الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

هوامش على جدل لا أريده صاخبا.. دروس الأستاذ هيكل فى تغطية الجنازات

افتتاحية العدد السادس
افتتاحية العدد السادس عشر

وجدت نفسى طرفًا فى معركة لم أخطط لها، ولم أقصد الدخول إليها من باب الصخب.. لكنها أصبحت صاخبة دون أن يكون هناك ما يدعو إلى ذلك أبدًا. 

مجموعة من الصحفيين يشاركون فى تغطية جنازة الفنان الكبير الراحل صلاح السعدنى، ولأن تغطية الجنازات فى النهاية عمل بشرى، فمن الطبيعى أن تحدث أخطاء، ويبدو أن ابن الراحل ضاق ببعض ما فعله زملاء صحفيون أو نشطاء على السوشيال ميديا فاحتد عليهم، وهو ما كان سببًا فى أن تأخذ الأسرة قرارًا بمنع حضور الصحفيين والإعلاميين العزاء. 

 من حق عائلة السعدنى أن تحدد مَن يشارك فى عزاء الفنان الراحل صلاح السعدنى رغم أنه ليس ملكًا للعائلة وحدها

جنازة الفنان الكبير الراحل صلاح السعدنى

بطبيعة الحال من حق أسرة الفنان صلاح السعدنى أن تحدد من يشارك فى عزاء فقيدهم، لا يمكن أن يلومهم أحد على ذلك، رغم أن صلاح ليس ملكًا لهم وحدهم، فجمهوره- ومن بينه صحفيون وإعلاميون- هو من منحه مجده وشهرته وثروته، ثم إن هذا الجمهور حتمًا يحب أن يشارك فى طقوس وداعه سواء كانت جنازة أو عزاءً، لكن فى النهاية قرار الأسرة لا بد من احترامه، حتى لو كنت أرفضه تمامًا وأتحفظ عليه. 

كان يمكن أن يظل قرار الأسرة خاصًا بها، لكن عندما دخلت نقابة المهن التمثيلية على الخط، تحول الأمر إلى قضية عامة، عنوانها الكبير هو المواجهة بين جماعة الممثلين وجماعة الصحفيين. 

جنازة سمير غانم

أصدرت نقابة المهن التمثيلية بيانًا أعتقد أنه وثيقة مهمة لما يترتب عليه: 

قالت النقابة: «تتقدم نقابة المهن التمثيلية بخالص الاحترام والتقدير لجموع الصحفيين، وكل مراسلى القنوات التليفزيونية». 

«وتعتذر النقابة للسادة الصحفيين والمراسلين، وتناشدهم التفضل باحترام رغبة أسرة الفنان الراحل صلاح السعدنى بعدم حضور الصحافة والإعلام والمراسلين عزاء الراحل، حيث إن العزاء مقتصر على العائلة والزملاء فقط». 

«لذلك تناشد نقابة المهن التمثيلية السادة الأفاضل الصحفيين ومراسلى القنوات التليفزيونية عدم الحضور، احترامًا وتقديرًا لحالة الحزن والفراق ورغبة أسرة الفنان». 

«وقد أعلن الأستاذ الدكتور أشرف زكى، نقيب المهن التمثيلية، عن أنه سيتم الاتفاق على وضع أسس وقواعد تحدد آليات حضور مراسم الدفن أو الجنازات بين نقابة المهن التمثيلية والصحفيين والمراسلين، حتى لا تسىء القلة لهذه المهنة العظيمة». 

«خالص اعتذارنا وتقديرنا لكل الصحفيين والمراسلين، ولا أراكم الله مكروهًا فى عزيز لديكم» 

والتوقيع نقيب المهن التمثيلية الأستاذ الدكتور أشرف زكى.

مَن يقومون بالفوضى فى الجنازات والعزاءات ليسوا مندوبى مواقع وقنوات بل أكثرهم أصحاب صفحات على الفيسبوك

اعتبرت من اللحظة الأولى التى قرأت فيها هذا البيان أنه غير لائق وغير موفق، ولأننى أنتمى إلى هذه المهنة العظيمة التى يشير إليها البيان، فقد كتبت تعليقًا عليه تحت عنوان «نقطة نظام» قلت فيه: 

«من حق عائلة السعدنى أن تحدد من يشارك فى عزاء الفنان الراحل صلاح السعدنى، رغم أنه ليس ملكًا للعائلة وحدها، فهو ملك جمهوره ومحبيه». 

اشرف زكى من جنازة سمير غانم

«لكن كان يجب أن تتحرى نقابة الممثلين الدقة فى بيانها الذى نقلت من خلاله رغبة أسرة السعدنى التى أرى أنها ليست لائقة وتفتقد إلى الذوق فى الحقيقة، فكان يمكنهم منع الصحفيين من تغطية العزاء دون اللجوء إلى بيان يعكس حالة عصبية غاضبة بسبب موقف عابر». 

عائلة السعدنى مدينة باعتذار للصحفيين والإعلاميين.. وعلى نقابة المهن التمثيلية سحب البيان الذى كان فجًا فى تصريحه

«من يقومون بهذه الفوضى فى الجنازات والعزاءات ليسوا مندوبى مواقع وقنوات، بل أكثرهم أصحاب صفحات على الفيسبوك وتويتر، يبحثون عن مشاهدات تتحول إلى مكاسب مادية هائلة، وعليه فالحديث عنهم بأنهم صحفيون وإعلاميون يفتقد إلى الدقة». 

«الصحافة ليست مهنة متطفلة ولا تنتهك خصوصيات الناس وخاصة الفنانين وعائلاتهم، ولو وقعت أخطاء من الصحفيين فهو أمر وارد، كما هو وارد أن يخطئ الفنانون أثناء أداء عملهم، لكن ليس معنى هذا أن نتجاوز فى حق الفن والفنانين». 

«أعتقد أن عائلة السعدنى مدينة باعتذار للصحفيين والإعلاميين، وعلى النقابة سحب هذا البيان الذى كان فجًا فى تصريحه، وكان يمكن أن يكتفى بالتلميح أن عزاء عائلة السعدنى مقتصر على الأقارب والزملاء، فـ(الملافظ سعد) يا نقابة الممثلين». 

جنازة سمير غانم

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بيان من نقابة المهن التمثيلية وتعليق منى، ولكنى وجدت غضبًا مبررًا من الصديق العزيز الدكتور أشرف زكى من وجهة نظره بالطبع، يطالبنى فيه بالاعتذار عن الرد وحذفه، رغم أننى من طالبته أولًا بالاعتذار، لكن يبدو أنه أراد قلب الطاولة على الجميع، وهو أمر أتفهمه تمامًا ولا يمكن أن ألوم فيه نقيب الممثلين، فلديه دوافعه الخاصة، ثم إنه بالفعل صادق كل الصدق فى دفاعه عن الفنانين وعن كل ما يخصهم. 

لن ألتفت إلى حالة الجدل التى أراد البعض أن ينفخ فيها لتحويلها إلى معركة لا بد أن يكون فيها طرف منتصر وآخر مهزوم، فما جرى حدث عابر سيتم تجاوزه الآن أو بعد الآن، ولكنى سأتوقف عند ما يتحدث عنه البعض من ضرورة وضع ضوابط لتغطية الجنازات والعزاءات. 

درس من هيكل

لكن قبل أن أتوقف عند هذه الضوابط، ما رأى المأخوذين بما حدث أن أضع أمامهم بعض الوقائع التى توثق تراث الصحافة المصرية فى متابعة وتغطية الجنازات؟ 

ولتكن البداية من عند شيخ مشايخنا فى الصحافة المصرية الكاتب الصحفى الكبير محمد حسنين هيكل، وأعتقد أن أحدًا لا يمكن أن يختلف معه أو عليه. 

جنازة رجاء الجداوى

جرت هذه الواقعة فى يونيو من العام ١٩٤٩ ووقتها كان هيكل قد أصبح واحدًا من ألمع نجوم مدرسة «أخبار اليوم». 

كان هيكل يتحدث عن العلاقة الخاصة والمميزة التى ربطت بينه وبين الكاتب الكبير توفيق الحكيم. 

يقول: مرة واحدة اختلفنا، كنا يوم جمعة، وكنا فى أخبار اليوم، وكنت مسئولًا عن الجرنان، وفى الصحافة قد يكون المسئول عن صحيفة فى موقف صعب عندما يواجه مسألة مهمة، وهى إيجاد صورة الصفحة الأولى، تلك من مفردات العمل الصحفى اليومية المهمة، إنها صورة الأسبوع التى تنشر فى الصفحة الأولى على الناحية الشمال من جريدة أخبار اليوم، كانت الصورة زمان مسألة أكثر من مهمة، كنا نبدأ من أول الأسبوع نسأل: ما صورة الأسبوع التى ستحتل هذا المكان المهم من الصفحة الأولى؟ 

مات الشاعر خليل مطران يوم ١ يونيو ١٩٤٩ الذى يوافق يوم الأربعاء، وأخبار اليوم تصدر صباح يوم السبت، أى أن العمل بها ينتهى تمامًا مساء الجمعة. 

فكر هيكل فى أن تكون صورة الأسبوع للشاعر خليل مطران. 

وخليل مطران لمن لا يعرفه فهو شاعر لبنانى شهير ولد فى يوليو ١٨٧٢ عاش معظم حياته فى مصر، وربما لهذا لقب بشاعر القطرين، وإلى جانب الشعر كان مطران من كبار الكتاب العرب، فقد عمل بالتاريخ والترجمة، وعرف عنه غزارة علمه وإنتاجه فى الأدب الفرنسى والعرب، وبعد وفاة أحمد شوقى أمير الشعراء فى ١٤ أكتوبر ١٩٣٢ أطلقوا عليه لقب «شاعر الأقطار العربية» 

جنازة الجداوى

لم يفكر هيكل فى صورة تقليدية لخليل مطران، فلم تكن أخبار اليوم تعترف بالصور التقليدية. 

يقول: اقترحت يومها أن تكون الصورة الأولى صورة الأسبوع صورة لوجه خليل مطران وحوله الزهور وهو فى الكنيسة، وكان توفيق الحكيم معنا فى هذا الاقتراح.

كان توفيق الحكيم حاضرًا فى الاجتماع الذى اقترح فيه هيكل اقتراحه، وشهد على الموافقة على الصورة بهذه الهيئة، بل وتحمس لها باعتبارها نوعًا من التكريم لشاعر كبير. 

دعم هيكل اقتراحه بقوله: إن هذا يذكرنى بصورة شاعر البنغال الكبير طاغور بعد وفاته، وجه الشاعر والورد حوله ونظرة وداع أخيرة عليه. 

بدأ الأستاذ هيكل فى تنفيذ مقترحه، تواصل مع مصور أخبار اليوم محمد يوسف وقال له إنه يمكنه أن يصور خليل مطران فى بيته قبل نقل الجثمان من البيت إلى الكنيسة، وإنه يمكنه أن يأخذ معه الورد بصورة احتياطية. 

اتجه محمد يوسف إلى بيت خليل مطران ومن هناك اتصل بهيكل تليفونيًا، وقال له إن الجثمان نقل إلى الكنيسة فى النعش الخشبى وإنه لا يستطيع أن يتصرف. 

على الفور نزل هيكل من مكتبه وتقابل مع محمد يوسف عند الكنيسة فى الفجالة، كانت هناك صلاة، وفى اليوم التالى كان من المفروض أن يقام القداس، كان خليل مطران فى التابوت، وكان التابوت فى داخل الكنيسة، كان هناك رجل اسمه فرج يعمل فى الكنيسة. 

وأترك لكم الأستاذ الكبير يحكى ما جرى. 

سألته عن التابوت، فقد كنت أعرفه، قال لى: إنهم أغلقوا التابوت ووضعوا المسامير. 

كان معنا الورد، دخلنا الكنيسة وفك فرج مسامير الصندوق، ورفع غطاء التابوت عن وجه خليل مطران، ووضع الورد حول وجهه. 

شعرت برعشة من رهبة الموقف، وشعرت بتنميل فى أطرافى، وصعد محمد يوسف والتقط الصورة، وأعاد فرج مسمرة غطاء التابوت مرة أخرى كما كان من قبل. 

يمكنك أن تدين تصرف الأستاذ هيكل، ترفضه، تلومه وتعاتبه لأنه فعل ما فعل، ويبدو أنه كان يعرف أن هذا ما سيحدث، فقال مبررًا تصرفه: كان ما فى خاطرى يومها هو تكريم الشاعر بصورة وداع تبقى فى ذاكرة الناس.

عاد هيكل يومها إلى أخبار اليوم، وكاد على أمين يطير فى الجو من الصورة التى كانت أكثر من مذهلة، لكن كان ما فعله هيكل قد تسرب، وبدأت الانتقادات تصل إلى أخبار اليوم، وتحول الاحتفاء بها إلى هجوم على الصحفى الشاب الذى أراد أن يكرم الشاعر الكبير فإذا به يواجه عاصفة من الهجوم. 

توفيق الحكيم 

فى اليوم التالى دخل توفيق الحكيم على هيكل فى مكتبه، ودار بينهما الحوار التالى: 

الحكيم: إيه الحكاية اللى حصلت دى؟ 

هيكل: حكايه إيه؟ 

الحكيم: إنتو فتحتوا البتاع؟ 

هيكل: محمد يوسف كان يريد التقاط صورة لوجه الشاعر بين الورود لأنه كان قد أغلق.

الحكيم: وفكيته ليه؟ 

هيكل: لأننا كنا نريد أن تكون تلك آخر صورة، ثم إن هذا تكريم له، أن يتم تصويره بين الورود وأن ننشر الصورة فى هذا المكان بالذات.

الحكيم: لا. لا . لا. لأه. هو ايه ده؟ 

دخل هيكل مع الحكيم فى مناقشة وصفها بأنها كانت حادة، وبدا أن الحكيم الذى سبق وتحمس للصورة لا يريد أن يتراجع عن موقفه الرافض لالتقاطها بهذه الصورة، وبرر ذلك لهيكل بقوله: مثل هذا الكلام لا يقدر عليه إنسان. 

الفارق بين موقفى هيكل والحكيم من صورة خليل مطران والتقاطها بهذه الطريقة يعود إلى طبيعة كل منهما، فهيكل صحفى يأخذه الخبر وتأسره الصورة، بينما الحكيم أديب يميل إلى الهدوء، مهما كان خياله جامحًا فلا يمكن أن يصل إلى جموح وجنوح خيال الصحفى. 

عبر هيكل عن هذا الفارق بينهما بقوله: كان توفيق الحكيم موجودًا معنا فى أخبار اليوم، وكان كاتبًا ومفكرًا كبيرًا ودمه خفيفًا، كانت بيننا علاقة غريبة، كان هو مبهورًا بى من ناحية، وأنا كنت مبهورًا به من ناحية أخرى، أنا كنت مبهورًا بالأديب والفنان.. وهو كان مبهورًا بالصحفى، كان مصدر إعجابه بى أننى أتحدث وأعمل وأذهب إلى أكثر من مكان، كان دائمًا يقول لى الفارق بينى وبينك هو الفارق بين النملة والنحلة، النمل يحفر تحته.. والنحل يطير ويحلق فى الأجواء، كان قد قرأ لى بعض التحقيقات من تحقيقاتى الأولى، وكان مهتمًا بها، عندما سافرت إلى الحرب الأهلية فى اليونان وغطيت ثورة مصدق والانقلابات السورية وحرب فلسطين وما جرى فى كوريا، وتحقيقات الكوليرا فى صعيد مصر، كان يرى ما أقوم به من الأمور التى توشك أن تفوق الخيال، أنا أتحرك كل يوم وهو يميل إلى السكون وعدم الحركة والتأمل. 

الأستاذ هيكل 

ولا أعرف على وجه التحديد لو أن الأستاذ هيكل كان موجودًا بيننا الآن وفعل ما فعله، ووصل الأمر إلى الدكتور أشرف زكى، فكيف سيكون رده عليه أو تعليقه على ما حدث. 

إذا حدث تجاوز من بعض الصحفيين فيمكن تصحيحه لكن أن يتحول الموقف إلى موقف عام من جموع الصحفيين فهذا أمر لا بد أن نتوقف عنده

يمكنك أن تقول إن هيكل وقتها كان صحفيًا صغيرًا، فعندما التقط هذه الصورة كان عمره لا يزيد على ٢٦ عامًا، فهو من مواليد ٢٣ سبتمبر ١٩٢٣، وطبيعى أن صحفيًا شابًا ويعمل فى مؤسسة جامحة كأخبار اليوم أن يسلك هذا السلوك. 

لكن المفاجأة أن الأستاذ هيكل لم يعتذر فى أى وقت عن هذه الواقعة، بما يعنى أنه مات وهو مقتنع تمامًا بأن ما فعله كان صحيحًا، وأنه لم يتجاوز فى حق الميت، ولم يخترق جلال الموت. 

صلاح السعدنى كان يقدر الصحافة والصحفيين ويعرف أنهم ساهموا بالقدر الأكبر فى بناء جماهيريته وشعبيته

ما لا يعرفه الفنانون وعلى رأسهم الفنان الكبير أشرف زكى أن الصحفيين لا يذهبون إلى جنازات وعزاءات الفنانين إلا لأنهم مشاهير، هذا جزء من عملهم، فلا يذهب الصحفيون إلى جنازات وعزاءات عموم الناس، وإذا حدث تجاوز من بعض الصحفيين فيمكن تصحيحه، لكن أن يتحول الموقف إلى موقف عام من جموع الصحفيين فهذا أمر لا بد أن نتوقف عنده. 

احمد السعدنى من جنازة والده

ثم من قال إن المشاهير يرفضون تغطية الصحافة جنازاتهم وعزاءاتهم؟ 

لو سألوا صلاح السعدنى فى هذه القضية تحديدًا لكان موقفه مختلفًا عن موقف نجله، لأنه كان يقدر الصحافة والصحفيين ويعرف أنهم ساهموا بالقدر الأكبر فى بناء جماهيريته وشعبيته. 

ما قاله الفنان الراحل أحمد زكى قبل موته

وإذا أردتم مثلًا واضحًا على تعامل المشاهير من الفنانين مع الموت ومع وداع الناس لهم، فلا أكثر مما قاله الفنان الراحل أحمد زكى قبل موته. 

سأعود بكم قليلًا إلى العام ٢٠٠٥، فى بدايات شهر مارس وقبل أيام من وفاة أحمد زكى، وسأعتمد عنه فيما أذكره لكم على ما قاله الكاتب الصحفى الكبير عماد الدين أديب، الذى كان مرافقًا لأحمد فى أيامه الأخيرة. 

كان عماد ضيفًا على برنامج «البيت بيتك» الذى كان يقدمه التليفزيون المصرى بعد وفاة أحمد بأيام، وكان هذا بعضًا مما قاله. 

يقول عماد: لما أحمد زكى كان فى مرضه إحنا كنا مشددين إنه ميتصورش حفاظًا على صورته وشكله، لأن مريض السرطان فى الأوقات الأخيرة بيبقى صعب الوضع بالنسبة له، فهناك خصوصية ويجب التصرف من باب الأمانة والصداقة إنك تمنع هذا الأمر، والدكتور ياسر- الطبيب المعالج لأحمد- يعلم أنه قبل أن يدخل الإنعاش بأسبوع قال لى أمام ١٥ واحد موجودين أحياء يرزقون يا عماد هات كاميرا ألوان وصورنى عشان تعمل معايا لقاء عشان نذيعه فى «البيت بيتك»، قلت له: آه طبعًا وتوهته وهذا لم يحدث. 

ستحدثنى عن موقف عماد أديب وما قرره فى النهاية من عدم تصوير أحمد زكى وهو فى هذه الحالة. 

سأحدثك عن رغبة أحمد زكى وما كان يريده، وأعتقد أنه حزن لأن عماد لم يستجب له. 

عماد الدين أديب قال ما هو أكثر، استمعوا إليه وهو يتحدث. 

قال: فيه حاجة غريبة جدًا، كانت من ضمن الحاجات لكن كانت غير ممكنة إن أحمد كان عايز الجنازة تطلع من عمر مكرم وفى المساء يكون العزاء فى الحامدية الشاذلية، والمكان هناك ضيق وصغير، والعمارة اللى ساكن فيها قدام الحامدية الشاذلية، طب ليه الحامدية الشاذلية يا عم أحمد؟ قال لك عشان متأخرش، فطبعًا يعنى مفيش حد فى الدنيا ممكن يبقى متخيل جنازته وبعدين هو راح يعزى وحاجات. 

وفى مقال وداع سيطرت عليه مشاعر الحزن- منشور فى ٢١ مارس ٢٠٠٥- ينقل عادل حمودة أن أحمد زكى قبل وفاته كان قد انتهى من تصوير نحو ٨٥ بالمائة من مشاهد فيلم «حليم»، والمثير للدهشة أن أحمد طلب تصوير جنازته لاستخدامها فى الفيلم على أنها جنازة عبدالحليم حافظ، وفور أن عرف بحقيقة مرضه تمنى أن يصور كل ما يجرى حوله، إن لم يكن للاستفادة منه فى عمل فنى فعلى الأقل حتى يعرفه الناس، جمهوره الذى أحبه وجن به ومنحه من التقدير والإعجاب ما لم يمنحه لغيره ممن برعوا فى فنون الدعاية. 

يقول عادل حمودة ما هو أكثر: عندما طلب منى أن أصوره وهو يعالج على الطريقة الصينية استجبت له، وبعد أن التقطت له نحو مائة صورة قدمتها له على أسطوانة كمبيوتر، لكنه قال: لا أريد أن أحتفظ بها.. انشرها. 

يمكن أن نعتبر أحمد زكى فنانًا من طراز خاص- وهو كذلك بالفعل- وعليه فما يسير عليه لا يمكن أن يسير على غيره، وهو ما سأوافق عليه تمامًا، لكنه على أى حال حالة نستشهد بها على ما يربط بين الفنانين والصحفيين من علاقة، وعلى ما يمكن أن يصل إليه الفنان من طموح لتخليد نفسه والإبقاء على ذكراه فى عيون وقلوب جمهوره والمعجبين به. 

أحمد زكى

النماذج أكثر من أن تُعد أو تحصى. 

تغطية جنازة الفنان الكبير أنور وجدى

ويمكننا أن نفتح معًا كتاب «ريحة الورق.. أقلام وأقدار ومعارك» الذى أبدع فى جمع تفاصيله الصديق محمد جلال فراج، لنتصفح معًا ما كتبه عن تغطية مجلة «آخر ساعة» فى عددها الصادر فى ٢٥ مايو ١٩٥٥ لجنازة الفنان الكبير أنور وجدى. 

تحت عنوان «الدقيقة الأخيرة لأنور وجدى» نشرت «آخر ساعة» تحقيقًا مطولًا تفاخرت فيه بانفرادها بأسرار الأيام الأخيرة للنجم الكبير، حيث سعت وراء الفنان الراحل دقيقة بدقيقة من القاهرة إلى ستوكهولم، ومن غرفة التحنيط بعد أن أصبح جثة بلا روح وحتى قبره الذى دفن فيه. 

فى قلب التحقيق نشرت «آخر ساعة» صورة كبيرة بحجم صفحة كاملة لنعش أنور وجدى مفتوحًا ويظهر منه الجثمان ملفوفًا بالشاش الأبيض، وهو مركون فى زاوية من المقبرة انتظارًا لدفنه، وكتبت المجلة أسفل الصورة: هنا يرقد أنور وجدى.. الشاب الذى ملأ الدنيا شبابًا وحيوية وظهرت الشعلة وخبت جذوتها فى هذا الصندوق الخشبى، وهذه أول صورة تنشر فى العالم لجثة أنور وجدى بعد تحنيطها، لقد التفت حول الجسد الهامد اللفائف البيضاء، وكانت آخر صورة لأنور وجدى فى الدنيا. 

نشرت المجلة صورة أخرى لنعش أنور وجدى المفتوح، وهو محمول على عربة نصف نقل، ووضعت تعليقًا عليها: نهاية الطريق الطويل الذى سار فيه أنور وجدى على الشوك لكى يأخذ المجد، وقدم أنور صحته وشبابه وسعادته من أجل الوصول إلى القمة، ووصل الشاب المكافح ولكنه وقف على القمة بلا صحة ولا شباب ولا سعادة، وهوى النجم واستقر فى تابوت خشبى بعيدًا عن وطنه. 

لم يكتف تحقيق «آخر ساعة» بالصور، بل نشر وقائع خاصة جدًا من الغرف المغلقة لآخر أيام أنور وجدى فى الدنيا. 

ومن بين ما نشرته ويمكننا أن نعتبره غريبًا، أن أنور جمع أهله- أمه وشقيقاته الثلاث وأزواجهن وزوجته ليلى فوزى- فى حجرته بدار الشفاء بالقاهرة قبل سفره إلى ستوكهولم وقال لهم: افرضوا إنى توفيت منذ يومين.. إيه كان يخص كل واحد فيكم من التركة؟ 

المفاجأة أن الأهل لم يمتنعوا عن الكلام، لم يقولوا له إنهم يتمنون له طول البقاء، لكن بدأوا فى مناقشة القيمة المالية الحقيقية للأموال والعمارة والأفلام، وعلا صوتهم خلال النقاش، وهنا ضحك أنور وجدى وهو يقول لهم: أنا كده اتطمنت إن كل واحد فيكم عارف حقه، ثم دمعت عيناه وطلب من صديق عمره، واسمه محمود شافعى، أن يأخذ باله من ليلى فوزى. 

لم تترك «آخر ساعة» القراء يخمنون ثروة أنور وجدى، ولكن نشرتها كاملة، فهى عبارة عن عمارة بجوار دار الإذاعة المصرية وثمنها حوالى ٢٢٠ ألف جنيه، وإيجار شقة من غرفتين بخمسة عشر جنيهًا فى الشهر، وإجمالى إيجار شقق العمارة فى الشهر يصل إلى ١٥٠٠ جنيه، و١٤ فيلمًا أهمها ليلى بنت الفقراء وليلى بنت الأغنياء وغزل البنات وياسمين وفيروز هانم وقيمتها ١٥٠ ألف جنيه، ومعاملات خارجية وأملاك خاصة تقدر بحوالى ٥٠ ألف جنيه، ومعامل للأفلام قيمتها حوالى ٤٠ ألف جنيه، ورصيد فى البنوك لا يقل عن ١٢٠ ألف جنيه. 

الصحافة لم تتغير لكن المجتمع هو الذى تغير. 

يبدو أن هذه هى الحقيقة التى يجب أن نتعامل معها، فمنذ سنوات وجنازات المشاهير وعزاءاتهم تثير جدلًا وصخبًا هائلًا. 

هناك من يتسابقون للحصول على لقطات خاصة يرفعون بها مشاهداتهم ومكاسبهم المادية وهؤلاء يجب أن نلتفت إليهم جميعًا

حدث هذا بعد الصورة التى التقطها الزميل أحمد حماد لجثمان السيدة جيهان السيدة قبل لحظات من دخوله القبر، وحدث فى جنازة الفنان سمير غانم عندما حاول بعض الزملاء الصحفيين الوصول إلى المقبرة وتصوير الجثمان مستقرًا فى القبر. 

دارت نقاشات حادة، وأعلنت نقابة الممثلين عن أنها ستسعى إلى وضع قواعد لتغطية الجنازات، وقال النقيب أشرف زكى إنه سيجلس مع الزملاء فى نقابة الصحفيين للاتفاق على القواعد التى يجب أن يلتزم بها الجميع فى تغطية هذه الأحداث التى لها طبيعة خاصة. 

الغريب أنه رغم مرور السنوات لم نصل إلى شىء، ولم تخرج القواعد التى يتحدث عنها الجميع، وهو ما يجعلنى أتساءل: هل هناك جدية فى الاتفاق على هذه القواعد؟ أم أننا ننفعل فقط بعد كل حدث ونعيد نفس الكلام ثم ننسى كل شىء، ولا نعود إلى هذا الكلام إلا بعد أن نجد أنفسنا أمام واقعة جديدة؟ 

جنازة دلال عبد العزيز

لا أحد يرفض القواعد. 

وكما يعانى الممثلون والمشاهير مما يحدث فى الجنازات، فإن الصحافة الجادة تعانى أيضًا، خاصة أن الإعلام مثل غيره يعانى من التطور التكنولوجى الهائل الذى جرى خلال السنوات الماضية، فهناك مئات الصفحات على السوشيال ميديا يديرها من لا ينتمون إلى العمل الصحفى، وهؤلاء تحديدًا من يتسابقون للحصول على لقطات خاصة يرفعون بها مشاهداتهم ومكاسبهم المادية، وهؤلاء يجب أن نلتفت إليهم جميعًا لأنهم يتحركون بلا قواعد ولا قيم ولا إطار من أخلاق المهنة. 

إننا لا نقف أبدًا فى الجهة الأخرى، ولا ننحاز لأى موقف يفتقد إلى القواعد واللياقة، ولكن يجب أن نضع الأمور فى نصابها، فلا يمكن أن يستغنى الفنانون عن الصحافة سواء فى أفراحهم أو فى أحزانهم، ولن تستطيع الصحافة أن تستغنى عن الفنانين، فهم جزء مهم من مادتها الخام لتقديم معالجات وتغطيات لجيش القراء الذى لا يرحم، وعليه فإذا كانت هناك أزمة فلا بد أن نعرف أنها طارئة، ولن تصمد أمام العلاقة القوية بين الصحافة والفن، لأنها علاقة أزلية لن تتأثر بغضب عابر يخرج من هنا أو هناك. 

إننى أقترح حلًا بسيطًا يمكن أن يغنينا عن كل هذا الجدل، فيمكن أن يتم تخصيص مكان محدد لوسائل الإعلام المختلفة، مواقع وقنوات، فى أماكن الجنازات، يقف فيه الزملاء يضعون كاميراتهم ومايكاتهم للتغطية دون أن يكون هناك تداخل بين الصحفيين والفنانين، لكن ليس منطقيًا أن نترك الساحة مفتوحة ثم نتحدث بعد ذلك عن أخطاء. 

لقد عاش صلاح السعدنى حياة هادئة، وأعتقد أنه كان يستحق وداعًا هادئًا، لا أن يثار على هامش وفاته هذا الحوار المتشنج العصبى الذى لم يستفد منه أحد، وكل ما أتمناه أن نقوم بحسم هذه القضية، بدلًا من أن نجد أنفسنا مع أقرب جنازة لأحد المشاهير نقول نفس الكلام وندخل مع بعضنا البعض فى نفس المواجهات، لأننى أعتقد أن لدينا جميعًا ما هو أهم وما يستحق وقتنا.