محمد الفخرانى: الرواية والقصة صديقتان تجلسان معى على «قهوة بلدى»
- كل رواياتى وقصصى يكمل بعضها بعضًا رغم عوالمها المختلفة
يصنع الكاتب الروائى محمد الفخرانى عالمًا من الدهشة، يمتزج فيه الخيال بالفانتازيا التى تفتح آفاقًا رحبة للتفكير والتأويل، وهو ما صبغ كتابته بالرهافة والنعومة التى تواجه قسوة ومعاناة الواقع، وجعلها تمتلك ذكاءً وعمقًا تفكك من خلاله طلاسم السياسة والحروب المعقدة.
هذه الحالة الإبداعية الرقيقة استثمرها «الفخرانى» فى روايته «حدث فى شارعى المفضل» الصادرة مؤخرًا، والتى تحاول تفتيت مفردات العالم الحديث وإعادة تشكيلها فى سياق إنسانى بسيط ورحيم.
ولدى محمد الفخرانى المولود فى عام 1975 سجل حافل بالتكريمات، كان آخرها حصوله على جائزة «أفضل رواية» من مسابقة معرض القاهرة الدولى للكتاب لدورة العام 2023/ 2024 عن عمله «غداء فى بيت الطباخة»، الصادرة عن دار العين للنشر والتوزيع، وهى الرواية التى تقدم نظرة على عالم الحروب وتفتح مسارات للبحث عن آفاق أخرى لحياة أكثر إنسانية ومحبة تكون قائمة على العدل والحرية.
«الفخرانى» الذى قدم أكثر من 14 عملًا إبداعيًا ما بين القصة والرواية، حصل أيضًا على جائزة معهد العالم العربى فى باريس عن ترجمة روايته «فاصل للدهشة»، ليصدر بعد ذلك الكثير من العناوين الملفتة، مثل رواية «ألف جناح للعالم»، والمجموعات القصصية «بنات ليل»، و«قصص تلعب مع العالم» و«قبل أن يعرف البحر اسمه».
كما حصد كذلك جائزة الدولة التشجيعية فى عام 2012 وجائزة يوسف إدريس، وتُرجم عدد كبير من رواياته ونصوصه القصصية المختلفة على مستوى اللغة البصرية وتقنيات الكتابة.
عن رحلته فى عالم الكتابة ونجاحاته فيها وعن رؤيته لعالمى الرواية والقصة القصيرة، أجرت «حرف» مع محمد الفخرانى الحوار التالى.
■ روايتك «غداء فى بيت الطباخة» تناولت بدقة فكرة الحروب.. هل أثرت الصراعات الدائرة حول العالم عليك خلال كتابتها؟
- قبل خمس سنوات كانت لدىّ خطة لكتابة رواية عن الحرب، مع تصور كامل عنها وخطة فنية تخص كل شىء فيها، أو خطة لها خطوط عامة واضحة، بحيث تكون مختلفة عن كل ما كتب عن الحرب.
وصادف أن بدأت عدة حروب فى العالم أثناء أو قبل أو بعد صدور «غداء فى بيت الطباخة» بشهور قليلة.
■ فى «غداء فى بيت الطباخة» يبدو وكأن هناك مسرحًا تدور عليه الأحداث.. هل تتعمد الكتابة بهذه التقنية؟
- أن يبدو المكان فى الرواية وكأنه مسرح، أو تبدو الأحداث وكأنها تحدث على مسرح، ربما يكون حاضرًا بشكل ما فى الرواية، فى ظل محدودية المكان الأساسى والحوار الحاضر بشكل قوى، لكنى لم أفكر فى هذا بشكل متعمد، لم أتعمد «مسرحة» المكان، كان تفكيرى بالأساس عن مكان محدود، الخندق، وشخصيتين معًا فى هذا المكان، لكن الرواية يمكنها أن تَعكس عن نفسها تصورات وأفكارًا متعددة.
■ فى روايتك «لا تمت قبل أن تحب» تظهر نادلة بشكل عابر فى مشهد يحكى فيه الطباخ الشاب لمدرس التاريخ ويقول إنه بسبب هذه الفتاة سيحب ويتزوج نادلة تعمل فى مطعم أو كافيه.. أسأل هنا عن تلك المشاهد العابرة التى تظهر مرة واحدة ولا نراها ثانية.. كيف تراها داخل نصوصك؟
- أحب بشكل خاص المشاهد العابرة فى الحياة، وهى فى الوقت نفسه لا تكون عابرة، أحب تلك المصادفات التى تقابلنا أثناء المرور فى شارع فيحدث شىء ما مختلف، مثل تلك اللحظات على رصيف قطار أو جملة أو تعليق من شخص لا تراه، موقف صغير بين أُم وطفلها أو أب وابنته أو شخصية من الشارع تمر أمامك أثناء جلوسك فى مقهى، أو تجوال حر لك فى الشوارع، فتتوقف هذه الشخصية لتتبادل معك حوارًا قصيرًا عن أىّ شىء أو لا شىء، أو تبادر أنت بالكلام معها، مشاهد صغيرة عابرة، ربما لم يلحظها أو يرها أحد فى العالم غيرك لا تستغرق غير ثوان، المشاهد العابرة التى تظل طافية بين الوهم والحقيقة، وتشكل بنفسها وحدة قصصية كاملة، حكاية وسط حكايات الشارع أو هى تمثل حالة إحساس، شعور، لمحة ما.
وأحب تلك المشاهد والحالات فى النص الأدبى، مشهد أو موقف أو شخصية تظهر لتصنع حالة ما، وتشكل فكرة أو شعورًا ثم تمضى وتتبخر فى فضاء الرواية وتلونه، تظل أيضًا هائمة وحية فى خيال القارئ ووجدانه، وتؤثر فيه على طريقتها، وأحد هذه المشاهد كان مشهد النادلة فى رواية «غداء فى بيت الطباخة».
أحب أنْ أضمن كتابتى مشاهد حقيقية من تلك المشاهد العابرة التى تصادفنى فى الحياة، ومشهد النادلة له أصل فى الواقع.
■ الألوان حاضرة فى كتابتك.. ما فلسفتك معها؟
- ببساطة، اللون ليست مجرد لون يلون شيئًا ما، الألوان ليست شيئًا ظاهريًا، إنما هى الجوهر، اللون فى أحيان كثيرة يمثل وحده جوهر أشياء كثيرة، وهو نفسه طبيعتها، بجملة بسيطة وفكرة بسيطة، أقول إن الألوان كانت موجودة حتى قبل أن يستقر العالم على شكله وكتلته، ويحدث مرات، وعلى سبيل التغيير والتجربة والحب أيضًا، أن أتخيل العالم بالأبيض والأسود فقط مع ملاحظة أن الأبيض والأسود أيضًا لونان.
تحضر الألوان فى كتابتى داخل خطة ما ولسبب فنى، والنص الواحد لا يحوى ألوانًا عديدة أو يحدث أحيانًا، مع التركيز على لون واحد بشكل خاص؛ لأن له دورًا أكبر من غيره داخل النص، مثلما تحضر الموسيقى كذلك، ويكون التركيز على آلات موسيقية بعينها فى كل مرة حسبما يحتاج النص.
■ هل يمكن اعتبار أن روايتك «حدث فى شارعى المفضل» تكمل شيئًا ما فى روايتك السابقة عليها «غداء فى بيت الطباخة»؟
- أفكر أن كل رواياتى وقصصى يكمل بعضها بعضًا بطريقة ما، رغم عوالمها المختلفة، فهى تشكل معًا عالمًا به من التنوع، ونعم هناك خيط بين «غداء فى بيت الطباخة»، و«حدث فى شارعى المفضل»، فالروايتان بهما شىء له علاقة مباشرة بالوجود الإنسانى.
■ هل الأدب والفن قادران على التغيير؟
- الأثر/ التأثير، الذى يحدثه الأدب يكون فى العمق وبالتراكم، أنا أصدق أن الأدب قادر على التأثير بشكل سريع، وأفكر أن التأثير أهم وأقوى من التغير، والتغير ربما يكون واضحًا وقويًا وفى الحال، لكن من السهل أن يفقد قوته ويتلاشى، التغير نتيجة وليس سببًا، وربما يكون ظاهريًا ومرتبطًا بلحظة ما أو حالة ما، وفى حالات كثيرة لا يكون اختياريًا وعن رغبة وإرادة حرة.
لكن التأثير يتعلق دومًا بالداخل ويشتغل بثقة وإخلاص وصدق، لذا نتأثر ونصدق فنتغير، وهذا ما يفعله الأدب والفن بصدق وإخلاص، يؤثر داخليًا فيبقى ويكون حقيقيًا، وأثق أن الكتابة يمكنها أن تصنع الفارق على طريقتها.
وأنا أصدق أن بعض القصص والروايات تكون من القوة والصدق حد أنها تستدعى إلى العالم الأفكار والأحداث التى تتكلم عنها وتحكيها، أو أنها تستدعى إلى حياة كاتبها الأفكار والأحداث التى كتبها بنفسه فى روايته، ولم تكن موجودة لا فى العالم ولا فى حياته قبل كتابته إياها، الكتابة يمكنها ما لا يمكن لغيرها.
■ أصدرت خمس مجموعات قصصية أحدثها «عشرون ابنة للخيال».. ما خطتك مع القصة القصيرة؟ وكيف ترى المشهد القصصى حاليًا؟ وماذا عن الصراع المزعوم بينها والرواية؟
- بعد مجموعتى «عشرون ابنة للخيال»، لدىّ بالفعل مجموعتان مكتملتان، لكنى بينما كنت أنتظر الوقت المناسب لأنشر إحداهما، أعمل الآن على مجموعة أخرى بفكرة جديدة وعالم جديد تمامًا. علاقتى بالقصة لا تنقطع، دومًا هناك كتابة فيها فقط أفكر فى العودة إليها بنشر عمل يمثل انتقالة مهمة مثلما أتمنى.
وأما المشهد القصصى، فأنا لا أنظر إلى ما يسمى «المشهد» سواء للقصة أو الرواية، لا أهتم بالمشهد العام، فقط يكفى بالنسبة لى أن أقرأ قصة واحدة تعجبنى، أو رواية واحدة خلال العام، أتعامل بهذه البساطة.
لكن لماذا نعتقد أن القصة فى حاجة لمن يدافع عنها عن وجودها وجمالها؟ دائمًا ما أقول إن القصة ليست فى حاجة للدفاع عنها، أو التأكيد على جمالها وروعتها.
وعن علاقة القصة والرواية: أفكر أنه يمكن لأى أحد أن يصادفهما، أقصد القصة والرواية جالستين معًا مثل صديقتين فى أى مقهى بوسط البلد، أفضل الأوقات لمصادفتهما صباحًا وفى نهاية النهار وبعد التاسعة مساء، جالستين على رصيف أى «قهوة بلدى» قريب من الشارع، وهى مصادفة يمكن حدوثها بسهولة.
■ الحرب موضوع كبير كان يمكن أن تكتب فيه رواية بحجم أكبر.. ألا ترى ذلك؟
- أعتبر حجم الرواية ضمن التخطيط الأولى لها وجزء من تشكيلها الفنى، فى بداية الرواية يكون لدى توقع واختيار لعدد كلماتها، وبالتالى حجمها، وفى النهاية يكون حجم الرواية متسقًا مع عدد الكلمات الذى اخترته مسبقًا، ربما أقل أو أكثر بألفى كلمة، وأفكر فى طريقة لكتابة الموضوعات الكبيرة فى صفحات أقل.