بلالين بنى آدمين.. ثقافة وسياسة ونطاقات أخرى
هل أصبحنا متأثرين بـ«بلالين بنى آدمين».. هل صار المثقفون لدينا مش مثقفين، هل صار السياسيون مش سياسيين، هل حدث لنا تسرب لهؤلاء «البلالين» فى مواقع وظيفية، ويتخذون القرارات، فنحللها، وهى خارجة منهم بحكم الوظيفة، لا بحكم الفلسفة والرؤية، والعلم، والتقييم، هل صارت لدينا نخبة «بلالين»، تلك النخبة التى خرج كثير منها من تبعات ٢٠١١ دون فرز حقيقى ومنطقى، فلم يمروا على مراحل السن المتراكمة فى الخبرات، ولم يذهبوا لـ«مدرسة السياسة» إلا بواسطة قراءة الجرائد، ونزول الميادين، وامتلأت بهم فضاءات السوشيال ميديا وأصبح لهم صفة دون حيثية حقيقية.
وحتى لا نتوه فى المصطلح، فكلمة «بلالين بنى آدمين»، تعبر عن شخصيات يكون لديها إشباع داخلى مزيف بأن لديهم علمًا وقيمة، حتى صار جوفهم مملوءًا بـ«بلالين» المعلومات، التى لا أصل لها ولا قيمة، وبالتالى فهم ينهارون فى أقرب مواجهة، لأن ما بداخلهم ليس يقينًا، بل هو إحساس مزيف بأن لديهم شيئًا، وهؤلاء «البلالين» امتلأت بهم الساحات، فشغلوا كثيرًا من المواقع، وصارت لهم حيثيات وصفات، وهم بلا مقدرة حقيقية على إجراء أى مواجهة واضحة، بل إن الاقتراب منهم سيجعلهم إما متحفزين ومسفهين، أو ينهزمون وينسحبون، وبالتالى تضيع معضلة الصورة، لأن طرفًا فيها ليست له أى قيمة حقيقية، أو تدرج تراكمى متأن، وتلك البلالين ليست وسيلة عابرة، بل هم سياق موجود، يملأ ويشغل الجميع، فلا بضاعة لديه غير التشويش والنقل و«الصوصوة» والقيل والقال، حتى إنهم يسحبون أصحاب القشرات الضعيفة لمساحتهم، فانهزامهم مع كثرتهم يجعل صاحب القيم الضعيفة يختل، وربما يجاريهم فى دناءتهم.
أتذكر أنى كتبت مقالًا، منذ عامين، حول فكرة النفوس الجائعة التى لا تشبع، وجاءتنى عشرات الرسائل الخاصة، كل منها يقول هل تقصد فلان؟ هل تقصد علان؟ وكنت قد كتبت وقتها بأن إحساس الشبع فى حد ذاته، ليس إحساسًا يتولد نتيجة للأكل والشرب، فالهدف من فكرة الشبع نفسها، هو أن تمتلئ الروح بالمضمون الذى يغنيها عن كل شىء، لذلك هناك نفوس مهما علا شأنها، هى نفوس جائعة، وشرهة لكل مسار أمام أعينها، أو كما يقول المثل الشائع: «اللى متعود إنه ياكلك، كل ما يشوفك يجوع»، وتلك السياقات هى التى ترهق الجميع، فالهدف من المقال وقتها كان يرصد حالة الزيف المجتمعى فى أوساط النخبة الموجودة، ورغم أن هناك شخصيات حقيقية لديها قيم متراكمة، ومنهج ورؤية، إلا أن هناك تجمعات تزخر أكثر من غيرها بثقافة «بلالين البنى آدمين»، لذلك يجب أن يحدث الاشتباك ويستمر، فربما يكون بعض من هؤلاء المنتفخين لديهم قماشة يمكن البناء عليها، بدلًا من تركه أسيرًا لدمامل النفس، لذلك فالاشتباك هو المسار الوحيد الذى يفرز الأقمشة، ويصنع النخب الحقيقية، لذلك كتبت هذا المقال تحديدًا فى «حرف»؛ لأن لديها مساحة الاشتباك الحقيقية فى الوسط العام، ويترأسها شخص «مشتبك» بطبيعته، ولديه من الجودة والمضمون ما يجعله مؤهلًا لمعظم المعارك والاشتباكات.
وعودة لفكرة «فوارغ البنى آدمين»، فقد ظهرت تلك الشخصيات الهيكلية، لتعبر عن فكرة «الجسد بلا معنى»، فلا تقدم شيئًا يذكر، أو تطويرًا فى الحد الأدنى، بل إنهم مع الوقت يصبحون عبئًا إضافيًا على من دفع بهم نحو تلك الحيثية، ويعملون على تشويش أصحاب المضامين الفعلية فى عملهم، فيصير أصحاب المضامين السليمة والسوية، فى موقع الانشغال بالقيل والقال، بدلًا من الفعل والعمل، وهذه رحلة من صناعة تيه النفوس، الذى يصنع دولًا وأممًا غير مهتدية لطريقها، لأن تلك الانشغالات انشغالات سرية لا تحمل معنى الاشتباك كما قلنا، بل هى اشتباكات انهزامية تسحب المضمون لأسفل، بدلًا من ملء النفوس التى تصلح لتكون لديها المساحة المعتدلة.
وفكرة بلالين البنى آدمين فكرة جوهرية، يجب الانتباه إليها، لأنهم فى دائرة تتوسع بشكل غريب، ومع الوقت تتوسع دائرة «البلالين»، وتتداخل مع دوائر أخرى، وبدلًا من الانشغال بمسار جديد، أو حتى الاطمئنان لمسار قائم، تصبح كل المسارات ملتهبة، لأن هؤلاء لديهم شراهة فى غاية السوء، وبعض منهم لديه تخطيط فى كيفية المزاحمات، ويعتقد كليًا أن لديه قيمة ومضمونًا، وهو فى الأصل «بلونة»!.
وأخيرًا.. هل نحتاج لفتح مساحات اشتباك واسعة فى الثقافة والسياسة والفن والرياضة؟ وهل نحتاج لنزول القوى العامة للميدان لصناعة نخبة نطمئن لها، وتكون البلد أمانة فى أيديهم، أم أن الطريق ما زال به مسارات أخرى لا ندركها؟