الدولة فتحت كل نوافذها... فلماذا يقف المثقفون بعيدًا؟
لم يكن ما كتبتُه فى هذه الزاوية الأسبوع الماضى اتهامًا للمثقفين.
لم أخطط لإدانتهم بأنهم تركوا الدولة المصرية وحيدة فى مواجهة جحافل الإرهاب، فلم يقفوا الوقفة التى تليق بهم أمام جيش الظلام، الذى كان يزحف بقوة على كل شوارع المدينة.
لم أقصد الانتقاص من قدرهم، وأنا أشير إلى تقصيرهم فى الدفاع عما أنجزته الدولة فى مشوار التحديث الكبير.
كنت فقط أرسم صورة لواقع، لدىَّ عليه الكثير من الشواهد.
وكعادة المثقفين المصريين، يتجاوزون الواقع بحثًا عن الأسباب، بصرف النظر عن النتائج، وهى نتائج لم تكن أبدًا فى صفهم، فقد شهدنا غيابًا كبيرًا لهم ولدورهم، ولو أردتم الحقيقة العارية سأقول لكم إننا وجدنا حضورهم سلبيًا، ووجودهم يفتقد الروح والرؤية والبصيرة.
على هامش ما كتبت، جرت نقاشات مع عدد من مثقفينا الكبار، اتفقوا على أنهم لم يغيبوا، لكن تم تغييبهم عمدًا، لم يلتفت لهم أحد، ولم يَستدعهم أحد، وهو ما جعلهم يشعرون بأنهم غير مرغوب فيهم، غير مُقدَّرين، لا مكان لهم، أحدهم قال لى: كنا مستعدين لكل شىء من أجل المشاركة فى انطلاقة الدولة القوية، لكن لم يطلب منا أحد شيئًا.
هنا تحديدًا تكمُن المشكلة وتسكن.
إننا أمام حالة لبس مكتملة بين الدولة والمثقفين، وهى حالة مُعقدة ومتشابكة ومتشعبة، يسيطر عليها القلق، والترقب، والتربص.
لقد قالت الدولة ما لديها بوضوح.
لم يكن لديها شىء تخفيه.
فعلت ذلك عبر خطابها المُعلن على لسان الرئيس، وفعلته أيضًا فى الاجتماعات المغلقة التى شارك فيها المثقفون والمفكرون، وجلست تنتظر ما الذى سيقوم به مَن بأيديهم رايات الفكر والوعى، والأخذ بيد الناس إلى بر الأمان، بعيدًا عن حملات التشويه والتشويش والأخبار المفبركة والأفكار المغلوطة والفلسفات المضللة.
فى ظنى أن مشكلة المثقفين مع الدولة تتجسد فى حقيقة واضحة أمامى على الأقل، فهم جلسوا ينتظرون ما الذى تريده منهم الدولة، وعندما عرفوا واصلوا الجلوس ليعرفوا منها كيف يفعلونه، رغم أن هذا هو دورهم، ولمَّا لم يقل لهم أحد كيف يقومون بدورهم اعتقدوا أن الدولة تستبعدهم، أو أنها لا تريد أن تستعين بهم فى شىء، وهو ما ليس حقيقيًا، ولا منطقيًا، ولا واقعيًا أيضًا.
لقد فهم المثقفون ما أراده الرئيس عندما قال إن عبدالناصر كان محظوظًا بإعلامه، على أن الرئيس يريد إعلامًا تابعًا، وفكرًا خانعًا، وإبداعا ذليلًا، وهو لم يكن صحيحًا.
كان يريد، فيما أعتقد، حالة الالتفاف حول الدولة، وهى حالة قام بها المثقفون فى عهد عبدالناصر من خلال: الصحافة، والسينما، والمسرح، والرواية، والشعر، والفن التشكيلى، والموسيقى، والغناء.
كان الجميع على موجة واحدة، وكان المثقفون يبادرون بما لديهم، وحتى مَن قاموا بنقد التجربة فعلوا ذلك من داخل الدولة، كانوا يريدون إصلاحًا لا هدمًا، وكانوا يرغبون فى تصحيح المسار لا الانحراف به، وكانوا يعملون على دق كل الأجراس للتنبيه، وليس للإزعاج.
لقد خسرنا جميعًا بسبب هذه الحالة من اللبس التى دخلناها، ربما بسوء فهم، وأحيانًا بسوء تقدير، ومهما كانت تبعات ما حدث، فإننا الآن نحتاج إلى أن نكون صفًا واحدًا، فالدولة الآن تواجه تحديات وجودية، وما الأزمة الاقتصادية الطاحنة إلا بعض من تجليات هذه التحديات.
ليس من الحكمة أن نبكى ونتباكى على ما فات.
فأمامنا ما نستطيع أن نمسك به، لقد فتحت الدولة نوافذها من جديد من خلال الحوار الوطنى، الذى مهما اختلفت حول إيقاعه أو نتائجه، إلا أنه كان ولا يزال خطوة إلى الأمام، وليس على المثقفين المصريين إلا أن يحجزوا أماكنهم فى مسيرة لا تلتفت إلى الوراء.. لأنهم لو واصلوا ركونهم إلى الراحة فلن ينتظرهم أحد.. وساعتها لن يستمع أحد إلى لومهم، أو عتابهم، أو شكواهم... بل لن يشعر أحد بأنهم موجودون من الأساس.
الباز