على قطب: نجيب محفوظ امتلك صوتا جميلا وحفظ الأغانى من الاندثار
تعلم الغناء من نداء الباعة ولعب الأطفال فى الشوارع وشاعر الربابة فى المقهى
تبنى الأداء المجازى وشعرية الوصف والإيحاءات الغامضة الموحية
حفظ الأغانى من الاندثار.. وصوته ذاكرة جيل لم تتوفر له أجهزة التسجيل
لو لم يكن نجيب محفوظ روائيًا عظيمًا، بالتأكيد كان سيصبح شاعرًا كبيرًا، فالغنائية والحس الشاعرى، هما المحور الأساس لتجربته السردية، والقارئ الجيد لأعماله، يدرك كيف يحضر المجاز بشكل رئيسى فى تكوين العمل الروائى لديه.
الكاتب الشاب على قطب، حلل جيدًا تلك الظاهرة، فى كتابه الجديد، «الغناء والطرب فى أدب نجيب محفوظ»، الصادر عن بيت الحكمة للنشر والتوزيع، مبينًا كيف تأثر محفوظ بتلك الغنائية، وكيف وظّفها فى أعماله بطريقة، تشكل تأريخًا لتطور الأغنية الشرقية.
عن كتابه الجديد والأفكار التى يضمها، أجرت «حرف» مع الكاتب على قطب، الحوار التالى.
■ «الغناء عند نجيب محفوظ».. كيف استمد أديب نوبل تلك الميزة؟
- كل العوالم التى عاش فيها نجيب محفوظ مليئة بالغناء: نداء الباعة، لعب الأطفال فى الشوارع، شاعر الربابة فى المقهى، حلقات الذكر، الابتهالات، صوت الأذان، ولكل هذه الأصوات جمال، فقد تأثر بحفلات المنازل والأسطوانات، ثم دخول الراديو والإذاعات الأهلية، ثم الإذاعة الحكومية.
ونجيب محفوظ نفسه امتلك صوتًا جميلًا، والبطل لديه جميل الصوت، ككمال عبدالجواد، أو الصبى فى «حكايات حارتنا»، وكان هناك إجماع على جمال صوته من الجارات اللاتى يقلن لوالدته: «ليكن مثل سى أنور أو عبداللطيف البنا».
وهناك تنغيم فى الحياة اليومية، حتى فى المشاجرات، والمسرح الغنائى أيضًا أثر فى «نجيب»، وأعمال سلامة حجازى وسيد درويش وزكريا أحمد وداود حسنى، وزكريا أحمد من أكثر الشخصيات حضورًا فى عالم «محفوظ».
■ يتطلب الأمر الكثير لمعرفة أبعاد الغنائية عند «محفوظ».. كيف كانت رحلتك مع الكتاب؟
- الرحلة بدأت من فكرة تستوعب دراسة موضوعية، تسمح بإظهار شخصية «محفوظ»، ومن ثم الشخصية المصرية، فموضوع الغناء حاضر بقوة لديه، على مستويات، أسماء الأغنيات وما يتعلق بها، مستوى ارتباط الأغنية بالدراما، ومستوى المجاز الغنائى، ثم ترتيب الأغنيات فى شكل معجم، حدث بعد ذلك أننى انتقلت من الغناء إلى الغنائية، حيث جمعت الشعر ورتبته على القوافى مع تخريج لها، كما أخرجت الأناشيد الفرعونية خاصة ترنيمة أخناتون من خلال أعمال سليم حسن وهنرى برستد، إضافة لغزليات حافظ الشيرازى الموجودة فى «حكايات حارتنا» و«الحرافيش»، مع تحويلها إلى العربية بترجمة إبراهيم أمين الشواربى.
بالإضافة للمعجم الخاص بالأغانى والأشعار والأناشيد الفرعونية وغزليات «حافظ»، والطريف أن اسم «حافظ» قريب من اسم «محفوظ»، وكان لدى ثلاثة محاور أساسية للعمل، وهذه المحاور تعالج ظاهرة الغناء عند نجيب محفوظ، بوصفها قضية يناقشها الخطاب السردى، مثلما يناقش كثيرًا من القضايا الحضارية من ناحية، وتحدد دور الغناء فى بنية النص الدرامى وإدارة تصاعده وقراءة النص، من خلال تردد الصوت الغنائى أو الشعرى من ناحية ثانية، وتحلل أثر الغناء فى أسلوب نجيب محفوظ، وتوظيف المبدع لمفردات لغة الموسيقى، فى تكوينات مجازية دالة على رؤيته لكيمياء التواصل، فى علاقات الذات بنفسها وبغيرها والوجود.
والمحور الأول معالجة موضوعية لظاهرة الغناء فى السرديات المحفوظية، يعرض ما خصصه نجيب محفوظ من مساحات فى إبداعه للحديث عن الفن الغنائى، وتطوره وطرائقه، وهذا المحور ينطلق من فرضية، ترى أن مبدعنا يتعامل مع السرد، كما لو كان مجالًا لمناقشة فلسفة الفن.
وهنا يقترب نجيب محفوظ من أفلاطون فى محاوراته، التى عالج فيها كثيرًا من القضايا الحضارية، ومن يقرأ أعمال أديبنا لا يمكن أن يغفل لحظة واحدة عن انتماء «محفوظ» إلى الفلسفة، بحكم دراسته الجامعية العميقة؛ بخاصة أن الجامعة المصرية وقتها، كانت فى أوج توهجها واتصالها بحركة الفكر العالمى، وقد بدأ «محفوظ» حياته الثقافية والمهنية بكتابة مقالات عن أعلام الفلسفة والاتجاهات الفكرية، ونشر تلك المقالات فى المجلة الجديدة التى كان يديرها سلامة موسى فى ثلاثينيات القرن العشرين، ومجلة المعرفة المصرية، وكانت مقالاته تُنشر فى الأعداد التى ينشر فيها مصطفى عبدالرازق ومحمد فريد وجدى ومنصور فهمى وعثمان أمين، ولم يكن «نجيب» قد بغ العشرين من عمره، حين كتب فى المجلة الجديدة مقاله «احتضار معتقدات وتولُّد معتقدات» فى أكتوبر ١٩٣٠م، وهذا العنوان مؤشر لاستراتيجية «محفوظ» الفكرية، التى تبلورت فى رواياته وقصصه، تلك الاستراتيجية التى تتأمل حركة العالم الكلية عبر الزمان، وهى تواكب التطور الذى يدفع البشرية فى اتجاه التحضُّر، وستظهر تلك النظرية الكلية لتطوُّر البشرية فى «زقاق المدق» و«خان الخليلى» و«بداية ونهاية» و«الثلاثية»، و«بين القصرين/ وقصر الشوق/ والسكرية»، و«الباقى من الزمن ساعة»، ولكنها تعلن عن نفسها بوضوح فى «حديث الصباح والمساء»، التى يرتفع فيها إيقاع السرد ليحرك عجلات الدراما الروائية فى مائتى عام.
ويهمنا فى مقالات «محفوظ» دارس الفلسفة فى «المجلة الجديدة»، ما خص به الفيلسوف الفرنسى برجسون صاحب الوجهة الروحية بمقال فى عدد أغسطس ١٩٣٤م، فهناك خط جمالى واضح بين الاتجاه الروحى فى الفلسفة والفن، بخاصة الغناء والشعر.
وفى المحور الثانى، نتأمل الغناء داخل البنية الدرامية للعمل القصصى أو الروائى، إن الأغنية مفتاح إدارة الحركة السردية، فهى صوت يتردد على موجة الصراع الدرامى الداخلى، فى مونولوجات الشخصيات والخارجى فى علاقات هذه الشخصيات؛ سواء أكانت تلك العلاقات توجهًا نحو التواصل أو مؤشرًا للصراع، ويصل استخدام الأغنية عند «محفوظ» لتكون المعادل الروحى لمسار الشخصية، إضافة لدلالة الأغانى والموسيقى والأشعار على التكوين الثقافى للشخصيات ومحيطها الاجتماعى، وموقفها من الحياة، وللشعر أهمية فى خطاب «محفوظ» القصصى والروائى، سواء أكان استخدامه لمحاكاة نص سردى له قيمة خاصة فى التراث الأدبى، أم لاستحضار تجربة تاريخية قارئة لتجربة عصرية، أم للإشارة إلى تشكيل الذات الباحثة عن اليقين، لصيغة يتجلّى فيها سعيها الروحى نحو الحقائق المضمرة فى تجربتنا البشرية، من الجذور إلى مستحدثات العصر المحفوظى.
ويتخذ المحور الثالث طابع النظر اللغوى عند «محفوظ»، الذى يكتب كل حرف بوعى تتضافر فيه الحسية والذهنية والحدسية، والأغانى فى هذا المجال صورة لغنائية الأسلوب المحفوظى نفسه، فى تعامله الشعرى مع لغة السرد، وهذا التعامل لم يخفت مع تطور النظرية السردية عند نجيب محفوظ؛ بل ظل يتصاعد ليصل إلى أعلى درجاته فى الكتابات الأخيرة، وكأن النفس فى اقترابها الأخير من خط النهاية، تتصاعد روحها لتسكن كل متحرك وساكن فى أبجديتها الفنية، وهكذا كان الخطاب السردى عند نجيب محفوظ، ملتمسًا من الغنائية دعمًا أسلوبيًّا، يدل على الروح الشرقية لهذا المبدع العالمى.
أما بالنسبة لأهم شىء فى رحلة هذا الكتاب، هى قراءة «محفوظ» كاملًا، وأحيانًا كنت أقارن العمل بالدارما لرؤية توظيف الأغانى، أو كيف ترك مساحات للأغانى فى العمل الدرامى.
■ بالتأكيد تأثر «محفوظ» الطفل بعدد من المصادر مثل حفلات الزفاف والطهور والسبوع وغيرها.. هل أسهم ذلك فى تعلقه بالغنائية؟
- تأثر بداية من ألعاب الأطفال وغنائيتهم الشعبية اليومية، والمناسبات السياسية، مثل عودة سعد زغلول مثلًا، أو نقد سلوك الحكام الأجانب.
إن «محفوظ» لا يريد أن يكون مؤرخًا، إنما يرغب فى دمج هذه الأشياء فى الدراما، ويمكن تحويل أعماله إلى دراما مرئية ساعد على رؤية هذه المصادر ظاهرة، فما يأخذ طابعًا إشاريًا عند «محفوظ» يتحول فى العمل الدرامى إلى تمثيل للوجدان الشعبى، لكن محفوظ لا يحاكى، فالأغانى الخاصة بزمنه هى الأكثر حضورًا من أغانى المناسبات، فهو يرى أن لكل أغنية وظيفة، فكل أغنية لديه توظف دراميًا.
■ برأيك.. كيف أثر الغناء فى مسيرة نجيب محفوظ السردية؟
- لو فى «زقاق المدق» مثلًا، وهى من أعماله الواقعية الأولى، نجد الافتتاح بعازف الربابة وصبيه، وحضور السيرة الشعبية، ثم طرد صاحب القهوة لعازف الربابة وإحلال الراديو محله، هنا تظهر جلية فكرة التطور الذى ينطلق من الغناء، فهناك علاقة وطيدة بين التطور الاجتماعى والغناء وطرقه وأدواته، ونجد هذا ظاهرًا أيضًا فى خان الخليلى، هناك حوار طويل عند القديم والحديث فى الغناء، القديم يمثله زكريا أحمد والحامولى والبنا، والحديث يمثله أم كلثوم وعبدالوهاب، وهناك من لا يعترف بالحديث، كعادتنا دائمًا فى النظر للغناء، حيث نرى القديم أجمل.
أود الإشارة أيضًا إلى أن صوت أم كلثوم يأتى كخلفية أساسية فى رواية «ميرامار»، كما وظف الإنشاد الدينى للتعبير عن الأزمة الروحية فى رواية «الطريق»، وفى «أصداء السيرة الذاتية» نجد كبار المغنين والملحنين دخلوا دائرة الأصدقاء.
■ قلت إن تطور الغناء ظهر فى أعمال «محفوظ».. معنى ذلك أن أعماله تعتبر تأريخًا أو مرجعًا لهذا التطور؟
- بالتأكيد طبعًا، لأن ذاكرة الغناء بالذات هى ذاكرة شبه طفولية مرتبطة بإيقاع يحدث له حفظ، ونسبة كبيرة من الأغانى التى يحفظها أى إنسان، مرتبطة بطفوته ومراهقته، وربما تنتهى حالة حفظ الأغانى بمرحلة الشباب، لذلك فمحفوظ حفظ لنا أغانى من الاندثار، اليوم نجد بعضها على المواقع الرقمية، وفى كتب المؤرخين، لكننا نجدها عند محفوظ بشكل حيوى، وهناك بعض العبارات الغنائية لا نستطيع ردها لأصل، لذا فصوت «محفوظ» ذاكرة صوت لجيل كان التسجيل فيه قليلًا.
■ الأناشيد المستلهمة من أدب مصر القديمة.. كيف استفاد محفوظ منها فى أعماله؟
- استفاد منها استفادة كبيرة جدًا، لأن الأناشيد لها قدرة على ربط التاريخ بالإنسان، وخاصة اللمسة الروحية فى أناشيد إخناتون، وهذا يضفى على السرد لمسة غنائية وتقربه من القارئ، وتخرجه من الأجواء المغلقة وصفحات التاريخ المطوية، ولأنها مصرية خالصة، فهى جزء محورى، فالانتماء لديه أمر أساسى، فقد ترجم «مصر القديمة» لجيمس بيكى، وكان قريبًا لسلامة موسى أحد المهتمين بالمصريات.
■ فى النهاية.. إلام انتهيت فى دراستك عن الغناء والشعرية وغيرها فى أعمال محفوظ؟
- إن نجيب محفوظ يمكن أن تطلق على اتجاهه فى الكتابة، الواقعية الروحية، لأن التجربة الروحية للإنسان، هى محور الحياة، وهذا المحور يتجلى فى الغنائية، لأن الغنائية هى صعود بالوجدان، لكى يصل إلى الذهن، فيحدث نوع من أنواع التضافر بين الوجدانية والذهنية عن طريق الغناء والسرد، ونجيب محفوظ يمثل الثقافة العربية، التى تضع الشعر فى مكانة مهمة من تاريخ الفكر والتعبير، ونجد ذلك فى أغانى الأصفهانى الذى وضعت كتاب «محفوظ» على أساسه.
وهنا كان الاهتمام ليس بالأغنية المحلية فقط، بل بالإبداع الغنائى الشرقى كاملًا، ليصبح نجيب محفوظ صوت الشرق، أو سارد الشرق، لأن لديه الأغانى المعاصرة لزمنه، والأشعار عبر العصور، والأناشيد الفرعونية، وغزليات حافظ الشيرازى، لذا فهو الصوت الروحى للتجربة الشرقية.