السبت 23 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

رأس الحكمة التى يفتقدها المثقفون.. ماذا علينا إذا لم يفهم البقر؟

افتتاحية العدد التاسع
افتتاحية العدد التاسع من حرف

يشغلنى طوال الوقت سؤال كبير ومتشابك وربما معقد عن ماهية المثقفين فى بلادنا.

من وقت لآخر أجدنى أسأل نفسى: كيف يرى المثقف المصرى نفسه؟

ما هى ملامح الصورة التى يحب أن يكون عليها، يعرفه بها الناس ويتعاملون معه على أساسها؟

هل هو المواطن الأكثر إيجابية من الآخرين لما يتوفر له من معارف وفهم ربما بأكثر مما يتوفر للآخرين، فيسهم فى حركة المجتمع دافعًا به إلى الأمام؟

أم هو المواطن المعتصم بمعرفته لا يكف عن الحديث الذى يحاكم به الجميع رافضًا ومنتقدًا كل ما يدور حوله، وبذلك يصبح مجرد مواطن سلبى خامل، لا يشارك فى حركة تطور المجتمع، بقدر ما يتحول إلى عبء عليه؟

هل هو المواطن الذى يعمل ما يجيده فيحصل على ما يحفظ له كرامته بما يجعله مستقلًا، يقول ما يراه لا ما يريده الآخرون؟

أم هو هذا التابع الذليل الذى ينتظر لقمة عيشه من يد السلطة أو رجال الأعمال أو حتى دوائر خارجية مشبوهة، فيصبح ما يقوله مجرد ترديد لما يدعيه الآخرون، فيتحول إلى كائن هش لا قيمة له؟

هل هو المواطن المتواضع الذى يمنحه علمه قدرة على أن يحتوى الآخرين ويتعامل معهم على قدر ما يطيقون؟

أم المواطن المغرور المتعالى الذى يعتقد أنه يعرف ما لا يعرفه الآخرون، ويفهم ما لا يفهمه الآخرون، ولذلك فليس على الجميع إلا أن يسمعوا له ويطيعوا، صانعًا بذلك من نفسه كهنوتًا مقيتًا يعقد حياة الناس ويسود لهم وعليهم عيشهم؟

هل هو المواطن الموضوعى، الذى تمنحه معرفته القدرة على الوصول إلى الرأى الصحيح، فيجاهر به دون حسابات؟

أم هو المواطن الذى يعرف الحق لكنه يحجبه بسبب موقفه السياسى أو اتجاهه الفكرى أو انتمائه الحزبى؟

هل هو المواطن الذى يدرك أن دوره هو تنوير مجتمعه وفتح شرايين التفكير أمامه حتى يصبح أفضل مما هو عليه؟

أم هو المواطن المضلل الذى يمارس ألاعيب التلوين والحذف والإضافة حتى يقود شعبه إلى الهلاك، وهى قيادة مدفوعة مسبقًا من قبل أصحاب الأهواء والمصالح؟

هل هو المواطن الذى يجعل منه الخلاف فى الرأى مخلوقًا ذميمًا مشوهًا كارهًا لكل ما حوله ناقمًا على وطنه، ليس إلا مجرد طاقة شر تحطم كل ما يقابلها؟

أم هو المواطن الذى حتى ولو كان غاضبًا من بعض ما يراه فى وطنه إلا أنه يظل منتميًا إليه مخلصًا له يردد مع الشريف قتادة أبوعزيز، الذى تولى إمارة مكة عام ٥٩٧ هجرية، قوله: بلادى وإن جارت علىّ عزيزة/ وأهلى وإن ضنوا علىّ كرام.

هل هو المواطن الذى يحسب علاقته بوطنه بمقياس الانتماء الكامل فى السراء والضراء؟

أم هو المواطن الذى يتعامل مع وطنه مثل اليويو، فهو بالنسبة له مجرد سبوبة، إذا ربح غنى له، وإذا خسر غنى عليه؟

فرضت كل هذه التساؤلات نفسها علىّ بإلحاح وأنا أطالع ما كتبه واحد من المثقفين المصريين الكبار، على الأقل هو كذلك بحكم الدراسة والخبرة والعطاءات المستمرة خلال السنوات الماضية.

على حسابه بمنصة «x» كتب أستاذ العلوم السياسية مأمون فندى، الذى يعمل أستاذًا فى جامعة «جورج تاون» ويدير برنامج الشرق الأوسط وأمن الخليج للدراسات الاستراتيجية بلندن الآتى:

«على عكس الجميع أنا لست ضد البيع، فقد تجاوزت الستين من العمر ولم أحس أن لى فى مصر شيئًا سوى بيتنا فى الصعيد، باستثناء ١٨ يومًا أثناء ثورة يناير، والتى أحسست فيها بمصريتى ونما فى عروقى تيار متردد من الوطنية، سرى فى جسدى إحساس بأنه ربما يكون لى فى البلد سهم كشريك فى شركة جامعة اسمها الوطن، الـ١٨ يومًا كانت فاصلًا إعلانيًا من الحرية فى تاريخ طويل من الاستبداد، ولذلك لا أريد أن أعيش فى وهم أن لى فى البلد شيئًا وأحرق دمى على أرض تباع وكأنها جزء منى، فهذا ليس صحيحًا، فهو خداع الذات فى أنصع صورة وضوحًا، بيعوا فربما يكون المالك الجديد أكثر حنية على الأرض التى سيطر عليها الساكن السابق بدون سند ملكية ولكن بوضع اليد».

اسمح لى أن أقطع عليك الطريق، فقد تعتقد أننى سأشن هجومًا على مأمون فندى بسبب ما يقوله ملمحًا وغامزًا ولامزًا فى مشروع تطوير رأس الحكمة، وهو المشروع الذى أعلن عن تفاصيله رئيس مجلس الوزراء فى مؤتمر صحفى شهده الجميع، وقد تظن أن حديثى سيكون فى السياسة وما تقتضيه، أو عن الدكتور مأمون فندى وما يستحقه.. وهو فى الحقيقة يستحق الكثير.

أعدك أننى لن أفعل شيئًا من ذلك.

فلن أحدثك عن مشروع تطوير «رأس الحكمة»، ولكنى سأحدثك عن «رأس الحكمة» التى يفتقدها عدد كبير من المثقفين المصريين، وما مأمون فندى إلا واحد من بينهم.

لقد تعلم مأمون فندى جيدًا ودرس جيدًا، وقدم للمكتبة العالمية والعربية مجموعة من الدراسات المهمة، ويشارك فى المجال العام ليس فى مصر فقط ولكن على المستوى العالمى، من خلال كتاباته وحواراته ومداخلاته بوسائل الإعلام المختلفة، وكانت له محاولة هنا فى مصر فى بدايات العام ٢٠١٤ لتقديم برنامج فى التليفزيون المصرى اختاروا له اسم «على اسم مصر»، لكنه خرج من البرنامج بعد شهور لأسباب يعلمها هو جيدًا، وإن كنت أعتقد أنه خرج من البرنامح لأنه لم يحقق نجاحًا يذكر، وكان من الطبيعى إبعاده.

وقبل أن أقول لكم ما الذى أريده، واستدعاه بقوة ما كتبه مأمون، سأضع أمامكم وأمامه تعليقًا كتبته مُتابعة له- وهى مواطنة يمنية- تقول: هل لازم يكون معى أرض فى وطنى أو مصلحة عشان أحبها، أنا فى اليمن ولا أرض لى ولا بيت ولا حتى راتب حكومى، لا قبل الثورة ولا بعدها، ورغم ذلك أحبها.

باستخفاف شديد ربما يفتقد إلى أى مستوى من مستويات اللياقة رد فندى على صاحبة التعليق بقوله: مش وحش.

ولا أدرى كيف تنظر هذه المُتابعة للدكتور مأمون الآن.

فحتمًا كانت تعتبره رمزًا من رموز الثقافة والسياسة العرب، ولهذا تابعته، أما وهو يتعامل بهذه الخفة مع وطنه، ويكتب عنه هذا الهراء، فمؤكد أنها أعادت النظر فى تقييمها له، كما فعل ذلك كثيرون من قبل.

مأمون فندى 

مأمون فندى واحد ممن أطلق عليهم أرامل 25 يناير من المثقفين.. هؤلاء الذين جاءوا من كل فج عميق ليركبوا الثورة التى شارك فيها المصريون بحسن نية

الوطن بالنسبة لكثير من المثقفين- وأقول هذا آسفًا بالطبع- ليس أكثر من مشروع تجارى، النظر إليه يقاس بمقدار الخسائر والمكاسب.

وقد تسألنى: وما الذى خسره مأمون فندى لتصبح هذه هى الروح المسيطرة عليه وهو يتحدث عن مصر، فهو لا يريد أن يعيش فى وهم أن له شيئًا فى البلد ويحرق دمه على أرض تباع وكأنها جزء منه؟

سأقول لك ببساطة إن مأمون ألمح إلى ما خسره، فهو واحد ممن أطلق عليهم أرامل ٢٥ يناير من المثقفين، وهم بالمناسبة كثيرون، هؤلاء الذين جاءوا من كل فج عميق ليركبوا الثورة التى شارك فيها المصريون بحسن نية دون معرفة منهم أن هناك من يخطط ويدبر ويحيك المؤامرات ليقود البلد فى الجهة التى يريد ويحقق من ورائها المكاسب التى يشاء.

هؤلاء الأرامل- وفندى منهم- كانوا يعتقدون أنهم سيكونون فى صدارة الصورة، الثورة ستضعهم فى المكان الذى يعتقدون أنهم يستحقونه، سيجلسون على قمة المؤسسات الثقافية والإعلامية، ويصبحون وحدهم من يصيغون سياسات البلد ويضعون له أولوياته، بل ويحددون من يحكمه، وقد عادوا إلى مصر على أمل أن يتحقق لهم ذلك، لكنهم فشلوا فى تحقيق أى شىء على الأرض.

لدىّ كثير من كواليس مشاركة مأمون فندى فى تقديم برنامج «على اسم مصر» على القناة الثانية المصرية، وهو برنامج كان يعتقد أنه سيكون منصة لصياغة الرأى العام كما يريد، وكان يظن فى نفسه أنه قادر على ذلك، لكنه فشل تمامًا فى الوصول إلى الناس، فهو رغم علمه الغزير، أدامه الله عليه وبارك له فيه، لا يجيد التواصل مع الناس ولا يملك القدرة على تقديم ما لديه للجمهور.

يستطيع مأمون أن يتحدث كثيرًا عن الإعلام وسياساته وهندسته، يستطيع أن يقدم دراسات مهمة عن مقاصد الإعلام وشروط الإعلاميين، ويستطيع أن يقيّم من يعملون فى الإعلام ويصنفهم وينتقدهم، لكنه فى النهاية لا يملك القدرة ليكون إعلاميًا ناجحًا، فالأمر يحتاج إلى قدرات لم ينعم الله عليه بها.

قد تكون هذه المساحة فى حياة فندى هى سبب المرارة الشديدة التى تسكن حلقه، والتى يتحدث منها عن الإعلام المصرى وما يحدث فيه، تجربته الفاشلة تطارده، ولذلك يريد أن يجعل الآخرين مثله، حتى يرتاح إلى أنه ليس وحده الفاشل ولكن الجميع كذلك، وهى حيلة نفسية نعرفها جيدًا، ولذلك يتبدد كل ما يقوله عن الإعلام المصرى فى الهواء دون أن يكون له أدنى أثر.

لقد اختار فندى أن يعيش فى عزلة بحثية، ولا يمكن أن ألوم عليه ذلك، فهو لا يجيد غيرها، لكنه لم يكتف باختياره، فمن آنٍ إلى آخر يريد أن ينزل بقدميه إلى شوارع المدينة، ورغم إدراكه أن ما يملكه لا يهم أحدًا ولا يشغل أحدًا، فإنه يمارس هوايته فى التعالى الثقافى- إذا جاز التعبير- فلا أحد يفهم طرحه لأن يعتقد أن الجميع جهلاء.

ما كتبه مأمون فندى بالغمز واللمز فى مشروع «رأس الحكمة» يكشف عورته الكاملة ويضع أيدينا على عيبه وعيب كثير من المثقفين المصريين، فطالما أنه لا يحقق شيئًا ذاتيًا يصب فى مصلحته الخاصة فلا بد من هدم المعبد على رءوس الجميع، ولا يهمه وهو يفعل ذلك أن يمارس أحط أنواع التضليل والإفك والافتراء وقلب الحقائق.

لم ينشغل مأمون فندى وهو يكتب ما كتبه بأن يظهر كمجرد جاهل لا يعرف الفارق بين البيع والاستثمار المباشر، ولم يهتم بوضع نفسه فى خانة المضللين الذين يعرفون قيمة المشروع ولكنهم يطعنون فيه لمجرد أن يشوهوا شيئًا إيجابيًا يحدث على أرض مصر، لأنهم لا يريدون أن يكون هناك شىء إيجابى على الإطلاق.

لا أهتم فى حقيقة الأمر بتحركات مأمون فندى فى دوائر بعينها، ولا وضع كتاباته فى خدمتها والتسبيح بحمدها، يرى فى كل ما تفعله إنجازًا أسطوريًا، فى مقابل هدمه لكل ما يحدث فى مصر، فهذا أمر يخصه، وليبارك له الله فى كل ما يحصل عليه من أموال طائلة، تزيد أرصدته فى البنوك لكنها تقلل من احترام متابعيه له، لكننى أهتم بما هو أكبر، إذ كيف يتحول المثقف المصرى إلى مطية يرخى ظهره ليركبه من يدفع له، فهذا مرة أخرى اختياره وهو حر فيه، فوحده من يحاسب عليه، ووحده من يجنى ما زرعته يداه.

يتفاخر مأمون فندى بانتمائه إلى الصعيد ولو كان منصفًا لأدرك أن الصعيد يتبرأ منه ومن ضلالاته.

 

كان يمكننى أن أقبل من مأمون فندى كمثقف كبير له إسهاماته المهمة فى العلوم السياسية أن يتحدث عن مشروع تطوير «رأس الحكمة» بموضوعية، يقول لنا ما يأخذه عليه، يتحدث عن إيجابياته وسلبياته، يرصد ما يعتقد أنه خطر يأتينا منه، لكن أن يضع عنوانًا كبيرًا للمشروع على أنه مجرد عملية بيع، فهذا يحوله إلى واحد من اللجان الإلكترونية التى تستأجرها جهات بعينها لطعن كل ما تقوم به مصر، وهى مراهقة سياسية وثقافية أعتقد أنها لا تليق بالدكتور الذى يريد منّا أن ننزله المنزل الذى يستحقه.

الوطن بالنسبة لكثير من المثقفين- وأقول هذا آسفًا بالطبع- ليس أكثر من مشروع تجارى النظر إليه يقاس بمقدار الخسائر والمكاسب

إننى لا أخشى على مصر من هؤلاء الذين يتحدثون عنها بالحقائق، ولكنى أخشى من هؤلاء الذين يمارسون تضليلًا ممنهجًا، يستخدمون خلاله كل أدواتهم لتحقيق أهدافهم، معتقدين أنهم يفهمون أكثر من الآخرين، وأنهم قادرون على إقناع الآخرين بما لديهم، رغم أن مُتابعة تعيش فى اليمن، تعرف جيدًا قيمة أن يكون هناك وطن آمن ومستقر لأنها تفتقد ذلك، أهالت التراب على كل ما كتبه بتعليق بسيط وصادق.

لقد اعتقدت أن المثقف الكبير يمكن أن يراجع نفسه بعد أن يقرأ تعليق المواطنة اليمنية، لكن أخذته العزة بالإثم فسخر منها، بما يؤكد أنه يصر على السير فى طريق التضليل الذى لن يفضى به إلى شىء، فما قيمة أن تربح من الدوائر التى تخدمها مال الدنيا وأنت تخسر نفسك وتضع بينك وبين وطنك حاجزًا وتبنى سورًا مرتفعًا يحجب عنك الرؤية الصحيحة؟

يتفاخر مأمون فندى بانتمائه إلى الصعيد، يشير إلى بيته الذى يملكه هناك، ولو كان منصفًا لأدرك أن الصعيد يتبرأ منه ومن ضلالاته التى يمارسها وهو واعٍ تمامًا لذلك.

لقد بدا لى مأمون فندى، الذى لا أنكر كفاءته العلمية ولا أتجاهل قدراته البحثية، ضمن الفريق الذى كلما قلنا له «تور» يقول لنا «احلبوه»، وهو فريق لا يهمنا ما يقول، لكن يشغلنا أن نضعه فى حجمه تمامًا، فقد أسقط أصحابه أنفسهم من خارطة الوطن، وهؤلاء لا نبكى عليهم، بل نتركهم ليبكوا على أنفسهم.. هذا إذا كانت لديهم القدرة لأن يفعلوا ذلك، وهؤلاء لا يليق بهم إلا ما قاله الشاعر عبدالله بن طاهر: علىّ نحت القوافى من معادنها/ وما علىّ إذا لم تفهم البقر.