السبت 23 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

العقاد وعبدالناصر وجهًا لوجه.. حقائق وأكاذيب بين الكاتب والرئيس

عبدالناصر والعقاد
عبدالناصر والعقاد

- عبدالناصر قال أثناء محاولة اغتياله فى حادثة المنشية: أنا الذى علمتكم الكرامة.. أنا الذى علمتكم العزة

- هناك شكوك كثيرة فيما كتبه أنيس منصور عن العقاد.. وهناك من يشكك فى كتابه «فى صالون العقاد كانت لنا أيام»

- عندما قامت ثورة يوليو كان العقاد يضيق بكثير مما يقوله الرئيس الراحل جمال عبدالناصر

- هناك من ذهب إلى أن عبدالناصر أوحى لمساعديه أن يضعوا منضدة عريضة تفصل بينه وبين العقاد، حتى يضطر الكاتب الكبير إلى الانحناء عند مصافحة الرئيس

- عام 1959 كُرم العقاد فى عيد العلم ومُنح جائزة الدولة التقديرية التى لم تكن تُمنح إلا للجامعيين فقط لكنه حصل عليها تقديرًا لمسيرته

- جمال عبدالناصر: أعتقد أن العقاد لا يمكن أن يكون عميلًا لأحد.. إنه يكتب من رأسه وليس من رأس الآخرين

- عبدالناصر كان معجبًا بالعقاد رغم أنه كان يعرف تحفظاته على بعض سياسات الثورة وتحديدًا فيما جرى فى التأميم والإصلاح الزراعى

- العقاد: كان الخلاص من عهد فاروق ضرورة لا تستكثر عليها أن تقدم الأمة فى سبيلها على خسارة فى الأرواح والأموال

لا أعرف على وجه الدقة هل قال العقاد ذلك، أم أن هناك من نسبه إليه ووضعه على لسانه نكاية فى عبدالناصر وتقليلًا من شأنه؟ 

فمن بين ما نردده، نقلًا عن آخرين فى الغالب لا نعرفهم جيدًا، أن عبدالناصر عندما نجا من محاولة اغتياله فى حادث المنشية فى 26 أكتوبر 1954، وقف فى مكانه قائلًا: «فليبق كل منكم فى مكانه، حياتى فداء لمصر، دمى فداء لمصر، أيها الرجال، أيها الأحرار إذا مات عبدالناصر فكلكم عبدالناصر، أنا الذى علمتكم الكرامة»، وأن العقاد عندما استمع إلى هذه العبارة من عبدالناصر علق قائلًا: «إن من يقول ذلك للمصريين، يجب أن يضربه المصريون بالنعال». 

لم أجد هذه الواقعة موثقة إلا فى كتاب أنيس منصور «فى صالون العقاد كانت لنا أيام»، وهو ما دعانى لأن أقول إنها ربما تكون منسوبة للعقاد، وضعها أنيس على لسانه للنيل من عبدالناصر. 

أما ما جعلنى مدفوعًا إلى التشكيك فى عبارة العقاد، والذهاب إلى أنها منسوبة إليه، أن من نسبها إليه قد يكون بنى على موقف سابق للعقاد مع الملك فؤاد. 

فعندما شكّل النحاس باشا وزارته فى العام 1930، تعهد بحماية الدستور، بل أصدر قانونًا يحاكم من خلاله أى وزير يعتدى عليه أو يقبل المشاركة فى حكومة غير دستورية لا تحصل على ثقة مجلس نواب منتخب انتخابًا حرًا، تنبه الملك فؤاد لما يريده النحاس، فهو يقيّد صلاحيته فى حل المجالس النيابية المنتخبة وتشكيل الوزارات، فرفض إرسال القانون إلى المجلس، وهو ما دعا النحاس إلى إعلان استقالة حكومته لأنه لا يستطيع تنفيذ برنامجها. 

فى قاعة مجلس النواب وقف العقاد، وقال كلمته الشهيرة: «إن الأزمة ليست أزمة مجلس الوزراء، ولكنها أزمة مجلس النواب والدستور المصرى، وليعلم الجميع أننا مستعدون لسحق أكبر رأس فى البلاد فى سبيل وصيانة الدستور وحمايته». 

حوكم العقاد بتهمة العيب فى الذات الملكية، وصدر ضده حكم بالسجن لمدة تسعة أشهر، لكن ظلت عبارته جزءًا من تراثنا السياسى، وقد يكون هناك من نسب له عبارته الخاصة بعبدالناصر سيرًا على ما قاله فى حق الملك فؤاد. 

محاولة اغتيال عبدالناصر

لم أستسلم لعدم توثيق واقعة العقاد فيما يخص عبدالناصر، بدأت بحثًا من جديد، وقصدت أنيس منصور من زوايا مختلفة، وقبل أن أفتح كتابه «فى صالون العقاد كانت لنا أيام»، فتحت كتابه «الكبار يضحكون أيضًا»، الذى كتب فيه فصلًا مهمًا بعنوان «أنا الذى علمتكم الكرامة بالكافيار والأرز بالخلطة». 

يمكنك أن تتخيل أن أنيس منصور جاء على هذه الواقعة، لكن شيئًا من هذا لم يحدث، فقد كان هناك فارق بين عبارة عبدالناصر فى المنشية، وذكر العقاد فى الكتاب. 

أما ما يخص العقاد، فقال عنه أنيس: «وقد تذكرت خطابًا بعث به أستاذنا عباس العقاد إلى المحامى لطفى جمعة فنشره- مع الأسف- فى مذكراته، ولم يتقطع قلبى لشىء قرأته قدر هذه الرسالة التى يقول فيها الأستاذ العظيم عباس العقاد أكبر مفكرينا: إننى لا أجد قوت يومى، فلا تهرب منى كما هرب كثيرون، أرجوك أن تفعل شيئًا.. أرجوك». 

ويعلق أنيس: «يا سلام.. هذا العقاد العظيم قد كسره الفقر والاحتياج إلى أن طلب صراحة مساعدة من أحد، أيًا كان هذا الأحد، إن الرسالة فاضحة للأدب وللمشتغلين بالأدب والرأى الحر والشجاعة والجرأة حتى يفقد المفكر أصدقاءه، فلا يجد إلا الذين يخيل أنهم قادرون، فإذا بهم قادرون فقط على فضيحته». 

أما حكاية «أنا الذى علمتكم الكرامة»، فيأتى ذكرها فى الكتاب على النحو التالى:

يقول أنيس: «فى ليلة دعانا الأستاذ محمد التابعى إلى عشاء، ولا أعرف إن كان دعانى، وإنما ذهبت مع كامل الشناوى ومصطفى أمين وعلى أمين، والشاعر الدكتور سعيد عبده ومحمد عبدالوهاب وأم كلثوم وأحمد الألفى عطية، وكان العشاء الذى ينفرد به الأستاذ التابعى هو السمان من دمياط، والمائدة فخمة، وفجأة انطلق صوت جمال عبدالناصر فى ميدان المنشية سنة ١٩٥٤ وهو يقول: أنا الذى علمتكم العزة (يأكلون) وأنا الذى علمتكم الكرامة (يشربون) أنا الذى والذى، ولم يتوقف أحد عن أكل السمان والأرز بالخلطة والكشك والكافيار، وما لا أعرف من الأطباق الصغيرة، وكان الجميع صامتين كأنهم يسمعون إلى أم كلثوم وعبدالوهاب، بل رأيت عبدالوهاب يهز رأسه وأم كلثوم أيضًا، وقال لنا التابعى إن هذا التسجيل أرسله إلى الرئيس عبدالناصر، فلم تتمكن الإذاعة من تسجيله، وشكره الرئيس على ذلك، وسمعنا شكر الرئيس له عشرين مرة، كأنه كان يدعوننا لكى يُسمعنا حادث المنشية، بل يُسمعنا امتنان الرئيس عبدالناصر له». 

أنيس منصور 

لم يأت أنيس منصور على ذكر عبارة العقاد فى هذا السياق، لكن لماذا نتعجل؟ 

فقد وضعنا «فى صالون العقاد كانت لنا أيام» جانبًا، منذ قليل، فما رأيكم أن نعود إليه سريعًا. 

يقول أنيس بوضوح هذه المرة: «عندما قامت ثورة يوليو كان العقاد يضيق بكثير مما يقوله الرئيس الراحل جمال عبدالناصر». 

فعندما قال عبدالناصر يوم الاعتداء عليه فى المنشية، كان يصرخ قائلًا: «أنا الذى علمتكم الكرامة.. أنا الذى علمتكم العزة». 

يضيف أنيس: «إن العقاد لما سمع هذه العبارة كان يقول: إن شعبًا يسمع مثل هذه العبارة ولا يثور عليه ويشنقه فى مكانه لشعب يستحق أن يحكمه ويدوسه بالنعال، هذا الرجل عندما قام بثورته هذه، وجد البيوت والشوارع وملايين الناس والأهرامات والثورات والجامعات ومئات الألوف من الكتب، لقد سبقه إلى الوجود كل هؤلاء، وسبقته إلى القاموس كلمات أخرى غير العزة والكرامة». 

ستحتج علىّ وتقول إن أنيس منصور أثبت فى كتابه ما قاله العقاد، فالأمر صحيح إذن، والعبارة صحيحة لا شك فيها بعد ذلك. 

ورغم تقديرى لما تقول، فإن كون أنيس منصور هو مصدر الواقعة، هو ما يجعلنى أتشكك فيها أكثر، وذلك لسببين. 

الأول، أن هناك شكوكًا كثيرة فيما كتبه أنيس منصور عن العقاد، وهناك من يشكك فى كتابه «فى صالون العقاد كانت لنا أيام»، بل هناك من يقول إن أنيس لم يحضر أيًا من جلسات العقاد فى بيته، وكل ما كتبه سمعه من آخرين كانوا يشاركون فى الصالون. 

لم أنصت إلى ما يقوله الآخرون هؤلاء، فقد تحريت عما جرى، ولدىّ دراسة عن هذا الكتاب تحديدًا، وصلت من خلالها إلى أن كتاب أنيس عن العقاد لم يكن إلا من وحى خياله وتجميعًا لما قاله الآخرون عما كان يحدث هناك. 

وقفت على ذلك من فقرة واحدة فى الصفحة العاشرة من الكتاب، عرفت من خلالها الفترة الزمنية التى كان يتردد فيها أنيس على العقاد كما يقول هو. 

الفقرة كانت فاتحة البحث فقط، عرفت من خلالها أن أنيس كان يتحدث عن وقائع جرت فى الصالون فى العام ١٩٤٤، وفى هذا العام كان أنيس فى العشرين من عمره، طالبًا فى الجامعة، تفصل بينه وبين عمله فى الصحافة ثلاث سنوات كاملة، فقد دخلها من باب جريدة الأساس فى العام ١٩٤٧، فهو حتى لو كان يحضر الصالون رغم صغر سنه، إلا أنه لم يكن مؤهلًا لأن يلعب دورًا يمكّنه من أن يكون حاضرًا وبقوة إلى جوار العقاد كما كتب وصوّر. 

وأنا أعمل فى هذه الدراسة استمعت من أحد الزملاء إلى رواية نقلها له الدكتور عاطف العراقى أستاذ الفلسفة الشهير. 

قال العراقى: «أنيس منصور لم يكن فى أى وقت من ضيوف صالون العقاد، ولم يكن يعرفه أحد من بين الحضور، وكلهم معروفون ومشهورون، وعندما كتب حلقات كتابه عن الصالون تعجب كثيرون، فمن أين له كل هذه الجرأة على اختلاق الأحداث والوقائع والحوارات مع العقاد».

يمكنك أن تتشكك فيما وصلت إليه، وفيما قاله عاطف العراقى، لكن أنيس نفسه قال ما يمكننا أن نكذبه به، فعندما كان يتحدث عن عشاء التابعى، قال إن الكاتب الكبير هو الذى أرسل لعبدالناصر ما قاله فى المنشية، ولم تكن الإذاعة قد تمكنت من تسجيله، لكن التابعى هو من حصل على التسجيل بطريقته، ما يعنى أن العقاد لم يكن قد استمع إلى هذه العبارة من الإذاعة، وعليه فلا محل لأن يقول تعليقه عليها، ومن المستبعد بالطبع أن يكون التابعى أرسل نسخة من التسجيل إلى العقاد كما فعل مع عبدالناصر. 

لا أحاول نفى ما قاله العقاد لتكذيب أنيس منصور، فأنيس ليس قصتى هنا، ولكن للتأكيد على أن علاقة العقاد بعبدالناصر وموقفه من ثورة يوليو ١٩٥٢ يحتاجان إلى إعادة ترميم. 

مظاهرات مؤيدة لثورة يوليو

وهنا يمكن أن نستفيد من دراسة الناقد الكبير رجاء النقاش «العقاد بين اليمين واليسار». 

يذهب النقاش إلى أنه عندما قامت ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ سارع العقاد إلى تأييدها، ولكن تأييده لهذه الثورة كان له طابع خاص، فهو من ناحية لم يكتب عن الثورة كثيرًا، بل كانت كتاباته مجموعة محدودة من المقالات كتبها فى السنوات الأولى من الثورة، ثم ابتعد بعدها عن الخوض فى السياسة، واقتصر نشاطه طيلة فترات الثورة من ١٩٥٢ حتى وفاته سنة ١٩٦٤ على ثلاثة مجالات. 

الأول: العمل الصحفى، حيث كان يرد على أسئلة القراء فى الأدب والثقافة، خاصة يوميات الأخبار التى ظهرت بعد ذلك فى عدة أجزاء كبيرة، وتعتبر هذه اليوميات أشبه بدائرة معارف شعبية تتناول كل العلوم والفنون والمدارس الفكرية، كل ذلك فى خطوط عريضة ومعلومات أساسية مركزة تمامًا مثل دوائر المعارف الشعبية الميسرة. 

والمجال الثانى، الذى شغل به العقاد خلال الفترة التى عاشها فى ظل الثورة، هو مجال الدراسات الإسلامية التى أصدر منها عددًا كبيرًا فى هذه الفترة. 

وكان المجال الثالث، هو تلك الحرب العنيفة على الفكر اليسارى، والفكر الشيوعى على وجه الخصوص. 

يؤكد النقاش أن العقاد كف عن الكتابة السياسية بعد فترة من قيام الثورة، وقد تعتقد أنه فعل ذلك لخلاف مع الثورة ومن قاموا بها، أو أنهم تعمدوا أن يبعدوه عن الكتابة السياسية، لكن النقاش لديه تفسير أعتقد أنه منطقى إلى درجة كبيرة. 

يقول: «تفسير موقف العقاد ميسور، فقد تعود أن يشارك فى الحياة السياسية فى فترة الصراع الحزبى، حيث كان يستند فى معظم حياته السياسية إلى حزب من الأحزاب يؤيده ويعارض خصومه، وقد انتهت الأحزاب بعد الثورة، وكانت الثورة نفسها تخوض تجربة بعد الأخرى فى سبيل بناء تنظيمها السياسى، ومن هنا آثر العقاد الابتعاد تمامًا عن ميدان الحياة السياسية المباشرة». 

لم يأت النقاش على ما ربط بشكل مباشر بين العقاد وعبدالناصر فى كتابه، وأعتقد أن هذه مساحة يمكن أن ندخل إليها من خلال الوثائق والمواقف والوقائع التى جمعت بينهما. 

فعندما صدر كتاب «فلسفة الثورة» الذى سجل فيه جمال عبدالناصر مجمل أفكاره، فى العام ١٩٥٤، أهدى نسحة منه إلى العقاد، والإهداء كما هو بخط عبدالناصر يقول: «إلى الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد مع تقديرى»، والتوقيع جمال عبدالناصر فى ٦ يونيو ١٩٥٤. 

قرأ العقاد الكتاب وكتب مقالًا نشرته مجلة «آخر ساعة»، وهنا أضع المقال أمامكم كاملًا، فهو بمثابة الوثيقة التاريخية المهمة، فقد مضى عليه الآن ٧٠ عامًا، يقول العقاد فى مقاله:

«قرأت الصفحات الثمانين التى كتبها الرئيس جمال عبدالناصر فى كتاب (فلسفة الثورة)، فخرجت منها وأنا أعتقد أن الخلاف عليها أقل خلافًا فى مثل هذه الصفحات، وفى مثل هذا الموضوع». 

«صواب ولا شك أن الحركة المصرية لا توصف بأنها تمرد عسكرى، وصواب ولا شك أن الحاضر يعيش ببقية من مساوئ العهود الماضية، وهذا هو باب الأسف والأسى، ولكنه كذلك باب الأمل والعزاء، لأنه يدفع اليأس من النفوس إذا عولج، فلم يذهب به العلاج بين عشية وصباح، إذ لم يكن يمكن فى غمضة عين أن تزول رواسب قرون». 

«وصواب كذلك أن الشك آفة معطلة للجهود يشفع لأصحاب الشكوى ويعفيهم من عقاب لم يستحقوه وحدهم بعد أجيال وأجيال، ولكن العلاج المأمون نفسه هو الشفيع البليغ قبل شفيع الإنصاف».

«يقول السيد الرئيس جمال عبدالناصر: كان من السهل وقتها، وما زال سهلًا حتى الآن أن نريق دماء عشرة أو عشرين، أو ثلاثين، فنضع الرعب والخوف فى كثير من النفوس المترددة، ونرغمها على أن تبتلع شهواتها وأحقادها وأهواءها». 

«ثم يقول: ولكن أية نتيجة كانت يمكن أن يؤدى إليها مثل هذا العمل؟.. كان من الظلم أن يفرض حكم الدم علينا دون أن ننظر إلى الظروف التاريخية التى مر بها شعبنا والتى تركت فى نفوسنا جميعًا تلك الآثار». 

«نعم.. يكون ذلك ظلمًا، ويكون أكثر من ظلم، لأنه يصيب من لم يصبه العقاب فيضاعف داء الشك والحذر، ويبطل فائدة العلاج ويا بئس من عقباه». 

«على أن الصفحات الثمانين التى تحمل اسم «فلسفة الثورة» لا تنحصر بالقارئ فى حدود الأفق المصرى، وإن كانت لا تخرج به من آفاق المسألة المصرية فى أوسع حدودها، فالمصرى فى عصرنا هذا لا يهتم بوطنه حقًا إن لم تشغله علاقاته بثلاثة آفاق أو عوالم، لا انفصال لها من وطنه، وهى العالم العربى، والعالم الإفريقى والعالم الإسلامى من أقصاه إلى أقصاه، فأين نحن من العالم العربى؟ وأين نحن من العالم الإفريقى؟ وأين نحن من العالم الإسلامى؟» 

«نحن فى قلب كل عالم من هذه العوالم، فليس فى وسعنا أن نجهل علاقتنا بها ومستقبلنا معها». 

«يقول الرئيس جمال: إن نصف الاحتياطى المحقق من البترول فى العالم يرقد تحت أرض المنطقة العربية. فنحن أقوياء أقوياء». 

«ويقول: إننا لن نستطيع بحال من الأحوال حتى لو أردنا.. أن نقف بمعزل عن الصراع الدامى المخيف الذى يدور اليوم فى أعماق إفريقيا بين خمسة ملايين من البيض ومائتى مليون من الإفريقيين.. إننا فى إفريقيا، والنيل شريان الحياة لوطننا نستمد ماءه من قلب القارة». 

«ويقول الرئيس عن العالم الإسلامى: حين أسرح بخيالى إلى ثمانين مليونًا من المسلمين فى إندونيسيا، وخمسين مليونًا فى الصين، وبضعة ملايين فى الماريو، وسيام وبورما، وما يقرب من مائة مليون فى الباكستان، وأكثر من مائة مليون فى منطقة الشرق الأوسط، وأربعين مليونًا داخل الاتحاد السوفييتى، وملايين غيرهم فى أرجاء الأرض المتباعدة.. حين أسرح بخيالى إلى هذه المئات من الملايين الذين تجمعهم عقيدة واحدة أخرج بإحساس كبير بالإمكانيات الهائلة التى يمكن أن يحققها تعاون بين هؤلاء المسلمين جميعًا، تعاون لا يخرج عن حدود ولائهم لأوطانهم الأصلية بالطبع، ولكنه يكفل لهم ولإخوانهم فى العقيدة قوة غير محدودة». 

«وهذا كله صحيح فى الجملة والتفصيل، وليس الاهتمام به من طموح الشباب، كما يتخيل المتخيل الوادع فى عقر داره، بل أخشى أن أقول إنه من أعباء الشيخوخة قبل أوانها.. بل من همومها فى آبانها، أن كان حمل الهموم البعيدة وقفًا على الشيوخ».

«ماذا نصنع إذا جنى البترول على العالم العربى، فضيعه بدلًا من تزويده بأسباب القوة والمناعة؟ وماذا نصنع إن أصبحت إفريقية للمستعمرين الأوروبيين، ولم تصبح فى الغد القريب إفريقية للإفريقيين؟ وماذا نصنع إن تهدم معنى الحياة كما تمثله المادية الحيوانية، أو كما تمثله الحضارة الحسية، ولم نعتصم من التيار الجارف بعصمة شريفة تعمر نفوس الملايين، وترتفع بها من غمار الذل والاستكانة، أو غمار القنوط والحيرة؟... إنها فروض جسام، ولكنها فروض واقعة لا تهدأ ولا تنام». 

انتهى مقال العقاد الذى علق به على كتاب «فلسفة الثورة» ونفهم منه أنه كان يرى أن ثورة يوليو ١٩٥٢ كانت لازمة، وهو ما عبرت عنه أشعاره، وفى مقالاته القليلة التى كتبها فى أعقاب الثورة مباشرة. 

فى مقاله «الجيش وقائده» الذى نشره العقاد فى كتابه «دراسات فى المذاهب الأدبية والاجتماعية» يقول: وضح منذ سنوات أن دوام فاروق على العرش أمر مشكوك فيه، ولكنه كان شكًا يقترن ببعض الأمل فى الصلاح وبعض الحيرة فى المصير، ثم أخذ هذا الأمل ينقطع شيئًا فشيئًا، وأصبح السخط فى القلوب عاليًا على كل حيرة فى العقول، حتى إذا كانت الأسابيع الأخيرة من عهد المشئوم جرى ذكر الكوارث التى تتعاقب على الأمة فى مجلس يضم أكثر من عشرين مصريًا بين أديب وصحفى وأستاذ وطالب، فقال قائل: وما العمل، قلت: إنها الثورة لا محيص لنا منها، وليكن ما يكون، والحمد لله، جاءت الثوة ولم يمض شهران. 

ويرسم العقاد رؤيته للثورة، يقول: جاءت الثورة سلمية لم يسفك فيها دم، ولم يضطرب فيها حبل الأمور، وقد كان الخلاص من عهد فاروق ضرورة لا تستكثر عليها أن تقدم الأمة فى سبيلها على خسارة فى الأرواح والأموال، واضطراب الأمور شهورًا أو أكثر من شهور، فلما تكفل الجيش للأمة بالثورة التى كانت مطلوبة منها عوفيت من جرائرها وأهوالها وانتظمت الأمور فى سياقها وانجلى ملك مكروه من عرشه بأيسر من جلاء عمدة فى قرية صغيرة، ينصره أناس ويخذله آخرون. 

ويلمس العقاد قضية مهمة جدًا فى مقاله، وهى قضية تدخل الجيش فى السياسة واقترابه منها. 

يقول: وقبل أن يسأل السائل: وما للجيوش ولهذه الشئون؟ عليه أن يسأل: كيف كان الخلاص لو لم تخلصنا حركة الجيش من فاروق؟ 

ويشرح العقاد ما يقصده بقوله: إن فاروق قد نزل عن العرش وهو فى الثانية والثلاثين من عمره، فلو أنه بقى على العرش إلى نهاية أجله فلا يعلم إلا الله كم سنة تتعاقب على مصر وهى تنحدر من هاوية إلى هاوية، وتتقهقر من نكسة إلى نكسة، وتتهافت من خراب إلى خراب، وتتلطخ بوصمة بعد وصمة، ومن وصمات ذلك الفساد الذى جعلها مضغة فى أفواه العالمين، وأسقط الثقة بها فى حساب العروض والأعراض. 

ويضيف العقاد: أما إذا قدر له أن يخلع قبل نهاية أجله، فمن المستبعد جدًا أن يتفق ملوك الإقطاع الصغار على خلع ملك الإقطاع الكبير، وإنما يجىء خلعه بقوة أجنبية، تعصف باستقلال البلد أو بثورة شيوعية تعصف بكل خير فيه وتسلمه إلى الفوضى التى لا يدرى أحد متى تثوب إلى قرار، فإذا كانت ثورة الجيش قد عصمت مصر من إحدى هذه العواقب وكلها شر لا خير، فمن حقه بل من واجبه أن يدفع غائلة النكسة عن هذا الوطن، فلا يرجع إلى الهاوية التى لم يكد يخرج منها ولن تؤمن هذه النكسة مع بقاء نظام الإقطاع على شره الذى عهدناه، ولو عقل الإقطاعيون لسبقوا غيرهم إلى حمد الله على هذه النتيجة، فإنها حماية لهم فى آخر المطاف. 

ابتعد العقاد إذن عن السياسة، لكن هل ابتعد عن جمال عبدالناصر؟ 

هنا لا بد أن نضع أيدينا على ما جرى. 

فى العام ١٩٥٨ شهدت القاهرة مؤتمر الأدباء العرب، وفى ختامه طلب عدد منهم اللقاء مع عبدالناصر، فتواصل يوسف السباعى وحدد بالفعل موعدًا مع الرئيس فى قصر القبة، وقبل أن يدخل الأدباء لمقابلة الرئيس سأل جمال يوسف: هل الأستاذ العقاد موجود؟ 

يوسف السباعى

كان العقاد من ضمن وفد الأدباء بالفعل، وعندما تأكد عبدالناصر من وجوده ابتسم وهو يقول للسباعى: تخيل.. هذه أول مرة أشوف فيها الأستاذ العقاد. 

لم يكتف عبدالناصر بذلك بل قال للسباعى: كنت معجبًا بالعقاد، وتحديدًا فى الفترة التى خرج فيها على الوفديين وكان يكتب فى جريدة روزاليوسف، وقتها كان يؤيد الحلفاء فى مقالاته، واتهموه بأنه عميل لهم، لكن أنا أعتقد أن العقاد لا يمكن أن يكون عميلًا لأحد، إنه يكتب من رأسه وليس من رأس الآخرين. 

كانت هذه سمة أساسية من سمات عبدالناصر، عبر عنها بقوله: أنا لا أكره أن يكتب الكاتب فى أى اتجاه، بشرط أن يكون معبرًا عن رأيه وليس عميلًا لأحد، وهو ما يفسر لنا إعجابه بالعقاد رغم أنه كان يعرف تحفظاته على بعض سياسات الثورة، وتحديدًا فيما جرى فى التأميم والإصلاح الزراعى. 

عندما قابل عبدالناصر العقاد قال له: قرأت كتابك «ضرب الإسكندرية» وكانت نسخة نادرة من مطاريد المصادرة. 

كان عبدالناصر يقصد كتاب العقاد «ضرب الإسكندرية فى ١١ يوليو ١٨٨٢»، وهو الكتاب الذى كانت أخبار اليوم قد أصدرته للعقاد فى بداية العام ١٩٥٢، وحشد فيه أسرارًا عن كل من الخديو سعيد والخديو إسماعيل والخديو توفيق، وعن علاقاتهم بالاحتلال الذى حل بمصر، وهو ما رآه فاروق طعنًا فى أسلافه فأمر بمصادرة الكتاب، لكن يبدو أن عبدالناصر عثر على نسخة من الكتاب وقرأها. 

لم تكن هذه هى المرة الوحيدة التى قابل فيها العقاد عبدالناصر، بعدها بعام واحد ١٩٥٩، تم تكريم العقاد فى عيد العلم، بعد منحه جائزة الدولة التقديرية التى لم تكن تمنح إلا للجامعيين فقط، لكن العقاد حصل عليها تقديرًا لمسيرته الفكرية والأدبية. 

الصورة التى تسجل هذه اللحظة تظهر مدى الحفاوة التى قابل بها عبدالناصر العقاد، وبداية كلمة العقاد التى استهلها بقوله: فى هذه الهالة من حضرة الرئاسة السامية، تأكيد أن اللقاء كان وديًا يتناسب مع الاحترام المتبادل بين الكاتب والرئيس. 

لكن وكالعادة تناثرت الكتابات التى تشكك فيما جرى. 

تخيلوا أن هناك من يزعمون أن العقاد رفض من الأساس استلام جائزة الدولة التقديرية، وهو ما لم يحدث، ولا يزال كثيرون يرددون هذا الكلام الذى لا أساس له من الصحة على الإطلاق. 

وتخيلوا أن هناك من ذهب إلى أن عبدالناصر أوحى لمساعديه أن يضعوا منضدة عريضة تفصل بينه وبين العقاد، حتى يضطر الكاتب الكبير إلى الانحناء عند مصافحة الرئيس، وهو أيضًا ما تنفيه الصورة التى تسجل لحظة التلاقى بينهما. 

ولا أدرى كيف تجاهل من يحاولون تصنيع صورة بعينها للعلاقة بين العقاد وعبدالناصر ما قاله الكاتب الكبير فى توصيف ما يراه أمامه وقتها، حيث قال: تلك هى جمهورية الفكر خير قرين لجمهورية الحكم. 

وهنا أجدنى مرة أخرى أمام أنيس منصور وجهًا لوجه، وهو يحاول تشويه ما جرى بين العقاد وعبدالناصر فى احتفال عيد العلم ١٩٥٩. 

يمنح أنيس نفسه هنا مساحة جديدة للدس والافتراء. 

يقول: أرسل لى الأستاذ العقاد بالكلمة التى سوف يلقيها فى الاحتفال أمام الرئيس جمال عبدالناصر، وكانت كلمة جميلة، وطلب منى أن يكتبها أحد على الآلة الكاتبة، وبخط كبير، ولاحظت أنه لم يبدأ كلمته بتحية السيد رئيس الجمهورية والوزراء وضيوف مصر فى هذه المناسبة الأدبية الكبرى، ولم أشأ أن أنبه الأستاذ إلى أنه قد نسى أو تجاهل وجود الرئيس، ولكن أبلغت من فى يدهم الأمر، ولم يحاول أحد أن يقول للأستاذ شيئًا، وجاء يوم الحفل، ولا أعرف كيف سيكون الموقف، وهو موقف صعب، ولكن الأستاذ العقاد لا يهمه، ولا بد أن لديه أسبابًا قوية لهذا التجاهل المتعمد. 

ويصف أنيس ما جرى فى الحفل، يقول: لاحظنا أن الميكروفون الذى كان يتكلم فيه الأستاذ قصير جدًا، أى أن الأستاذ لا بد أن ينحنى تمامًا لكى يبلغ مستوى الميكروفون، والنتيجة أن صوت الأستاذ لم يكن واضحًا، بل إننا لم نعرف بالضبط ما الذى قاله، لا نحن ولا جمال عبدالناصر، فالأستاذ يتكلم من أعماق حنجرته وبسرعة، وحمدنا الله على أن هذه المصيبة مرت بسلام، أو خيل إلينا ذلك. 

لم تتوقف رواية أنيس عند هذا الحد، أضاف إليها ما يخدم فيما يبدو هدفه وهو التأكيد أن العلاقة بين العقاد وعبدالناصر لم تكن كما ينبغى. 

فعندما استضاف برنامج «مع الخالدين» العقاد بعد حصوله على الجائزة، سأله مقدم البرنامج: يا أستاذنا العظيم.. أنت فزت بجائزة الدولة التقديرية... وأريد أن أعرف شعورك؟ 

فرد العقاد- كما يروى أنيس- بقوله: إنه شعور بالامتنان... فهذه الجائزة أخذتها من الشعب على يد الحكومة. 

ليس لدينا تسجيل صوتى نؤكد من خلاله أو ننفى ما جرى، لكن يبدو أن أنيس منصور كان حريصًا على رسم صورة معينة لما ربط بين العقاد وعبدالناصر، ولم يكن هدفه من ورائها إلا التأكيد أن العقاد لم يكن راضيًا لا عن ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ ولا عن عبدالناصر، وهو ما يتناسب مع اتجاهاته بعد أن أصبح حليفًا كاملًا للرئيس السادات، وهو الحلف الذى ظل مخلصًا له حتى وفاته.

العقاد وعبد الناصر وجهًا لوجه

28-13
28-13
28-14
28-14
28-15
28-15