط.
سأله الشاعر محمد أبوزيد الذى أجرى معه الحوار مباشرة: خصص الناقد فاروق عبدالقادر فصولًا كاملة من ثلاثة كتب له للهجوم عليك وعلى أعمالك الإبداعية، ويقول إن بينه وبينك قصة قصيرة؟ فما القصة؟
أجاب جمال: هذه حالة لا أتوقف عندها ولا أقرأها، وعندما يكون هناك ناقد يهاجم كاتبًا دون مبرر وباستمرار، فهذه حالة، وهو يكرهنى، الله يسامحه.
حاول أبوزيد أن يجرجر جمال إلى حديث أكثر تفصيلًا، فما قاله حتى الآن لا يعتبر إجابة.
سأله مرة ثانية: يرى بعض النقاد أن روايتك «حكايات المؤسسة» هى حكايات أخبار اليوم المؤسسة التى تعمل بها، فما رأيك؟
أجاب جمال: لا، الموضوع أكبر من هذا بكثير، ولا يوجد أى تشابه بين المؤسسة فى الرواية ومؤسسة أخبار اليوم.
وجدها جمال فرصة لينقض على فاروق عبدالقادر، فأضاف: هذا الكلام جزء من محاولات الإساءة إلىّ، والتى جسدها مقال الناقد الذى أشرت إليه سابقًا- كنا نحن من نشرنا المقال فى صوت الأمة بالفعل- وهذا استعداء للجهة التى أعمل بها ضدى واستعداء لجهات الأمن، واستعداء لما هو أكبر، بمعنى أنه لولا أنه يوجد قدر من المنطق والعقل فى الواقع الذى نحيا فيه لكنت قد صفيت جسديًا.
ما قاله جمال يؤكد أن الأمر بينه وبين فاروق عبدالقادر لم يكن أبدًا قصة قصيرة، بل كان عداءً كبيرًا، وصل إلى درجة اتهام جمال لفاروق بأنه كان يحرض بما كتبه على قتله.
فى ٢١ يناير ٢٠٠٥ أى بعد ما يقرب من ستة أشهر، كان فاروق عبدالقادر يتحدث إلى جريدة الشرق الأوسط أيضًا مع محمد أبوزيد.
سأله أبوزيد: ما حقيقة الخلاف الذى يكاد يكون مزمنًا بينك وبين الكاتب جمال الغيطانى؟
أجاب فاروق: بداية أنا لا أكره جمال الغيطانى، ولماذا أكرهه أصلًا وأخصه بالكره، وأنا أول ناقد يكتب عنه دراسة طويلة فى حياته، وأنا أتحداه أن يقول سببًا شخصيًا وراء ما أكتبه سلبًا أو إيجابًا، ولم يحدث إطلاقًا أننى ناقشته فى أى شىء، ولا على أى شىء لا منصب ولا مكان ولا نقود ولا حتى امرأة، ولا أنا أكتب ما يكتب، ولا توجد أى مبررات حتى أتخذ موقفًا ضده.
ولأن الإجابة كانت عائمة يمكن أن تقال على جمال وعلى غيره، كان السؤال من جديد: لماذا إذن تهاجمه دائمًا؟
هنا أفاض فاروق قليلًا، قال: لأننى أخذت موقفًا تجاه أعمال جمال الغيطانى، أما شخصه فهو لا يعنينى فى كثير أو قليل، وكما قلت أنا كتبت عنه أول دراسة طويلة عن أعماله فى مجلة الطليعة عام ١٩٧٢ بعنوان «الوجه والقناع»، وكان وقتها لم يصدر سوى مجموعة «أوراق شاب عاش من ألف عام»، وكانت رواية «الزينى بركات» ما زالت مخطوطة، وأنا قرأتها مخطوطة، وفى سنة ١٩٧٥ كنت مسئولًا عن ملحق الأدب فى مجلة الطليعة، طلب منى مراسل «لوموند» فى القاهرة أن أكتب دراسة عن الاتجاهات الجديدة فى الأدب المصرى وقتذاك، فكتبت عن أمل دنقل ومحمد عفيفى مطر وأبوسنة فى الشعر، وفى القصة عن الغيطانى ويحيى الطاهر عبدالله وعبدالحكيم قاسم، وفى سنة ٧٦ كتبت عن روايته «وقائع حارة الزعفرانى» وهى رواية مليئة بالثرثرة، ثم عن روايته «رسالة فى الصبابة والوجد» سنة ١٩٨٧، ثم كتبت سنة ٩٢ فى مجلة روزاليوسف عن روايته «هاتف المغيب».
استفز ما جرى مع رواية «هاتف المغيب» فاروق عبدالقادر فيما يبدو، يقول: لفت نظرى أنها تنشر فى جريدة الجمهورية مسلسلة وفى جريدة البيان مسلسلة، ثم فوجئت بأنها نشرت فى روايات الهلال خلال أسبوعين ولم تزل تنشر فى الجمهورية، فوجدت نفسى أمام ظاهرة، فقلت إن السبب ليس امتياز الرواية ولا تفردها، بل شبكة العلاقات العامة.
ويضيف عبدالقادر ما يزيد الصورة وضوحًا، يقول: لم يرد الغيطانى علىّ وحرض الآخرين على الكتابة ضدى، وكتب هو عما أسماه ببلطجية النقد الذين يشهرون جنازير الابتزاز والمطاوى المسممة.
يمكنك أن تستوقفنى الآن لتسأل، عن علاقة «خيانة النقاد» بهذه الواقعة الموثقة بين الروائى جمال الغيطانى والناقد فاروق عبدالقادر.
قد تتخيل أننى أريد الانقضاض على فاروق عبدالقادر، أو أننى أسير مع جمال فأردد عنه ما قاله فيه، على اعتبار أن الناقد هنا خان أمانة النقد، ولأسباب حتى لو بدت منطقية فإنها لم تكن تستدعى إهالة التراب على كل ما أنتجه الغيطانى، فرغم أننى لا أنكر أن صاحب «التجليات» كان مؤسسة علاقات عامة متكاملة ونشطة لا تتوقف عن التسويق والترويج له ولمن يرعاهم، فإن جمال فى النهاية صاحب منجز أدبى يجبرك على احترامه وتقديره، لا التعامل معه بكل هذه الاستهانة التى كان يبديها فاروق.
لماذا لا نكون صرحاء مع بعض أكثر وندخل فى الموضوع مباشرة؟
إننا نعانى من أزمة فى النقد.
نعانى من ندرة النقاد.
أصبحت الأرض التى تنتج مبدعين فى سماء النقد جرداء إلا قليلًا، لا يمكن بالطبع أن نقول إننا نعيش عصرًا بلا نقاد، فلا هذا صحيح علميًا، ولا هو منصف لعدد من الأسماء التى يمكن أن نعدها سويًا على أصابع اليد الواحدة، لا يزالون يقبضون على جمر العمل الجاد، ويحاولون الحفاظ على بريق دولة النقد فى مصر.. لكن وجود هؤلاء لا ينفى أننا نعانى وبشدة من غياب الأقلام الناقدة التى تحمل الأعمال الإبداعية إلى القراء على اختلاف مستوياتهم وأقدارهم.
خلال حلقات برنامجى «الشاهد» فى موسمه الخامس، جلست إلى عدد من النقاد الذين لهم إسهام واسم ومنجز فى عالم النقد، هؤلاء ورغم أنهم يقومون بكل ما يستطيعونه، فإنهم لم ينكروا أبدًا أن عالم النقد يعانى بشدة، بل إن طيف الانقراض يحوم حول عوالم النقد الجاد.
صحيح أن أزمة النقد ليست ظاهرة مصرية، فيبدو أن العالم يعانى أيضًا وهو ما قاله لى الدكتور حسين حمودة، أستاذ النقد الأدبى بجامعة القاهرة، لكنه قال أيضًا: لدينا فجوة كبيرة بين الأعمال الإبداعية والفنية بشكل عام وبين المتابعة النقدية، وهناك تراجع لسطوة النقد التى كانت موجودة فى فترة من الفترات، إننا نعانى بالفعل من غياب الناقد الجسر الذى كان يوصل النصوص الإبداعية إلى الجمهور الواسع.
سألته عن المعمل الأساسى لإنتاج النقاد، سألته عن الجامعة، فقال: النقد الأكاديمى حبيس سجن المصطلحات والتطبيق البليد والعقيم جدًا لاجتهادات نظرية نبعت من سياقات أخرى مختلفة وغريبة وبعضها ليس له جدوى، ومعظم الرسائل الأكاديمية عن نصوص السرد تنطلق من تصورات دارس أو ناقد أو باحث حول عتبات النص، كلهم يقفون عند عتبة الغلاف وعتبة العناوين والمداخل الأولى للنص، وكلهم يطبقون الآليات بشكل أعمى لا يفيد فى مقاربة جوهر النص الذى يتعاملون معه.
إذا استثنينا بعض النقاد من أساتذة الجامعة سنجد أن النقاد الأكاديميين تحولوا إلى عبء على الحركة النقدية فى مصر أكثر منهم إضافة لها، فهم لا يعملون إلا من أجل الحصول على الدرجات العلمية ولا ينجزون إلا بحوث الترقية... وعندما يكتبون فى الصحف والمجلات الثقافية تشعر أنهم يعانون من «عسر نقد»، فلا أحد يخرج منهم بشىء.
فى تراثنا النقدى يمكن أن نعدد عشرات الأسماء الكبيرة، محمد مندور، لويس عوض، غالى شكرى، شكرى عياد، لطيفة الزيات، على الراعى، فاروق عبدالقادر، صلاح فضل... وفى حاضرنا النقدى يمكن أن نعدد أسماء عديدة، وإن كنت لن أشير إلى أحد بعينه الآن، لأننى ما أكتب الآن إلا لأفتح معهم نقاشًا أرجو أن يكون مفيدًا حتى لو طال حول هذه الفكرة... فكرة غياب النقد الحقيقى.
بعض النقاد، ممن تحدثت معهم، أشاروا إلى أننا لا نعانى من غياب النقد، فما حدث هو تغييب النقد الحقيقى لصالح المؤلفين ودور النشر ومؤسسات التوزيع، فلم يعد أحد يهتم بالإبداع وتطوره بقدر الاهتمام بالتوزيع والوصول إلى قمة البيست سيلر، وبناء شهرة للأدباء حتى لو كانت زائفة، ولأن النقاد فى النهاية مواطنون يعانون من شظف العيش وأزمات الحياة، فإنهم يؤثرون السلامة، فلا يخوضون فى حديث يزعج أحدًا أو يقلق منام أحد.
هل تريدون ما يدلنا جميعًا على ذلك؟
راجعوا مع أنفسكم آخر معركة أدبية شهدها المجال العام الثقافى فى مصر، أعتقد أننا سنحتاج إلى بحث وتنقيب لنجد معركة حقيقية أثارها ناقد بسبب قراءته عملًا أدبيًا أو حتى طرحه فكرة أو نظرية أو تصورًا ما... الكل يلعب فى المضمون، وأصبحنا نتعامل مع النقد وكأنه جريمة، يجب ألا نقترب منها إلا ونحن نغمض أعيننا ونصم آذاننا، ولا نقول إلا ما يرضى من بأيديهم الأمر.
لا يمكننى أن أستسلم بالطبع لما يقوله عدد كبير من النقاد عن تغييبهم بفعل فاعل، لأنهم أيضًا متورطون فى المأساة التى يعيشها النقد، لقد سحب صناع المحتوى العابر على شبكات التواصل الاجتماعى البساط من تحت أقدام النقاد، أصبح شباب صغار لا يفعلون شيئًا أكثر من تقديم قراءات سطحية للأعمال الأدبية، وأصبحت دور نشر عديدة تصنع من خلال شبكات التواصل الاجتماعى ظواهر أدبية زائفة، لكنها تسيطر على المشهد بفعل الإلحاح الشديد والمتتالى، دون أن تكون هناك قيمة أدبية حقيقية لأبطال هذه الظواهر.
إننا نفتقد الكتاب الكبار الذين يحرصون على تقديم الأعمال الأدبية للقراء ببساطة تحببهم فيها، بين يدى كتب لطه حسين ويحيى حقى تقوم فقط على تقديماتهم لكتب ومقالات كتبوها عن كتب، وكان بعضها سببًا فى انتشار هذه الكتب وانتشار أصحابها... أبحث عن ذلك الآن فلا أجد.
وعلى القرب من القضية التى أناقشها أجد نقادًا كانوا سببًا فى اكتشاف مبدعين كبار، ولدينا رجاء النقاش الذى قدم للمجال العام الثقافى عددًا لا بأس به من المبدعين، قد تتفق معه أو تختلف فى حماسه لبعض الأسماء، لكنه فى النهاية كان يقوم بدور مهم ومؤثر.
لن ألتفت هنا إلى الأمراض العديدة التى ضربت جسد النقد.
فطبيعى أن تصيب الشللية النقد.
وطبيعى أن تلعب الأيديولوجيا دورها.
وطبيعى أن يكون هناك انحياز شخصى وسياسى.
وطبيعى أن يميل ناقد إلى المبدعات أكثر من المبدعين.
وطبيعى أن يلعب الحياء الإنسانى دورًا فيكتب كاتب عمن لا يستحق.
كنت أتعجب كثيرًا من كتابات طه حسين عن ثروت أباظة، وأتعجب من مديح صلاح فضل لكتاب وكاتبات عرب، وأشفق على من يهاجمهم فاروق عبدالقادر ويصب عليهم جام غضبه بسبب وفى الغالب بدون، لكننا فى العموم كنا نقف على حركة نقدية جادة.
إننى لا أتهم أحدًا، ولا أقول إن النقاد خانوا الإبداع عن قصد، ولكنها الخيانة التى ارتكبت بفعل الواقع وتشابكاته وتعقيداته ومصالحه وظروفه المعيشية الصعبة، لكن أليس من حقنا أن نحلم بحالة نقدية فريدة متفردة مرة أخرى؟.
إننى أطرح الأمر للنقاش... ومستعد لنشر كل الأفكار والآراء التى يمكن أن تقودنا لأسباب ما جرى، لعل وعسى أن نصل إلى حلول لأزمة نعانى منها ولا ينكر أحد ذلك.
بقى أن أختم بما بدأت.
ففى نهاية حديث جمال الغيطانى لجريدة الشرق الأوسط، قال: الأجيال الجديدة تقدم فورة فى الرواية، وتقدم شيئًا جديدًا حقيقيًا، لكن الكارثة أنه لا يوجد وضع ثقافى يبرز الناس، فأنا مثلًا ولدت من خلال كتاب واحد لأنه عندما ظهر «أوراق شاب عاش من ألف عام» كانت هناك أسماء نقدية لا يتطرق إليها الشك ولها المصداقية، بمعنى لو كتب محمد مندور عن أحد فهذا معناه أنه قد ولد أديبًا، لكن اليوم لا يوجد ناقد واحد له المصداقية، الاستثناءات محدودة ولا تصنع حركة نقدية، هناك نقاد يكتبون لتمشية المصالح أو من أجل المال، وهناك أقلام كبيرة فى النقد لا أقرأها لأنى أعرف أن ما يكتبونه هو سواد الحبر فى بياض الورق.
قال جمال الغيطانى هذا الكلام فى العام ٢٠٠٤... وأعتقد أنه لا يزال صالحًا إلى الآن... فما رأيكم؟