إبراهيم عبدالمجيد متحدثًا عن «عتبات البهجة»: استلهمت الرواية من «صاحبة نصبة شاى»
الكاتب الكبير إبراهيم عبدالمجيد شلال إبداع لا يتوقف، فهو يتقن جيدًا صناعة المتعة وتكوين الحكاية، والتقاط تفاصيلها من أبسط الأشياء، وأكثرها عادية فى حياته وفى دائرة تحركاته. وروايته «عتبات البهجة» التى تم تحويلها لمسلسل بطولة النجم يحيى الفخرانى، إنتاج شركة «العدل جروب»، ويعرض على قنوات الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، فى رمضان المقبل، خير دليل على قدراته الفائقة على استخدام العادى واليومى، وتشبيكه فى حكاية خلابة، ووضعها فى بناء روائى متين. فى حواره مع «حرف»، يكشف الكاتب الكبير عن كواليس كتابته للرواية والحدث الذى ألهمه للبدء فيها، كما يكشف عن أسماء شخصياتها الحقيقية من واقع الحياة، وتفاصيل أخرى.
■ كيف جاءت فكرة رواية عتبات البهجة؟
- «عتبات البهجة» رواية ابنة حياة مرتبكة، كنت فى هذا الوقت أعانى من آلام الشريان التاجى فى بدايتها، والتى اقتضت،حسب تعليمات الطبيب، أن أنقص وزنى وأمشى كل يوم ثلاثة كيلومترات على الأقل، وكان يزورنى صديقى شاعر العامية الجميل محمد كشيك، وكنت أزوره فى منزله فى الوراق قريبًا من مكان سكنى، فى هذا الوقت، إذ لم أكن قد انتقلت حينها لحدائق الأهرام، وكنت أقطن فى منطقة أرض الجمعية.
كان محمد كشيك مولعًا بمعرفة الأدوية الطبيعية والنباتات والعطارة وغيرها، وكان كثير الدخول إلى مواقع الإنترنت ليتابع هذه الأشياء، وقال لى إنه يحتاج للمشى رغم أنه ليس مريضًا، وهكذا كان يأتى إلى فنخرج معًا مشيًا على الأقدام حتى ميدان الكيت كات، وفى ميدان الكيت كات كانت هناك حديقة لم أفطن لوجودها حينها، رغم مرورى على المكان لعشرين عامًا أو يزيد، أو فطنت لوجودها لكنها لم تشكل لى أهمية لصغرها، ومن ثم تعودت أن أمر عليها دون اهتمام سواء كنت أقود سيارتى أو دونها، والمسافة من البيت لمنطلقة الكيت كات ليست قصيرة، وتزيد على ٣ كيلومترات، وكنا نعود مشيًا أيضًا، وكثيرًا ما كنا ندخل منطقة المنيرة شديدة الزحام، ومنها على عزبة سعد حيث باعة السيراميك وسوقه، ومنها إلى الكيت كات ثم الحديقة، المهم أننا نمشى سواء فى اتجاه واحد على كورنيش النيل، أو فى «خبط عشوائى»، كنا نمشى والسلام، نراقب ما يحدث حولنا ونعلق عليه ونضحك، خاصة أن تعليقات محمد كشيك كلها غير متوقعة وخارجة عن حدود العقل العادى.
اقترح علىّ فى أول يوم خرجنا فيه أن نجلس فى الحديقة، ونرتاح قليلًا قبل العودة مشيًا أيضًا، ودخلنا إلى الحديقة الصغيرة الخالية من الناس، ربما كان هناك ثلاثة فقط يجلسون بعيدًا عن بعضهم منسيين أو نسيهم الزمن، وكانت هناك بائعة للشاى وقريبًا منها بائعة للب والفول السودانى، وكانت بائعة الشاى امرأة ضخمة الجسم سوداء ترتدى جلبابًا أسود أيضًا، طلبنا منها كوبين من الشاى، أو بالأحرى طلبهما محمد، قائلا لى: «مينفعش نقعد هنا من غير ما ننفعهم»، وبعد لحظات لمحنا فتاة جميلة شديدة البياض تأتى إلينا بالشاى، والذين يعرفون محمد كشيك يعرفون أنه لا يمكن أن يجلس صامتًا، سألها: «إنتى بيضا والست الكبيرة سودا، إنتى بتشتغلى عندها؟»، فضحكت الفتاة وقالت: «أنا بنتها»، أشار محمد للمرأة الكبيرة، فى حوالى الخمسين، وقال لها: «البنت دى بتضحك علينا وبتقول إنها بنتك.. إزاى؟»، كل ذلك وأنا أكتم الضحك، وقالت المرأة إن أباها أبيض، وبعد قليل رأينا طفلًا أسود يجرى فى الحديقة وتناديه البنت البيضاء، فقال لها محمد: «إياك تقولى إنه ابنك»، فضحكت الفتاة وقالت: «هو ابنى فعلًا وأبوه أسود البشرة»، وضحكنا من هذا التناقض الغريب بين البنت وأمها وابنها، ويومًا بعد يوم تعودنا عليهم وعرفنا أسرار حياتهم، كل ذلك كان يمر بى عاديًا، ولأنى اتبعت «رجيمًا» فى الأكل، فكان كشيك يدخل على المواقع الإلكترونية ويحدثنى عما هو مفيد للقلب، واقترح علىّ الذهاب لمحل «حرَّاز» بباب الخلق لنشترى عسل النحل الجبلى، وغيره من الأعشاب الطبيعية، وكانت تحدث حوارات مربكة بينه وبين الباعة وبين ابن صاحب المحل الذى يجلس فيه فى الدور الثانى، وكل ذلك تجده فى الرواية التى كتبتها فيما بعد، كنا نوغل فى المشى، فكنا مرة فى ميدان السيدة زينب وعدنا مشيًا، وقال لى إياك أن تخبر أحدًا بأننا مشينا هذه المسافة، وبعد يومين وجدت كل زملائنا فى العمل فى الثقافة الجماهيرية يعرفون أننا عدنا من السيدة زينب للوراق مشيًا، وكل ذلك والرواية لا تخايلنى ولا تشغلنى كتابتها.
■ إذن ما الحدث الذى أدخلك إلى قلب الرواية مباشرة؟
- فى أحد الأيام وأنا جالس لوحدى فى البيت، رحت أشاهد فيلم «عربة اسمها الرغبة» وكان فيلم لجيسيكا لانج وإليك بالدوين، وشاهدت الفيلم حتى وصلت إلى نهايته، حيث عربة الإسعاف تأتى لتحمل جيسيكا لمستشفى الأمراض العقلية، وهى تقول لطبيب الإسعاف: «كنت أنتظرك من وقت طويل يا حبيبى»، لقد أحاطها كل الأشرار حتى فقدت عقلها، مثل «بيضاء الغابة»، كما هو اسمها فى الفيلم والمسرحية العظيمة لتنيسى ويليامز، وجدت نفسى أبكى، أجل أبكى، أنا الذى استطعت الحفاظ على عقلى فى هذا العالم المجنون حولى الملىء بالصغائر والمؤامرات ودخلت غرفتى وجلست أستمع للموسيقى كعادتى لأغسل أحزانى، أفلام كثيرة رأيتها فى حياتى مررت معى كثيرًا من الوقت بالفرح أو بالألم، كان من بينها فيلم «الساعات» عن حياة فرجينيا وولف، ووجدت نفسى أبتسم وأضحك من غرابة ما نراه فى طريقنا كل يوم وغرابة حياتى وتشردى وأبكى من أجل «بيضاء الغابة» جيسيكا لانج التى يسمونها فى هوليود إلهة الجنس، وهى تقول لهم أطلقوا علىّ أى لقب آخر غير هذا، لأنه لا أحد يمتلك الجرأة لممارسة الجنس مع إلهة، وبدأت أفكر فى كتابة الرواية، بل بدأت كتابتها على الفور.
■ ما مراحل كتابة الرواية نفسها؟
- انتهيت من نصف الرواية بعد أشهر من الأحداث التى حكيتها لك، وما إن وصلت إلى نصفها حتى وجدت رغبة قوية فى أن أعيدها بضمير المتكلم وليس الغائب، اعدت الفصل الأول بضمير المتكلم فأضاء أمامى واتسع بنا الفضاء، أنا وهو، إذن هذا هو السرد الأمثل للكتابة لهذه الرواية.
أعجب ما فى الرواية هو أننى وجدت نفسى أقفز فصلين لا أكتبهما، وأنتقل للفصل التالى لكل منهما، أصبحت الرواية واضحة أمامى، وصرت على يقين أننى سأكتبها وتكتبنى.
■ لماذا تركت هذين الفصلين؟
- كان فيهما فصل أكثره حديث عن الأعشاب والعلاج بها، المعلومات أمر سهل، وأرجأت هذا الفصل لأذهب لمحل «حرًّاز»، كان صاحبه مندهشًا من الزيارة رغم أننا اشترينا من قبل أشياء كثيرة، وقلت له هذه الزيارة تختلف، سأجلس وأتأمل المكان، وسأكتب بعض أسماء العقاقير العشبية، وبالفعل ذهبنا وجلست على مقعد، وتركته يتحدث مع الباعة بينما أراقب أنا الداخلين والخارجين وأسماء بعض العقاقير ثم وقفت لننصرف، لم يطل الوقت وكان هو مندهشًا جدًا، وقال: «أهكذا حصلت على ما تريد؟ أنت غريب جدًا»، وبالفعل لم أكن فى حاجة إلا لزيارة المكان فى صمت، وكتبت الفصل الذى تركته خاليًا.
■ ماذا عن الفصل التالى؟
- كان فيه معلومات عن الكلاب وأنواعها، أخذتها من الإنترنت، ومن كتاب صغير عرفت منه الكثير عن الكلاب، لكنى كنت فى حاجة للذهاب لسوق الكلاب، وأدخله صامتًا وأخرج كما فعلت فى محل الأعشاب، وذهبنا إلى سوق السيدة عائشة، سوق الكلاب صغيرة هناك، ودخلت وظللت أكثر من عشرة دقائق صامتًا، وكان كشيك يتحدث ويسأل نفس أسئلتى دون أن يدرى.
■ هل لنهاية الرواية قصة أيضًا؟
- نعم وقصة عجيبة، وجاءت لى الفكرة فى مقهى، وكنت أجلس أنا وكشيك كعادتنا، وأثناء جلستنا لنشرب الشاى هلّ علينا رجل ضخم يرتدى الجلباب البلدى وعمامة فوق رأسه وألقى السلام، وحدثنى مباشرة بعد أن رددنا السلام: «مش عايز يا بيه واحدة ست تشتغل عندك فى البيت شغالة أو خفير للعمارة بتاعتك؟».
كان يحدثنى أنا، وعلى الفور رأيت محمد كشيك ينظر إليه نظرة دهشة ويتردد فى الكلام، وتحدثت وقلت: «متأسف لأنى معنديش عمارة وبالتالى لا أحتاج لحارس ولا لشغالة، وإذا بمحمد كشيك قبل أن يتكلم الرجل يقول له: «أنت بتشتغل إيه؟»، فأجاب: «عامل على باب الله»، ورد كشيك: «أنت باين عليك شيخ منسر»، واندهشت من إهانته للرجل الذى بدوره أخرج بطاقته الشخصية وقدمها لنا وهو يقول: «دى بطاقتى يا بيه وده اسمى وعنوانى»، وامسك كشيك بالبطاقة وراح يضحك وقال: «اسمك أبوصفيحة»، فقال الرجل: «اسم العيلة يا بيه لكن أنا اسمى محمد»، وأمسكت بالبطاقة وراعنى الاسم الذى ينتهى بأبى صفيحة وابتسمت وطلبت للرجل شايًا وجلس الرجل، وما كاد ينتهى حتى منحته ٢٠ جنيهًا، وشكرنى ودعا لنا وانصرف، هذا الرجل منحنى نهاية الرواية التى كنت متحيرًا فيها، كنت أفكر أن يشترى كل من أحمد وحسن، بطلى الرواية، كلبين ويمشيان فى الطرقات وقد وضع كل منهما نظارة على عينيه كأنهما كفيفان يهديهما الكلبان، الآن انتهت الرواية بهما وهما يشتريان الكلبين ويعطيانهما لأبى صفيحة المسكين الذى قابلاه على المقهى ليربيهما ويبيعهما ويستفيد من ثمنهما، ويستمر فى تجارة الكلاب.
■ الرواية تتمحور حول سؤال عصى يتعلق بالبهجة؟
- نعم وسؤال الرواية هو لماذا كلما اقتربت منا البهجة ابتعدت عنا؟ ليرد حسن، بطل الرواية، على هذا السؤال، بأن الوقوف على عتبات البهجة خير من الدخول إلى البهجة نفسها لأنك إن دخلت إليها قتلتك وأهلكتك، فيفكر أحمد، قائلًا: «لم أقتنع بكلامه لكنى كالعادة صدقته، ومشينا صامتين».
والرواية كلها مواقف، لا يصل البطل إلى نهايتها وتنتهى على عكس ما أراد وبسرعة مثل كل شىء، مثل الحب والجنس وغيرهما.
■ هل عرف «كشيك» بأن شخصية «حسن» تجسده وهل عرف بأمر الرواية قبل صدورها؟
- بالطبع لقد منحتها له لكى يقرأها مخطوطة، وكانت مفاجأة له وخاصة نهايتها و«أبوصفيحة» الذى ألهمنى، وبعد أن صدرت الرواية ذهب كشيك وحده إلى الحديقة ولم ير صاحبة نصبة الشاى أو ابنتها وعرف أنها غادرت المكان ونظر إلى وهو يقول: «لقد وضعها الله فى طريقك لتكتب الرواية ثم تختفى»، وكذلك فعل الله حين أقبل علينا «أبوصفيحة» فى المقهى، كان ينظر لى بدهشة شديدة، وهو الشاعر الجميل الذى لا شك يعرف أن الكون يمنح الفنان ما يريد إذا صدقت رغبته فيما يريد، إن الإلهام ليس من الأفكار لكنه أحداث وبشر وطريق، ولك أن تعلم أنه بعد عام من صدور الرواية كان كشيك يركب ميكروباصًا متجهًا لمستشفى دار الفؤاد، ليزور الناقد السينمائى على أبوشادى، وعاد إلىّ وهو يهتف: تصور فى الميكروباص قابلت أبوصفيحة وهو الذى تعرف علىّ، أنا كنت نسيته، وسألنى عنك، قال: «فين البيه المحترم اللى إدانى العشرين جنيه»، فقلت له: «لقد كتب عنك رواية، قصة يعنى»، وضحك وقال: «ما دام كدا ادفع لى أجرة الميكروباص»، فدفعت له أجرته، ثم ضحكت من الصدف وانتهت «عتبات البهجة» وانتهت كتابتها.
■ كيف استقبلت فكرة تحويل العمل إلى مسلسل؟
- سعدت جدًا، وأتمنى أن يلتفت المنتجون للرواية فى مصر، فالسينما قامت على الرواية وهذا ينقصنا الآن كثيرًا. هناك روايات كثيرة لكتاب كثيرين تستحق أن تتحول لأفلام ومسلسلات.
■ كيف ترى نجمًا بحجم يحيى الفخرانى كشخصية من شخصياتك؟
- والله هذه إضافة رائعة. يحيى الفخرانى بهجة الفن وسيظل بهجة الفن إلى الأبد، ومحبتى وسعادتى به تفوق كل خيال.
■ قلت إن الرواية والسيناريو مختلفان فى طبيعتهما.. إلى أى مدى يمكن أن يكون هذا الاختلاف فى صالح المسلسل؟
- الرواية لغة والسيناريو صورة. مقتضيات الصورة تختلف. لا أحب المقارنة بين أى عمل أدبى وعمل سينمائى أو تليفزيونى. الحكم على الرواية من لغتها وشكلها الأدبى، والحكم على المسلسل أو الفيلم من الصور وتتابع المشاهد ومعانيها وغير ذلك كثير. كما أن المسلسل أو الفيلم يخضع للرقابة بينما فى الرواية تتميز بحرية كبيرة. مسألة المقارنة بين الفيلم أو المسلسل والرواية لا أقف عندها ولا أهتم بها. هكذا مثلًا كان نجيب محفوظ وغيره من كتاب العالم. أنا مسئول عن روايتى أما الفيلم أو المسلسل فمسئولية السيناريست والمخرج والمنتج والممثلين والمصور والموسيقار.. إلخ، كما أن أدوات الصورة غير أدوات الأدب.
■ هل كانت لك أى اشتراطات لتحويل الرواية لعمل درامى وهل تابعت أيًا من لقطات التصوير؟
- لم يكن لى اشتراطات من أى نوع للأسباب التى قلتها، وهى أن الرواية لغة والمسلسل صورة. وبسبب تعبى الصحى ذهبت مرة واحدة وجلست مع المنتج جمال العدل والمخرج الكبير مجدى أبوعميرة والممثل القدير يحيى الفخرانى عدة ساعات، وتابعت بعض لقطات التصوير وعدت سعيدًا جدًا.
■ ما إحساسك بهذا الإنجاز؟
- سعيد جدًا طبعًا وهذا ما تفعله السينما بالرواية، حيث تزيد من الإقبال عليها.
■ هناك أكثر من عمل أدبى تم تحويله إلى عمل درامى مؤخرًا.. كيف ترى تأثير هذا على سوق النشر؟
درست عالم الأعشاب فى محل عطارة وتجولت فى أسواق الكلاب لإتقان التفاصيل الدرامية للعمل. أين هى الأعمال الدرامية عن الروايات؟ هناك عمل على الأكثر كل عام، نحن الآن نقدم خمسة عشر فيلمًا سينمائيًا تقريبًا كل سنة، بينما كنا يومًا ما نقدم سبعين وثمانين فيلمًا، تشغل الرواية نصفها على الأقل، والأمر نفسه فى المسلسلات. صناعة السينما فى أزمة كبيرة للأسف.