الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

على هامش اقتراح اعتبره البعض مثيرًا للجدل.. عملية تحرير المساجد فى مصر

افتتاحية العدد العاشر
افتتاحية العدد العاشر من حرف

 اقتراحى هو: لماذا لا يقدم كبار المثقفين والمفكرين والفلاسفة محاضرات فى المساجد؟

يمكن أن تستعين وزارة الأوقاف لتنفيذ الفكرة بأسماء مهمة مثل الدكتور سعيد توفيق أستاذ علم الجمال بجامعة القاهرة والدكتور يوسف زيدان

تشغلنى منذ سنوات بعيدة أسئلة عديدة عن الدور الذى يجب أن تقوم به المساجد فى حياتنا. 

كنت أتعجب مما يحدث داخل المساجد فى بلادنا، وكأنها جُعلت فقط لإقامة الصلاة، فإذا ما أقيمت الصلوات غادر الجميع المساجد وتركوها مغلقة وراءهم، ولم يكن يتغير شىء إلا فى شهر رمضان، حيث تتحول المساجد إلى خلية نحل، العبادة فيها قائمة معظم ساعات النهار والليل، وقراءة القرآن دائمة لا تنقطع أبدًا. 

مرت على المساجد فى مصر عهود كان يتم إغلاقها بقرار إدارى بعد أداء الصلوات، ولم يكن هناك أحد يشكو من ذلك، اللهم إلا من كانوا ينامون فى المساجد بعد الصلوات يحاولون تزجية الوقت بمزيد من الفراغ. 

كانت إدارة الدولة المصرية للمساجد، وخلال عقود طويلة بائسة جدًا، وكانت النتيجة الطبيعية أن يتم اختطاف هذه المساجد بتخطيط واضح ومع سبق إصرار وترصد من الجماعات المتطرفة، على رأسها جماعة الإخوان الإرهابية، ولك أن تتخيل أن هذه الجماعات كانت تقسم المساجد فيما بينها، وتحرم على بعضها البعض دخول المساجد التى تخصها. 

فى هذه المساجد المختطفة كان يتم تجنيد مئات الآلاف من الشباب، جعلت منهم الجماعات التى غسلت أدمغتهم مطية يركبونها ويوجهونها الوجهة التى يريدونها، ليتحول هؤلاء الشباب إلى قنابل موقوتة، وفى الوقت المحدد لها انفجرت فى وجه المجتمع وفى صدور الناس، ولا يخفى على أحد ما شهدناه من مساخر ارتكبت باسم الدين. 

يمكن أن أعطيكم مثالًا واحدًا لما جرى. 

تذكرون جميعًا الشيخ عبدالحميد كشك، الرجل الذى تعتبره الجماعات الإرهابية ويعتبره كثيرون ممن لا ينتمون إلى هذه الجماعات أهم وأبرع من صعد المنبر فى القرن العشرين، دون أن يلتفتوا إلى الأثر السام الذى تركه وراءه. 

صحيح أن الشيخ كشك كان موظفًا فى وزارة الأوقاف، عينته الوزارة إمامًا وخطيبًا فى مسجد عين الحياة فى حدائق القبة، وبمرور السنوات جعل الشيخ كشك هذا المسجد مستعمرة خاصة به هو، أصبح مع الأيام أقوى من الوزارة وأجهزتها المختلفة، واستطاع أن يجند آلافًا من الشباب ويدفعهم دفعًا إلى الدخول فى صفوف الجماعات الإرهابية. 

ويشهد على ذلك عدد من قيادات الجماعة الإرهابية، وبعضهم غادرها إلى غير رجعة، ويمكنكم أن تسألوا المفكر الكبير ثروت الخرباوى كيف دخل إلى جماعة الإخوان؟ 

كان ثروت شابًا فى مقتبل حياته، قادته الصدفة أو ترتيب الأصدقاء إلى أن يحضر خطبة للشيخ كشك فى مسجد عين الحياة، وكانت الصدفة أيضًا أن خطبة الشيخ عن سيد قطب وليلة اغتياله، وعندما نراجع هذه الخطبة سنقف على ما فيها من إفك وأكاذيب وأساطير وخرافات وقصص مخترعة لا صلة لها بالواقع، لكن ما جرى أن هذه الخطبة كان لها مفعول السحر فى نفس الشاب ثروت الذى خرج من المسجد، وهو ينتوى الانضمام إلى جماعة الإخوان. 

يمكن أن نضرب عشرات الأمثلة على المساجد التى تم إخراجها من حزام سيطرة الدولة، ودخولها تحت سطوة الجماعات الإرهابية، ولا ننكر أن هذه المساجد كانت تتحول إلى مؤسسات ضخمة تمارس فيها كل الأنشطة التى تخدم أهداف الجماعات وتحققها، فقد ربطوا الناس من خلال مستوصفات طبية ألحقوها بهذه المساجد، وتم تأسيس جمعيات خيرية جذبوا من خلالها الناس بالمساعدات والعطايا، وأصبحت مركزًا للدروس المجانية، فأقبل الطلاب عليها من كل فج عميق. 

بعد ٣٠ يونيو ٢٠١٣ انتبهت الدولة إلى خطورة المساجد التى كانت تحت أيدى الجماعات، فقررت أن تحررها، ولا يمكن أن أتجاهل الجهد الكبير والهائل الذى بذله الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف، الذى حمل على عاتقه مهمة تحرير المساجد من الجماعات المتطرفة، وهى عملية لم تكن سهلة أبدًا، وأعتقد أن هذه التجربة يجب أن توثق فى كتاب، لأنها من بين جهود الجمهورية الجديدة، ولدى الدكتور مختار جمعة والفريق المعاون له آلاف الحكايات التى يجب أن تروى. 

لكن الأسئلة التى تفرض نفسها علينا، وبعد مرور كل هذه السنوات، هى: هل تم تحرير المساجد بشكل كامل؟ هل يمكن أن نقول إن عملية استردادها تمت على الوجه الأكمل الذى نريده ونحلم به؟، هل أصبحت المساجد مؤسسات متكاملة تعين الدولة على تحقيق أهدافها.. أم أننا حررنا المساجد فقط ممن كانوا يسيطرون عليها وكفى الله المؤمنين شر القتال بعد ذلك؟ 

لا أنكر أن هناك جهودًا كبيرة بذلت فى إعادة تأهيل من يقومون على شئون المساجد، وتم توفير جيل من الدعاة والوعاظ مختلف تمامًا عن الوعاظ السابقين الذين كانوا يغرقون الناس فى بحار القشور الدينية، فلا يدخلون بهم إلى بحار الدين العميقة، ولا يعقدون صلحًا بينهم وبين الدين والحياة، لكننى أعتقد أننا لم نفعل كل المطلوب منا. 

فحتى الدعاة المحدثون- إذا جاز لنا أن نطلق عليهم ذلك- لا يزالون غير مؤهلين بشكل كامل لخوض غمار المعركة الكبرى التى أعلنت عنها الدولة، وهى معركة تجديد الفكر الدينى. 

لا أميل كثيرًا إلى مسألة تجديد الخطاب الدينى، فالمصطلح غامض ومريب ولا يجيد الكثيرون فهمه، والأقرب إلى الصواب هو تجديد الفكر الذى هو نتاج تعامل الفقهاء القدامى مع النصوص المقدسة التى وردت فى القرآن الكريم، أو تلك التى وردت فى السنة النبوية الصحيحة، فهذا الفكر كان نتاجًا لاجتهادات السابقين التى تناسب عصورهم وتتناسب مع ثقافاتهم، وهو الفكر الذى يحتاج إلى تجديد؛ لأنه غير قادر على التفاعل مع مشكلاتنا المعاصرة، وهى مشكلات معقدة ومتشابكة. 

لدىّ أفكار كثيرة يمكن أن أسوقها بين يدى من يديرون الأمور ويدبرونها، لكننى توقفت أمام فكرة صغتها، وجعلت منها مجرد اقتراح كتبته على صفحتى الشخصية بـ«فيسبوك» وأرسلتها بشكل شخصى إلى وزير الأوقاف الدكتور مختار جمعة. 

يقوم هذا الاقتراح على سؤال واضح ومحدد، هو: لماذا لا يقدم كبار المثقفين والمفكرين والفلاسفة محاضرات فى المساجد؟ 

أعرف أن هذه الفكرة قد لا تروق لكثيرين، لكننى أرى أنها مهمة وسيكون لها أثر كبير، فما الذى يمنع أن تستعين وزارة الأوقاف بعدد من كبار المثقفين والمفكرين والفلاسفة لتقديم محاضرات فى المساجد؟ ويمكن أن نبدأ بالمساجد الكبرى فى المحافظات المختلفة، ونستغل شهر رمضان فى تعظيم قيمة الفكرة، فالإقبال على المساجد فى الشهر الكريم كبير. 

يمكن أن تستعين وزارة الأوقاف لتنفيذ الفكرة بأسماء مهمة، مثل الدكتور سعيد توفيق، أستاذ علم الجمال بجامعة القاهرة، والدكتور يوسف زيدان، والدكتور أحمد عكاشة، والدكتور محمد المهدى، أستاذ الطب النفسى بجامعة الأزهر، والدكتور عبدالمنعم سعيد، والدكتورة هدى زكريا، ويمكن أن أضع أمام وزير الأوقاف- لو قرر تنفيذ الفكرة- أكثر من ألف اسم يقدر على المشاركة. 

يعتقد البعض أننى أرشح هؤلاء للحديث فى الدين. 

لا أقصد إلى ذلك إطلاقًا. 

أنا أريدهم أن يتحدثوا فى الحياة، لأننا جميعًا نريد أن نعرف عن الحياة أكثر، لذلك لا أقترح أن يصعد هؤلاء المنابر، ولكن يكفى أن تكون محاضراتهم فى مواعيد الدروس التى تخصصها الوزارة بالمساجد؛ لنمنح عقول مصر الحقيقية فرصة الوصول إلى الناس مباشرة للحديث معهم والرد على تساؤلاتهم والنقاش حول ما يشغلهم، وليكن هذا فى المساجد التى يجب أن تكون مؤسسات للفكر والثقافة والتنوير. 

جربوا ولن تخسروا شيئًا.

إننى هنا أجدد الدعوة مرة أخرى. 

لقد اعتبر البعض ما طرحته أمرًا مثيرًا للجدل، واعتبره البعض غريبًا وشاذًا، ويجب ألا نقترب منه بالمناقشة من الأساس، وليس بالتفكير فيه لتنفيذه، وحاول البعض تصوير ما قلته على أنه محاولة جديدة لهدم الدين، بل اعتبره البعض إساءة للإسلام، لكن ما أسعدنى أن هناك كثيرين اعتبروا الاقتراح مهمًا، ولا بد من تنفيذه على الفور، فقد تأخرنا كثيرًا فى تحقيقه. 

المفاجأة كانت فى رد وزير الأوقاف على الاقتراح، قال لى عندما قابلته فى احتفالية يوم الشهيد إن الفكرة لا بأس بها، وإنه يمكن أن يفكر فى تنفيذها، ولكن مع بعض التعديلات. 

وزير الأوقاف قال لى إنه طلب من وزارة الصحة أن تخصص عددًا من الأطباء للحديث مع الناس، على رأسهم الخطباء بالفعل، وحدد موضوعين للحديث فيهما، وهما الزيادة السكانية للتوعية بمخاطرها، والطب الوقائى وضرورة الأخذ بأبجدياته، أما عن موضوع المفكرين والفلاسفة والمثقفين، فيمكن أن تكون هناك مرحلة أولى للتنفيذ، وهى أن تكون هناك محاضرات يلقيها هؤلاء على خطباء المساجد ووعاظها، من خلال أكاديمية الأوقاف للتدريب، التى شهدت بالفعل عددًا من المحاضرات من متخصصين فى مختلف المجالات، وكان تفاعل الدعاة معها كبيرًا جدًا. 

لا بد أن أشير هنا إلى تجربتى، فقد ألقيت محاضرة فى أكاديمية الدعاة، حضرها عدد من العاملين فى الدعوة، وطرحت عليهم أفكارًا من خارج الصندوق بالفعل، وكان التفاعل معها كبيرًا، وهو أمر لا بد أن أوثقه هنا، لأنه واقع يجب ألا أتجاهله. 

أقدر بالطبع تفاعل وزير الأوقاف الدكتور مختار جمعة، وأقدر أيضًا وعده بأن يتيح لعدد من الفلاسفة والمثقفين والكتاب والمفكرين الفرصة كاملة لأن يلتقوا الدعاة، فهذا يمكن أن يكون له أطيب الأثر فى دعم تأهيل الدعاة؛ ليكونوا أكثر قدرة على التعامل مع مستجدات الحياة ومع المشاكل المعاصرة التى لم يتطرق لها الدعاة والمجتهدون القدامى. 

لكننى أسعى لما هو أبعد من ذلك. 

فالمحاضرات التى أسعى إليها أكبر من مجرد محاضرات تلقى فى دورات تدريبية، ولكنها محاضرات تكون مباشرة يجلس فيها المثقفون والمبدعون والفلاسفة مع الناس وجهًا لوجه، يستمعون إلى أسئلتهم وأفكارهم وما يشغل بالهم، يتحدثون مع الناس دون وسيط. 

هذا يحقق فى الواقع فائدتين من وجهة نظرى. 

الفائدة الأولى، أنها ستلغى من الذهنية العامة الصورة المرسومة عن هؤلاء المثقفين، وهى أنهم ضد الدين يعادونه ويريدون هدمه، رغم أن هؤلاء ليسوا أبدًا ضد الدين، ولكنهم ضد الاستخدام النفعى للدين، ووجودهم فى المساجد يمكن أن ينهى حالة اللبس من حولهم، وأعتقد أنهم بذلك يمكن أن يكونوا إضافة قوية لمسيرة الفكر الدينى. 

الفائدة الثانية، هى رفع وعى الناس بشكل حقيقى، فالنقاش المفتوح سيكون أكثر فائدة، فالدين عند المصريين هو الحياة، لكن الدعاة التقليديين وضعوا بينه وبين الحياة حجابًا، ولا بد أن نقوم جميعًا بتمزيق هذا الحجاب، لأن هذا فيه فائدة كبرى للدين والحياة فى آن واحد. 

لا أتعجل بالطبع تنفيذ الفكرة، فكثيرون يمكن أن يقوموا بتعطيلها، لأن المصالح أقوى من الدين، لكننى أعرف أننا يومًا ما سنصل إلى تحقيقها، لأن الحياة تنتصر دائمًا، حتى لو كان هناك من يخططون لتعطيلها ووضع أكبر المعوقات فى طريقها. 

إننى أتخيل معكم مجرد تخيل، لو أن الفرصة كانت أتيحت لمفكرينا الكبار أمثال طه حسين والعقاد ومحمد حسين هيكل وأحمد أمين وتوفيق الحكيم ويحيى حقى وفؤاد زكريا وزكى نجيب محمود وحسن حنفى وفرج فودة ونصر حامد أبوزيد، أن يجلسوا إلى الناس فى المساجد، ليشرحوا لهم أفكارهم، ويضعوهم أمام أفكارهم واجتهاداتهم، أعتقد أن شكل الحياة كان سيتغير بدرجة كبيرة، ولما استطاعت الجماعات الإرهابية اختطاف المساجد وجعلها منصات لإطلاق الرصاص على صدر المجتمع.