الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

الله كما رأيته عند الصابئة هو ذاته عند المسلمين

وضوء الصلاة عند الصابئة
وضوء الصلاة عند الصابئة

السماء لا تتوقف عن إرسال إشارات إلى الأرض وثمة علامات مهدت مسارات الرحلة إلى الله.. أولى مساقط الغيث كانت من خلال العراب الأول، الدكتور حسن حنفى، رحمه الله، أستاذ الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة، فقد سقطت طواعية وأنا بالسنة الثانية بكلية الإعلام أسيرة لفلسفته حول الأنا والآخر.. اقتفيت آثار أفكاره التى حملتنى إلى الإبحار بكل جرأة لاكتشاف الآخر المخيف وغير المألوف استغرقت حتى الثمالة فى قراءات حول تاريخ الأديان التوحيدية، عرجت خلالها إلى الصابئة باعتبارها أقدم الديانات الإبراهيمية، ومن ثم إلى اليهودية والمسيحية.. فما وجدته بين ثنايا تلك الأديان من خلال ما سطره أتباعها و«شيوخها»- إن جاز التعبير- هو ما يجعلنى أجزم الآن بأن عتبات الحقيقة لا أحد يملكها بشكلها المطلق وسيرتها الأولى وهو ذاته ما يدفعنى لكى أروى لكم أطوار التكوين.

 الصابئة أتباع سيدنا يحيى يؤمنون إلى جانبه بأربعة أنبياء آخرين هم آدم وشيت بن آدم «شيتل» وسام بن نوح وزكريا

لقد كان تقاطع رسالات الله للأرض على رقعة واحدة تتشابه فيها الطقوس والمناسك هو كلمة السر فى تشكيل رؤيتى الخاصة حول علاقة الإنسان بربه وما تبعه من إيمان راسخ بأن الأديان لم ولن تكون سببًا فى شقاء البشرية.. وأن تداخلات الدين والسياسة كانت حاضرة منذ وطأت أقدام بنى آدم الأرض.

بداية لنمسك بالمصحف الآن ونقرأ فى سورة البقرة، الآية ٦٢: «إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وَعَمِلَ صَالِحًا فلهم أجرهم عند ربهم ولاخوفٌ عليهم ولا هم يحزنون»، ثم الآية ٦٩ من سورة المائدة؛ حيث يرد ذكرهم ضمن بقوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ». سنضع خطًا تحت كلمة الصَّابِئُون ثم نلتقط أنفاسنا لنعرف من هؤلاء الذين وصفهم القرآن بأنه لا خوف عليهم ولاهم يحزنون «بسم الحى العظيم ربى» «بسم الله الحى الأزلى» بهذه الكلمات، والتى لا تتبعد كثيرًا عن البسلمة لدينا نحن- المسلمين- يبدأ المندائيون طقوس الصباغة أو الطهارة بالماء الجارى ثلاث مرات لإزالة النجاسات والجنابة، والصابئة هم أتباع سيدنا يحيى، يؤمنون إلى جانبه بأربعة أنبياء آخرين، هم آدم، شيت بن آدم «شيتل»، سام بن نوح، زكريا، ويعتقدون أن كتابهم «كنزا ربا» نزل على يحيى بشهادة القرآن الكريم «يا يحيى خذ الكتاب بقوة».

وحدانية الله لديهم مطلقة، ومن جملة أسمائه الحسنى عندهم «الحى العظيم، الحى الأزلى، المزكى، المهيمن، الرحيم، الغفور» وترتكز الديانة الصابئية على خمسة أركان أساسية، فإلى جانب التوحيد بالحى الأزلى بالله الواحد الأحد «سهدوثا ادهيى» لا شريك لأحد بسلطانه، والصباغة والتطهر هناك الوضوء والصلاة «ارشاما وابراخا»، فضلًا عن الصوم والصدقة والزكاة. 

 وضوء الصلاة عند الصابئة يشابه إلى حد ما وضوء المسلمين من حيث الأعضاء والتسلسل

وضوء الصلاة عند الصابئة يشابه إلى حد ما وضوء المسلمين من حيث الأعضاء والتلسلسل، حيث يتكون من ١٣ فرضًا، من بينها غسل الوجه واليدين والقدمين والصلاة هى عِماد الدين الصابئى، الذى لا يقوم إلاّ بقيامها. وهى من أول الواجبات من العبادات التى كلف الله بها الإنسان الصابئى، كانت فى الأصل تُقام خمس مرات كل يوم، قبل أن يقللها يحيى إلى ثلاث مرات تؤدى فى وقتها المحدد فلا يجوز الجمع بين صلاتين أو قضاء الفائتة كما هو الحال لدينا، وتكون صلاة الصُبح: من انفلاق الفجر حتى طلوع الشمس فى حين تبدأ صلاة الظهر من زوال الشمس عن وسط السماء أما صلاة العصر فتكون قبل غروب الشمس. حيث يقول كتابهم «كنزا ربا» مع انفلاق الفجر تنهضون* وإلى الصلاة تتوجهون* وثانية فى الظهر تصلّون* ثم صلاة الغروب* فبالصلاة تتطهر القلوب* وبها تغفر الذنوب.

قواعد الصدقة والزكاة لدى الصابئة تقترب من نظيرتها عند المسلمين، حيث يشترط كتابهم السرية وعدم المجاهرة لما يترتب على ذلك من إفساد لثوابها «إن وهبتم صدقة أيها المؤمنون، فلا تجاهروا، إن وهبتم بيمينكم فلا تخبروا شمالكم، وإن وهبتم بشمالكم فلا تخبروا يمينكم، كل من وهب صدقة وتحدث عنها كافر لا ثواب له». وجاء فى كتابهم أيضًا {أعطوا الصدقات للفقراء وأشبعوا الجائعين وأسقوا الظمآن واكسوا العراة؛ لأن من يعطى يستلم ومن يقرض يرجع له القرض}. بيد أن صومهم يعتمد على الامتناع عن أكل اللحوم ومنتجاتها وهو أقرب ما يكون لصوم المسيحيين.

إذن الصابئة المندائية وفق ما ذكر القرآن لا خوف عليهم لأنهم موحدون يؤمنون بالله الواحد الأحد وتتلاقى شعائرهم مع الأديان السماوية الأخرى فضلًا عن كونهم يحرمون الزنا والخمر ويؤمنون بالبعث والحساب. لكن الواقع أن فقهاء الدين لم يعترفوا للصابئة بما شهد لهم به الله فى كتابه كأهل دين وكتاب فى ثلاث سور.

الذاكرة الإسلامية تبدو حبلى بمواقف متناقضة من الصابئة، فتارة تصنف دينهم على أنه دين توحيدى يقبل من أتباعه الجزية، وطورًا آخر تذهب إلى كونه دينًا وثنيًا، إذ عدهم البعض من عبدة الكواكب، لأنهم يعتقدون بوجود حياة وبشر على الكواكب الأخرى ويتجهون فى قبلتهم إلى القطب الشمالى باعتباره رمزًا للجنة ومنه ينبثق النور.

ما انتهيت إليه مع المندائية أن علاقة السلطة بأتباع الديانات الأخرى ومساحات التسامح الدينى مع الآخر أسهمت فى مراوحة النظرة الإسلامية للصابئة، والتى خطت على إثرها الكتب التى تباين مضمونها وفق الحقبة الزمنية، ولعل هذا ما يفسر ويمهد مبدئيًا لقبول التعامل معهم والسماح لهم بالوجود كفرقة كتابية تؤدى الجزية وتمارس شعائرها وطقوسها بقدر من الحرية فى فترات ورفضهم بشكل قاطع فى مراحل أخرى.

الله كما رأيته عند الصابئة هو ذاته عند عموم المسلمين الفرد الصمد الرحمن الرحيم، ولكن لأن الأديان عادة ما تفجر تاريخيًا العلاقات السحرية لتتحول إلى دين خلاص فردى، فقد وجدت نفسى أمام حلقة مفرغة لا تكتفى برفض الآخر فحسب، بل تعمد إلى تشويهه بالكلية.. إذ إن «كنز ربا» -رجل الدين عند الصابئة- لا يختلف كثيرًا عن رجال كل الأديان، فجميعهم يحتكرون الجنة «بسم الله» خالصة لأتباعهم فقط دون أن يتخذوا عند الرحمن عهدًا.. ليبقى السؤال عالقًا حتى إشعار آخر «هل خلق الله الأديان لشقاء البشرية؟».