الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

توفيق الحكيم: العرب يعيشون بعقلية الأضرحة المقدسة

توفيق الحكيـم
توفيق الحكيـم

- أشاهدُ أعمالى الأدبية فى السينما كمشاهد محايد

- أوروبا تحذفنا من خريطة الحضارة.. ومَن يهز وسطه ينال أضعاف مَن يهز عقله

- ورثتُ البخل والسخرية عن والدى.. ومن مصادر إلهامى الحب من طرف واحد

- أدخلتُ مسرح «اللا معقول» فى مصر لإيمانى بوجوب الانفتاح على جميع المدارس الفنية

- زعيمات الحركات النسائية ألصقن بى لقب «عدو المرأة».. والأدب يستخدمُ الصحافة بشروطه وليس العكس

بين أيدينا الآن إصدار فريد من نوعه من ناحية القيمة الثقافية والمعرفية، وهو كتاب «صهوات الخيول» الذى يحمل بين دفتيه مجموعة حوارات أجرتها الكاتبة الصحفية الكويتية فاطمة يوسف العلى، مع مجموعة من عمالقة الشعر والرواية والقصة القصيرة والفنون التشكيلية، وأعدته وقدمته الكاتبة فاطمة ناعوت.

إعداد هذا الكتاب استدعى مجهودًا كبيرًا من الكاتبة فاطمة ناعوت من أجل إعادة استخراج نصوصها من أوراق الجرائد القديمة وهى مهمة شاقة فى ظل أن كثيرًا من الجمل قد تعرضت للفقد والشطب مع اهتراء الأوراق وعوامل الزمن، لذلك يعد الكتاب بمثابة إعادة إحياء لكنوز صحفية كانت مخبأة فى الأدراج مع إعادة تقديمها للقارئ العربى فى أبهى صورة.

واختارت «حرف» أن تقدم لقرائها الأعزاء فصولًا من هذا الكتاب تنشر بشكل دورى مع أعداد الجريدة المتوالية، وهذه المرة نتوقف مع حوار لتوفيق الحكيم.

■ ما هو ردك على الحملة التى أُثيرت ضد كتابك الجرىء «عودة الوعى» الذى انتقدت فيه «جمال عبدالناصر»؟

- الحملة التى أثيرت ضد كتاب «عودة الوعى» مبعثُها الصدمة التى أصابت الكثيرين من رؤيتهم أن فى الإمكان مساءلة «عبدالناصر» وطلب معرفة الحقيقة عن الفترة التى حكم فيها بمفرده حكمًا مطلقًا وأدت إلى هزيمة ١٩٦٧. فقد كان «عبدالناصر» فى نظر الكثيرين قد أصبح «أسطورة مقدسة» فوق كل محاسبة أو مساءلة، ولذلك اعتبروا أن مجرد طلب فتح ملف هذه الفترة من حكمه هو هجوم شرس عليه. فى حين أن هذا الكتاب لم يهاجم شخصه، ولم يتعرض لخصوصياته، ولم تظهر فيه أى كلمة تجريح لتصرفاته الخاصة بعيدًا عن مجال وظيفته كحاكم مسئول عن مصير بلده. ولكننا فى الشرق العربى لم نزل نعيش بعقلية «الأضرحة المقدسة» «التى ترفض مساءلة المقدسين». وبذلك تحول هذه العقلية دائمًا بيننا وبين معرفة الحقائق وتقضى على كل محاولة لنقل الشرق العربى من مرحلة «المجتمعات العاطفية» إلى مرحلة «المجتمعات العلمية» التى تفرخ فيها العلوم والمعارف الضرورية للتقدم. ولذلك كان هذا الكتاب «عودة الوعى» ضروريًّا فى مجاله لإحداث الصدمة الكهربائية الأولى التى توقظ العقول الراكدة؛ لكى نترك العاطفية قليلًا ونتجه إلى المراجعات العقلية عندما تكون مصائر الأمم فى الميزان. ولقد كان لنا فى رسول الله صلوات الله عليه أسوةٌ فى طلب المشورة والمراجعة. وكان يقوم له من بين الناس مَن يجادله ويراجعه. بل إن شخصه أيضًا وخصوصياته العائلية كانت موضع حديث الناس كما حدث فى «حديث الإفك». إذن حتى رسول الله لم يكن فى حياته يحرّم على الناس تناول أعماله بالتقديس المطلق الذى يغلق الأفواه والعقول عن المناقشة، والمراجعة، والإقناع، والاقتناع. وبهذا بذر بذور الحضارة العربية التى هزت الدنيا فى تلك العهود المجيدة. ولم تتدهور هذه الحضارة إلا يوم أن وطئتها سنابكُ خيول التتار ثم العثمانيين، فأغلقوا بسيوفهم الأفواه والعقول. إذن كان من الضرورى أن يأتى كتاب مثل «عودة الوعى» ليذكّر الشرقَ العربى أن تقديس الأشخاص وتحريم محاسبتهم ومساءلتهم هو إبقاء لحالة التخلف الذى جثم على شرقنا العربى أحقابًا طويلة. أما الآن وقد هدأت الضجةُ حول كتاب «عودة الوعى» فذلك لأن مهمته فى إحداث الصدمة الكهربائية الأولى لفتح الملفات وإيقاظ العقول على الحقائق قد أدت واجبها، وتم بالفعل فتح كثير من الملفات، وظهرت كثير من الكتابات ودارت المطابع ونُشرت الكتب وراجت المطبوعات السياسية رواجًا لم يسبق له نظير. حتى انقلب الأمر فى النهاية إلى شهوة تشنيعات وإطلاق شائعات لمجرد الرواج من مهاجم ومدافع. وكتابات تتهم بالحق وبالباطل، وكتابات مضادة تدافع وتقدس بالحق وبالباطل أيضًا. وأصبحنا فى ميدان حروب كلامية اختلط فيها الحابل بالنابل، ولم تصبح معرفة الحقيقة فى ذاتها هى المقصودة أو المطلوبة إلى حد أن طالبتُ أخيرًا أنا نفسى بغلق هذه الملفات مؤقتًا، حتى يمر وقتٌ تهدأ فيه هذه النوازع المغرضة من الطرفين ويكون التاريخ هو الحكم وهو الذى ينظم عملية البحث المنزه عن الحقيقة.

■ تنصبُّ فلسفتك على السخرية، كما فى كتاب «حمار الحكيم» و «حمارى قال لى». لماذا؟ ما هى جدوى السخرية فى الأدب العربى؟ وبمن تأثرت فى حياتك على هذا الصعيد؟

- السخرية عندى طبع، وهى وراثة عن والدى الذى كان يسخر حتى فى جلسات عمله القضائى، لأنه كان قاضيًا، دون أن يبدو عليه ذلك. فهذا إذن هو ميراثه لى. والسخرية أيضًا أفعلُ فى التأثير من الصرامة أحيانًا. وأذكر كلمة لناقد إنجليزى كتب عام ١٩٤٧ تعليقًا على كتابى «يوميات نائب فى الأرياف»، الذى نُشر بالإنجليزية فى ذلك العام، قال: «إن الغضب على الظالمين لا يُجدى. فيتخذ المؤلف من (السخرية اللاذعة) سلاحًا لتحقيق ما يهدف إليه من التنبيه والتحذير والإصلاح»... وعلى هذا فالسخرية فى الأدب العربى لها جدوى. أما تأثراتى فى هذا النهج بخلاف ميراثى الأبوى من والدى فى السخرية فهو من جُملة ما قرأت كثيرًا من أدب الساخرين، وأهمهم فى العربية «الجاحظ».

■ لماذا لا ينال جائزة «نوبل» للآداب أديبٌ عربىٌّ واحد من طرازك وطراز «طه حسين» و«نجيب محفوظ»؟

- جائزة نوبل من النادر أن تمُنح لشخص بعيدًا عن انتمائه إلى بلد أو أمة ننظر إليها بنوع من الاعتبار. ولقد سبق لى أن رُشحت منذ أعوام لهذه الجائزة كما رُشح لها «طه حسين». ولكن ظروف بلادنا العربية لم تكن مما يساعد على الفوز. فالعالم الأوروبى لم يزل ينظر إلى البلاد العربية نظرته الأولى منذ الحروب الصليبية. والرواسب الحربية القديمة فى وجدان الأوروبى عن بلادنا لم تزل موجودة. رواسب يمتزج فيها العداء بالازدراء بالمخاوف بالتباعد فى أرضية واحدة. فالعرب فى نظرهم غير موجودين على نفس الخريطة الحضارية التى ينتمون إليها فى أوروبا منذ قرون سلفت. ولذلك مهما يكن من بين العرب أفراد قد يعترفون باستحقاقهم فإن هذا لا يشفع لهم كثيرًا.

■ عملتَ فترة طويلة فى الصحافة، هل تقتل الصحافةُ الأدب... أم العكس؟

- الصحافة بمعناها الدقيق وهى البحث عن الأخبار وعرضها العرض السريع المثير واهتمامها بالبريق دون التعميق، هى من غير شك قاتلة للأدب الحقيقى. أما إذا كانت الصحافة تستعين بمواهب الأدباء لينشئوا فيها بمطلق حريتهم الأدب الذى يمارسونه ويزيدونه بغير إملاء أو ضغط من الصحافة... فهذا أمر لا بأس به، وقد ينفع فى نشر الأدب ذاته على نطاق أوسع. وملخص القول إن العلاقة بين الصحافة والأدب هى أن يكون الأدب هو الذى يستخدم الصحافةَ بشروطه، وليس الصحافة هى التى تستخدم الأدب بشروطها.

■ فى «عصفور من الشرق» برز لونك المحبب، أدب الذات. لماذا لم تتحف المكتبات العربية بكتاب آخر من نوعه أو من نوع «يوميات نائب فى الأرياف»؟

- أدب الذات يمكن أن يوضع فى الشكل الروائى كما يمكن أن يوضع فى شكل تاريخ الحياة. وقد عالجتُ ذلك أيضًا فى كتابين هما «زهرة العمر» و «سجن العمر». أما الأشكال الروائية فهى دائمًا تستمد شيئًا من تاريخ حياة الأديب ولو بقدر غير ملحوظ.

■ هل كنت راضيًا عن كل أعمالك التى تحولت إلى أفلام سينمائية؟

- الأعمال الأدبية عندما تتحول إلى أفلام سينمائية فإنها تخرج من نطاق التعبير الأدبى إلى نطاق آخر مختلف هو التعبير السينمائى. أى من نطاق الذهنيات إلى نطاق المرئيات. فالأدب يُرى بالذهن، والسينما تُرى بالعين. ولذلك فعندما تتحول أعمالى الأدبية إلى مجال السينما فإنى أتركها لمصيرها الجديد، وقلما أحفلُ بمشاهدتها. لأن علاقتى بها تشبه العلاقة بين شخصين مختلفين، فلا أرضى ولا أسخط، بل أشاهد لو قُدر لى أن أشاهد كما لو كان الأمر يتعلق بأى مُشاهد عادى. لا أحاول أن أبحث عن عملى فيما أشاهد، بل أستمتعُ أو أستسخف كما أفعل إزاء أى فيلم آخر.

■ أين يقف الآن «توفيق الحكيم» من مسرح اللا معقول؟

- مسرح اللا معقول بدأتُه فى مصر لمجرد التدليل على أننا يجب أن ننفتح بالفن على كل الأنواع وأن نواصل التجديد فيه ولا ننغلق على نوع واحد. وبعد أن فتح هذا الطريق تركته للآخرين.

■ كم هو عدد الكتب والمؤلفات التى وضعتها؟

- عدد الكتب والمؤلفات التى وضعتها نحو خمسين أو ستين كتابًا تضم أكثر من مائة عمل أدبى. وعلى من يريد أن يحصى العدد بالضبط فليفعل. لأن هناك أعمالًا متفرقة لم تُنشر بعد فى كتب أو نشرت فى أماكن مختلفة لا أستطيع جمعها الآن.

قضية الحضارة

■ القضية المصيرية التى تشغل أمتنا. لماذا لا يهتم بها قلم «توفيق الحكيم» بشكل جاد؟

- القضية المصيرية التى تهم أمتنا؟ إنها تختلف باختلاف النظرة إليها. فهى فى نظر السياسيين سياسية، وفى نظر العسكريين عسكرية، وفى نظر المفكرين حضارية. ولما كنتُ من غير رجال السياسة ولا من رجال العسكرية، ويمكن إدخالى فى زمرة رجال الفكر، فإن القضية المصيرية عندى هى «قضية الحضارة العربية». وفى اعتقادى أن العمل الجاد لبعث هذه الحضارة فى أمتنا العربية هو الأساس الذى تقوم عليه المجهودات السياسية والعسكرية فى سبيل مصيرنا. وأظن أن حياتى الأدبية كلها منذ أكثر من نصف قرن مكرسةٌ ومركزة فى هذه القضية الحضارية باعتبارها المدخل والخلفية التى تستند إليها قضية المصير السياسى، لأننا بغير بعث حضارى تصبح حركاتنا حركات عضلية ليس لها عقل ولا وجدان. ونصبح أمة تتحرك بجسم كبير هلامى ليس له شخصية ولا مكونات حضارية تستطيع أن تقف على قدميها بين الأمم المتقدمة السائرة إلى الأمام فى عالمنا المعاصر. 

■ الدكتوراه الفخرية التى مُنحتها، بماذا توحى إليك كأديب، ومفكر، وفنان، وإنسان؟

- الدكتوراه الفخرية ليس لها عندى أكثر من الدلالة على أن هناك قومًا فضلاء كرماء يحسنون بى الظن ويحبوننى ويستحقون منى الشكر على مشاعرهم. أما الألقاب فى ذاتها فلا أهمية لها عندى. ولا أرحب بإضافتها إلى اسمى المجرد.

■ فى أى مؤلفاتك وجدت نفسك أكثر؟

- بصراحة؟ وهل أنا وجدت نفسى بعد؟ أنا دائب البحث عنها دون جدوى. وسأظل إلى آخر يوم فى حياتى أواصل البحث. وما كتابتى المستمرة إلا محاولات منى للبحث عن نفسى.

■ إلى أى مدى ترك غياب «طه حسين» و«العقاد» فراغًا فى الساحة الأدبية؟

- من غير شك أن غياب «طه حسين» و«العقاد» قد ترك فراغًا ملحوظًا فى الحياة الأدبية العربية. والحمد لله أن صدى صوتيهما لم يزل يُسمع وسوف يظل يسمع دائمًا فيما تركاه من كتب ومؤلفات.

■ يردد بعض الصحفيين أنك شديد البخل... ويطلقون الدعابات حول بخلك المزعوم. فهل هذا صحيح؟

- حقًّا، مسألة البخل عندى أصبحت من المداعبات المحببة. وأنا لا أضيق بها. وإن كنت أبذل أحيانًا الجهد لإقناع بعض زوارى ألا يتحرجوا فى طلب فنجان قهوة، محاولًا إفهامهم أن البخل عندى هو على نفسى فقط، وليس على الآخرين. فأنا قنوع بطبعى. ولعل هذا أيضًا قد ورثته عن المرحوم والدى فقد كان من القنوعين. أما الغنى والثروة فلا أظن أديبًا فى شرقنا العربى يمكن أن يتصف بالغنى أو الثراء. فقلّة القراء الذين يشترون كتابًا، وضَعف الحقوق التى تُدفع لمؤلف الكتاب تضع الكاتبَ فى غير مستواه الذى يستحق. وسأحاول، باعتبارى رئيس اتحاد الكتاب فى مصر، أن أعمل على صيانة حقوق الكتاب المادية لينالوا بعض ما يناله المطربون والمطربات. بل ليظفر الكتّابُ بجزء بسيط مما تظفر به الراقصات، فمن العجيب أن مَن يهز وسطه ينال أضعاف أضعاف مَن يهز عقله.

■ ما هو دور المرأة فى حياتك، وما هو تأثير إلهامها على إنتاجك؟ وكيف تختصر فلسفتك عنها؟

- المرأة فى حياتى ملهمة ومعذّبة. وربما هذا يصدق على أكثر الناس. وبالأخص الأدباء وأهل الفن. المرأة لم تخلق لتريح الرجل. إليكم حواء وآدم منذ مبدأ الخليقة. هل هى أراحته تمام الراحة؟ هى بالطبع منحته أشياء، ولكنها أيضًا سلبته أشياء. وبغير المرأة لا معنى لحياته، وبها لا تصفو حياته. إنها النعمة والنقمة معًا. وإذا كانت هذه فلسفة فهى فلسفتى عنها.

■ كيف تنظر إلى الجيل الجديد من الأدباء والشعراء والمسرحيين؟

- جيل الشباب فى الأدب والشعر والمسرح من الممكن أن يكون جيلًا موهوبًا أو عبقريًا بما فى داخله من شحنات وطاقة. ولكن العقبة تكمن فى الظروف التى تحيط به، والجو الذى يتنفس فيه. فإذا استطاع أن يخرج منه منصهرًا كالذهب فقد نجا.

■ من هو الأديب العربى الذى تقرأ له وتحترم نتاجه؟ ومن هو الأديب الغربى المماثل؟

- هذا سؤال من الصعب الإجابة عنه فى حيز محدود، وبذاكرة متعجلة. فهم كثرٌ عديدون؛ سواء فى عالمنا العربى أو فى العالم الغربى، ولا أستطع اختيار واحد بالذات، لأن موائد الأدب لا يمكن أن يكتفى منها الأكولُ الذواقة بلون واحد.

■ السياسة والأدب هل يلتقيان؟

- أحيانًا يلتقيان، وفى تراثنا بالذات من الأدب العربى القديم أمثلة على ذلك، من وزراء أدباء وساسة بُلغاء. وكثير من أدباء العالم اليوم جمعوا بين ما طُبعوا عليه من أدب وشعر ومؤلفات أدبية وشعرية وبين مناصبهم السياسية. ولكن يجب أن نلاحظ أن الأصل هو الأدب، ثم تأتى بعد ذلك السياسة. أى أن يكون السياسى فى طبعه الأصيل أديبًا وشاعرًا أو فنانًا ثم تجعل منه الظروف سياسيًا، وليس العكس. إذ قلما يكون الشخص فى الأصل سياسيًا ثم يصبح بعد ذلك أديبًا أو شاعرًا أو فنانًا. لأن الأدب والفن «طبع».

■ كيف تفسر بعض هذه الرموز التى طرحتها فى أعمالك: «بنك القلق- السلطان الحائر-الورطة- رحلة قطار- مصير صرصار»؟

- بعض هذه الأعمال ظاهرة الرمز والمدلول، وكثيرون يعرفون الظروف التى دعت إلى تأليفها. من ذلك «بنك القلق» و«السلطان الحائر». فـ«بنك القلق» ظهرت قبيل هزيمة ١٩٦٧. وقد كُتبت لتحذير الحاكم وتنبيهه إلى حالة المجتمع المصرى الذى كان يعانى فى ذلك الوقت من القلق والتمزق بما يجعل الجبهة الداخلية واهنة غير صالحة للاعتماد عليها إذا جد الجد. ولكن الحاكم لم يأخذ بهذا التحذير واندفع فى طريق أدى إلى هزيمة ١٩٦٧. أما «السلطان الحائر» فقط ظهرت فى عام ١٩٦١ لتحذير الحاكم أيضًا من عواقب حكم البلاد بالسيف بدلًا من القانون، وذكرتُ العبارة المشهورة «أن السيف يفرضك، ولكنه يعرضك، أما القانون فإنه يتحداك، ولكنه يحميك»... ولكن الحاكم هنا أيضًا لم يأخذ بهذا التحذير وترك البلاد تُحكم بالسيف وبمراكز القوى التى أعلنت أن «القانون فى إجازة». وكان أن أصبحت البلاد فى تلك الحالة التى انتهت بهزيمة ١٩٦٧. فالقلم قد أدى واجبَه إذن على قدر استطاعته فى حياة الزعيم نفسه. أما بقية المسرحيات مثل «الورطة» و «رحلة قطار» و «مصير صرصار» إلخ... فيطول هنا شرح مفهومها وما ترمز إليه. ونترك ذلك للقارئ الحصيف الفاحص الذى يهمه أن يكتشف بنفسه المعانى والمرامى فى الأعمال الأدبية والفنية.

■ الحب.. كيف تعيش فلسفته وحقيقته؟

- الحب.. كلمة كبيرة واسعة المدى. وإذا كان المقصود الحب بين رجل وامرأة فهذا جانب واحد من جوانب الحب. ولكن الحب بمعناه الفلسفى العميق فهو واسع المدى يشمل الكون كله. وشرح هذا يحتاج إلى كتاب كامل.

■ معروفٌ أنك «عدو المرأة».. كيف نشأت عداوتُك هذه، وهل ما زلت على عداوتك لها ولماذا؟

- عداوة المرأة التى نُسبت إلى شخصى لم يكن الأصل فيها أىُّ أسباب خاصة. بل أصل حكايتها قضية عامة. ذلك أننى انتقدتُ فى ثلاثينيات هذا القرن طريقة فهم المرأة للحرية والنهضة النسائية التى كانت تتزعم حركتَها السيدة «هدى شعراوى». فقد شاع فى ذلك الوقت أن المرأة المصرية تأنف، باسم الحرية، أن تعمل فى بيتها زاعمةً أنها ليست خادمة للرجل حتى تعرف الطبخ والغرف. فأهملت بيتها وزوجها وأطفالها وانطلقت تتشبه بالرجل وتضيع وقتها فى المجتمعات الفارغة. فلما نبهتُها إلى أن حريتها الحقيقية هى فى القيام بواجباتها الطبيعية مشاركة للرجل لا مقلدة له، على أن يمارس هذه المشاركة، كل منهما بأسلوبه محتفظًا بشخصيته المستقلة، لم يعجب كلامى زعيمات الحركة النسائية واعتبرنه هجومًا على المرأة، وألصقن بى وصف «عدو المرأة».

■ ألا تخفى عداوتُك هذه سرًا نسائيًا أو علاقة لم تبُح بها؟

- لا... ليس هناك سر نسائى لهذه العداوة المزعومة. فالمرأة كأنثى من أحب خلق الله إلى نفسى، وأى إساءة منها تلحقنى، باعتبارها امرأة وأنثى، فإننى أحتملها دائمًا ولا أضيق بها.

■ ماذا عن مغامراتك النسائية وأنت شاب؟ كيف عشت شبابك؟ هل كنت محافظًا أم متحررًا؟ وإلى أى مدى؟

- لم يكن لى وأنا شاب مغامراتٌ نسائية بالمعنى المعروف لكلمة مغامرة. فقد عشنا فى شبابنا فى مجتمع مغلق لا نصادف فيه المرأة إلا من وراء حجاب أو ستائر شباك. وكان خيالنا يصور لنا النساءَ كما نشتهى. وكانت الحرائرُ من النساء فى تلك العهود الخوالى لا يظهرن لنا إلا بمقدار قليل وفى ظروف عائلية محددة، أو بما يدعو إليه القرب والجوار. أما بقية النساء ممن اختلطن بنا فكن من بنات الهوى؛ ولا يحتاج الأمر معهن إلى مغامرة، بل يكفى القليل من النقود. هذا فى مصر. أما عندما سافرنا إلى أوروبا فقد عرفنا المرأة عن قرب، وكان ما يمكن أن نسميه مغامرات على النحو الموصوف فى كتبى «عصفور من الشرق» و«زهرة العمر» و «راقصة المعبد». أما عن المحافظة أو التحرر ففى شبابى الأول كنت محافظًا أكثر منى متحررًا بحكم البيئة الصارمة فى ذلك العهد البعيد، وجوّها الخانق للحرية والتحرر.

■ ألا توجد قصة حب كبيرة فى حياتك؟

- لم توجد قصة حب كبيرة فى حياتى. وسبب ذلك أن الفن أو بعبارة أخرى الأدب كان هو شغلى الشاغل. وما كان الحب عندى إلا أحد منابع الإلهام التى أستقى منها عملى الأدبى والفنى. وقد شاءت الأقدار أن يكون الحب عندى من طرف واحد. أى أحب ولا أكون محبوبًا. أو أكون محبوبًا ولا أحب. لم أشعر مرة واحدة فى حياتى بالتلاقى فى الحب. فقد كنت دائمًا أحب مَن لا تحبنى، أو تحبنى مَن لا أحبها! أما أن أحب مَن تحبنى فهذا ما لم يصادفنى قط. ولو صادفنى هذا لوقعتُ فيما يمكن وصفه بالحب الكبير، الذى ينتهى عادة بكارثة أو بزواج. والاثنان واحد!! على أن الحب الأنفع عندى للإلهام الأدبى والفنى هو الحب من طرف واحد. أى الحب الذى أكنه أنا لامرأة لا تبادلنى الحب. ذلك أن مثل هذا الحب يعطينى ما أريد لأدبى وفنى دون أن يقيدنى بشىء. وذلك أنى أستطيع أن أنصرف عنه وقتما أشاء... بعذاب أو بغير عذاب. هذا شأنى أنا وحدى. لكن الويل لى ولأدبى وفنى إذا أحبتنى امرأةٌ ولم أستطع أنا الخلاص من حبها. إنها الأغلال قد وضعت حول عنقى. ومشيئتى أصبحت فى يدها هى. وأدبى وفنى أصبح رهنًا للظروف التى تريد هى أن تحيطنى بها. هنا الحب يصبح لعنة للأدب والفن والعياذ بالله.

■ ما هى أهم رسالة كتبتها فى حياتك.. وأهم رسالة تلقيتها؟ وما هى الرسالة التى أسعدتك.. والرسالة التى أتعستك؟

- أثر الرسائل فى حياتى موجود فى كتابى «زهرة العمر». أما أهم رسالة كتبتها أو تلقيتها أو أسعدتنى أو أتعستنى فهذا ما لا أذكره اليوم. أما الرسائل التى تلقيتها من الأدباء الآخرين، فقد تم جمع الكثير منها ونشر بخط أصحابها فى كتاب ظهر فى «دار المعارف» بالقاهرة عام ١٩٧٥ بعنوان «صفحات من التاريخ الأدبى لتوفيق الحكيم من واقع رسائل ووثائق». ومنها على سبيل المثال رسائلُ من «خليل مطران» و«طه حسين» و «العقاد» والآنسة «مى زيادة» والمستشرق الألمانى «كامجماير» والروسى «كراتشوفسكى» وعالم الرياضيات الدكتور «على مصطفى مشرفة» و«أحمد حسن الزيات» وآخرين.

■ علاقاتك بالكبار فى مصر والعالم، أهم ذكرياتك عنها وأهم شخصية تعرفتُ عليها محليًا وعربيًا عالميًا؟

- علاقاتى بالكبار فى مصر والعالم قليلة ولا تكاد تُذكر؛ لأننى قليل الاتصال قليلُ الأسفار.

■ سؤال لم نوجهه إليك وتود أن توجهه إلى نفسك.. وما هى إجابتك عليه؟ 

- لم يبق عندى سؤالٌ ولا ما يقال سوى تبليغ القراء من أشقائنا العرب أطيب تحياتى وأجمل تمنياتى.

الشهرة.. هل زهدتَ بها الآن أم أنك تطمع بالمزيد؟

- الشهرة؟ تبدو مطلوبة فى أول الأمر، ولكنها تصبح متعبة بعد ذلك. وهى تنتهى فى كثير من الأحيان إلى الزهد فيها. وهى تخلو من المعنى إذا كانت مجرد أضواء.. ولكن معناها الجميل أحيانًا يتجلّى إذا اقترنت بنظرات من حب الناس.