19 سنة رشدي
فى ذكرى رحيله.. طارق محمد رشدى يروي أسرار من حياة أسطى الأغنية الشعبية
ترك القاهرة وظل فى نوبة اكتئاب حتى وفاته
ندم على رفضه غناء «عيون بهية».. وبليغ منحها لـ«العزبى» مقابل ولاعة دهب
صفوت الشريف أمر بعلاجه على نفقة الدولة
أب ديكتاتور وجَد حنون.. ورعايته لنا جاءت على حساب نجوميته
تحت الشجر «كل مع وهيبة البرتقان»، ولحبيبه «فرش منديله على الرملة»، حتى وصل إليها والتقاها، حبيبته عدوية الصبية، «أم الخدود العنابى والعيون السنجابى»، فنادى على مأذون البلد «يجى يتمم فرحته».. إنه صوت مصر الأصيل، وملك الغناء الشعبى، المطرب الكبير الراحل محمد رشدى.
قال عنه بوصلة الفن عمار الشريعى: «إذا كان النيل يغنى، فصوته محمد رشدى»، ووصف إياه بأنه «جزء من تراب مصر». قبل يده الخال عبدالرحمن الأبنودى، وظل جالسًا بجواره، حتى فاضت روحه إلى بارئها.
يصفه ابنه «طارق» بـ«الأب ابن البلد»، والذى كان يخلع عباءة الفنان على باب المنزل، ليتحول إلى الفلاح محمد محمد عبدالرحمن الراجحى.
فى السطور التالية، يروى طارق محمد رشدى لـ«حرف»، أسرار وكواليس من حياة أسطى الأغنية الشعبية، فى الذكرى الـ١٩ لرحيله..
■ فى ذكرى وفاة الفنان الكبير محمد رشدى.. هل هناك طقوس معينة للأسرة احتفاءً بيوم ميلاده أو إحياءً لذكرى وفاته؟
- على الإطلاق خاصة أن والدى كان شخصًا انطوائيًا من غير مُحبى السهر وجلسات الفنانين بل كان يعشق المنزل ويفضل أن يجلس داخل البيت حال عدم وجود تسجيل أو حفل، ولم يكُن من هواة الاختلاط بالوسط الفنى، حتى إننى لا أتذكر سوى عدد أشخاص يمكن حصرهم على أصابع اليد الواحدة، دخلوا إلى منزلنا أثناء حياة والدى، منهم الشاعر الكبير الراحل عبدالرحمن الأبنودى والملحن الراحل بليغ حمدى اللذان كانا بمثابة أشقاء والدى وأعمام لى ولأشقائى وليسوا مجرد ملحنين أو شعراء فى الوسط الفنى، بينما من الوسط الصحفى كان الكاتب حلمى سالم والكاتب محمد جلال رئيس تحرير مجلة الإذاعة والتليفزيون آنذاك من المقربين بشكل كبير من والدى، وبعد وفاته اقتصر إحياء ذكراه على وسائل الإعلام وتسليطها الضوء على أعماله دون وجود طقس بعينه فى المنزل.
■ ننحى جانبًا محمد رشدى ملك الأغنية الشعبية فى مصر ونتحدث عن الأب.. حدثنا عنه
- والدى كان شديدًا للغاية وصارمًا وحاسمًا فى التعامل معى ومع أشقائى، نستطيع أن نقول ديكتاتور لم يكُن صديقًا لأولاده أو يتسامح معهم فى الخطأ أو التجاوز، وكان حريصًا على تحديد مواعيد للعودة إلى المنزل وفرضها على أشقائى فلم يكُن أحد يجرؤ على البقاء خارج المنزل بعد الحادية عشرة مساءً، كما كان حريصًا طوال الوقت على معايشة كل مشاكلنا وحلها والتصدى لها.
■ «أعز الولد ولد الولد» كما يقول المثل الشعبى.. هل انطبق المثل على الوالد فى التعامل مع أحفاده؟
- محمد رشدى كان جَدًا شديد الكرم والود مع أحفاده، حيث كان يحرص على اجتماع العائلة فى فيلته الخاصة فى المناسبات وبالتحديد فى شهر رمضان، كان يحرص على الجلوس وسط أحفاده لإعداد السلطات والفواكه، ولديه حرص شديد على حضورنا للإفطار معه يوميًا طيلة الشهر الكريم، كما كان يقوم بالجلوس معهم فى شم النسيم لتلوين البيض وممارسة طقوس تلك المناسبة الأصيلة لدى جموع المصريين، وفى خلال إجازة الصيف كان يقضيه مع أحفاده ومن يتمكن من أولاده فى الشقة الخاصة به فى الساحل الشمالى من أجل البقاء معهم أكثر وقت ممكن، ورغم حبه لأحفاده لكن هذا لا يمنع أنه كان أبًا مثاليًا، ومن وجهة نظرى أن ذلك جاء على حساب شهرته ونجوميته.
■ هل يمكن القول إن اهتمامات محمد رشدى الأب اختزلت من رصيده الفنى؟
- بالفعل، والدى تعرض لظلم شديد أثناء حياته بسبب انشغاله الدائم بمشاكلنا وهمومنا وحرصه على التعامل معها، ومن جهة نظرى لو كان تخلى قليلًا عن تلك المعوقات لتغيرت حياته ومسيرته الفنية إلى الأفضل بكل تأكيد، لأننا لو نظرنا إلى باقى نجوم هذه الحقبة التى بزغ فيها نجم والدى سنجد أن الفنان محمد عبدالوهاب كان مُنفصلًا تمامًا عن أبنائه وعن المشاكل الروتينية، وكان يُلقى ببعض المهام على عاتق مدير أعماله، كما رفض الفنان عبدالحليم حافظ الزواج حتى وفاته لكى يتفرغ لعمله وفنه، ولكن والدى آثر بيته وأبناءه على عمله ومسيرته الفنية.
■ أشعر من نبرة كلامك فى الحديث عن الوالد بُغصة أو بعض من تأنيب الضمير تجاهه؟
- بكل تأكيد وللأسف الشديد لم نشعر بقيمة والدى الإنسانية والفنية إلا بعد وفاته وفقدنا له، وأعتبر أننا السبب فى إصابته بالعديد من الأمراض أثناء حياته مثل ضغط الدم والسكرى والقلب، بسبب كثرة الضغط عليه وتصدير العديد من الأزمات والمشاكل له، ولكن ما يمنحنى الصبر حُب الناس الذى كان يُحيط والدى أثناء حياته وكنت أشعر به بنفسى أثناء تجوالى معه فى الشارع، دعنى أقول إن والدى كان فلاحًا نتاج الأرض الطيبة التى ولد وتربى فيها بحق، حيث حمل أخلاق القرية طيلة حياته، وكان يترك عباءة محمد رشدى الفنان على باب منزلنا.
■ بذكرك عباءة رشدى الفنان.. الراحل كان يُشارك فى حفلات ومناسبات بشكل دائم هل كانت له استعدادات معينة؟
- التوتر والسجائر كانا رفيقى والدى دائمًا قبل دخول الحفلات أو حتى الأفراح، أتذكر إصراره على التدخين بشراهة حتى قبل الصعود على خشبة المسرح بثوانٍ قليلة، كما كان يرفض أن يستمع لأغانيه قبل الذهاب إلى الحفلات بل كان يرفض أن يستمع لنفسه من الأساس.
■ من صاحب المشورة والرأى الذى كان يلجأ إليه رشدى قبل تسجيل أغانيه؟
- نفسه وفقط، لم يكُن ليستشير أحدًا، بل كان يدخل لتسجيل الأغنية وتتم إذاعتها وبعدها يبدأ فى استشارة المقربين واستطلاع رأيهم مثل الصحفيين حلمى سالم ومحمد جلال أقرب أصدقائه من الوسط الصحفى، ولم يكُن ليترك نفسه للندم على عمل قام به بل كان يحتفظ بالعمل الذى لم ينل نصيبه من الحظ والشهرة فى درج مكتبه ويكتفى بذلك دون أن يشعر أحد بذلك.
■ أعمال كثيرة شهدتها مسيرة الفنان الراحل.. ما أقربها إلى قلبه؟
- جميع أعمال والدى قريبة لقلبه وكان يعتز بها، وإن احتلت «عدوية» المكانة الأكبر خاصة أن من كتب كلمتها عبدالرحمن الأبنودى.
■ وماذا عن أقرب أعماله إلى قلبك أنت؟
- رغم غزارة إنتاج الوالد إلا أن «تحت الشجر يا وهيبة» و«عدوية» الأقرب إلى قلبى، والعامل المشترك فى حبى لهما هو محبتى لصُناعهما، فالأولى كلمات العملاق الأبنودى والثانية كلماته أيضًا وألحان بليغ حمدى واللذان كما قلت أعتبرهما أعمامى، وأتذكر كلمات والدى رحمة الله عليه بأننى أتحيز للأعمال صنيعة من أحبهم، حتى أن الملحن الراحل حلمى بكر كان كثير توجيه اللوم لى بسبب تحدثى بالإشادة عن عدوية ووهيبة طيلة الوقت فى وسائل الإعلام دون التطرق إلى أعماله رغم روعتها مثل عرباوى وحسن يا مغنواتى.
■ المطرب لا ينهم أبدًا ولا يكتفى بما قدمه.. هل هناك أغانٍ ندم على عدم تقديمها؟
- «عيون بهية» للفنان الكبير محمد العزبى وألحان بليغ حمدى، حيث كان والدى رحمه الله فى المغرب ضمن وفد احتفالات جلوس الملك الحسن الثانى على العرش، حينها طلب منه بليغ حمدى الاستماع لكلمات محمد حمزة تحت اسم «عيون بهية»، ولكن والدى رفض بحجة أنه سئم من الأغانى التى تحمل أسماء سيدات مثل عدوية ووهيبة، وأثناء نزوله إلى بهو الفندق وجد محمد العزبى وكان ضمن الوفد يجلس ممسكًا بولاعة سجائر ذهب ومن أغلى الماركات، ليقترح عليه أن يصعد يقابل بليغ حمدى ويمنحه الولاعة على سبيل الهدية ويبلغه رغبته فى غناء «عيون بهية» بتوصية خاصة منه، وحدث بالفعل وكانت الأغنية سبب شهرة العزبى وبزوغ نجمه، وحينها ندم عليه والدى بشدة وكان يتمنى لو يعود الوقت ويغنيها ويستجيب لمشورة بليغ حمدى، وقال لى وقتها: هو بليغ بيغلط أبدًا فى تقييم أغنية كان لازم أغنيها.
■ محمد رشدى ورغم سطوته فى الغناء إلا أنه اقتحم مجال التمثيل.. كيف كان يقيم تلك التجربة؟
- كان يرى أن تجربته فى التمثيل فشلت وأخذت من رصيده الغنائى ومن وقته كمطرب ولو كانت عادت به الأيام ما كان خاض تجربة التمثيل على الإطلاق، إلا أنه كان يستغلها لخروج أغانيه للنور بشكل أكبر.
■ مناوشات بين الوالد وعبدالحليم حافظ تصدرت أحاديث الوسط الفنى وعناوين الصحف فى تلك الحقبة.. حدثنا عن كواليس الأزمة؟
- الخلاف بين والدى والعندليب جزء كبير منه كان بسبب بعض الأصدقاء المشتركين، وإن كانت المنافسة بينهم أيضًا لها دور كبير، وعلى الرغم من ذلك كان العندليب شخصًا ودودًا للغاية مع والدى، ولكن البعض مثل محمد حمزة وبليغ حمدى كانا يصوران لوالدى أن ود ولُطف العندليب معه استغلال لطيبة قلبه «بيضحكوا عليه» على حد وصفهما وليس من باب الحُب كما يدعى، وإن كانت حدثت بعض المناوشات أيضًا كما حدث فى حفل أضواء المدينة بالمحلة والذى قام حينها العندليب باصطحاب الأبنودى وبليغ حمدى إلى لبنان حتى لا يصنعا لرشدى أغانى جديدة فى الحفل، وقام بالاتفاق مع وجدى الحكيم على الدفع بالمطرب فهد بلان الذى ذاع صيته فى ذلك الوقت للصعود على خشبة المسرح قبل والدى ثم فقرة الفنانة لبلبة، على أن تكون فقرة رشدى ختام الحفل ويكون الجمهور غير مهيأ لها، إلا أن والدى حينها استعان بالموسيقار حلمى بكر والشاعر حسن أبوعتمان واللذان صنعا له أغنيتى عرباوى وحسن المغنواتى.
■ معنى ذلك أن صعود رشدى لم يكُن يهدد عبدالحليم كما يتردد أو أنه كان يستهدفه فى الأساس؟
- على الإطلاق، ولكن حقيقة الأمر والمُنافس الحقيقى لوالدى كان الفنان محمد قنديل وكان رشدى يشعر بغيرة كبيرة تجاهه بل وكان يستهدف منافسته والتصدى لنجوميته فى ذلك الوقت، ولكن من وجهة نظرى أن تلك الأزمات تسببت بشكل كبير فى وجود توتر فى العلاقات بما أثر بالسلب على والدى وعلى العندليب نفسه، لدرجة أن الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى قال لى ذات مرة إنه لم يشعر بحلاوة كلمات أغنية التوبة التى كتبها لعبدالحليم حافظ إلا عندما غنتها الفنانة الكبيرة ماجدة الرومى، بسبب حالة الغل من رشدى فى صوت عبدالحليم علاوة على توزيع الملحن على إسماعيل غير المناسب للأغنية.
■ رشدى والأبنودى.. ثُنائى سطر العديد من الروائع فى تاريخ الفن المصرى، كيف كانت العلاقة الشخصية بينهما؟
- الأبنودى كما قُلت فى السابق كان شقيق والدى وليس مجرد صديق أو شاعر عمل معه، وليس أدل على ذلك من أن صاحب القُبلة الأخيرة على جبين والدى قبل وفاته كان الأبنودى، حيث ظل جالسًا بجانبه طيلة فترة مرضه التى بلغت العام، وفى اللحظات الأخيرة وعندما شعر باقتراب الأجل جلس جواره يبكى ويقول: كده يا رشدى تسيبنى أنت وبليغ وعبدالحليم.. سبتونى لوحدى، وبعدها ترك القاهرة واستقر فى فيلته بالإسماعيلية حزينًا على والدى وصديقه حتى وفاته.
■ على ذكر فترة مرضه.. من شعر بتخليهم عنه أثناء تلك الفترة؟
- للأسف الشديد شعر بحالة غضب شديدة من الرئيس الأسبق حسنى مبارك، الذى تجاهله خلال فترة مرضه ولم يتحرك حتى بالاتصال الهاتفى للاطمئنان عليه، وحينها أتذكر أنه قال لى: إزاى يا طارق وأنا شاركت فى العديد من المناسبات الوطنية واحتفالات أكتوبر يتم تجاهلى بهذه الطريقة، ولكن شهادة حق الوزير الراحل صفوت الشريف كان دائم السؤال على والدى بل وأمر إدارة المستشفى حينها بإرسال فواتير العلاج للتكفل بها على نفقة الدولة.
■ فى النهاية هل رحل رشدى عن عالمنا ولديه حالة رضاء عن أعماله الفنية؟
- بكل تأكيد، يكفيه حصوله على حب وتقدير الملايين له فى الشارعين المصرى والعربى وهو ما كان يجده خلال سفرياته المتعددة إلى الخارج، من حيث استقبال الأشقاء العرب له وترديدهم لأعماله.