الخميس 19 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

ماذا قال لنا رئيس الوزراء فى العلمين؟.. «الثقافة».. الملف الغائب

رئيس الوزراء مع الإعلاميين
رئيس الوزراء مع الإعلاميين ورؤساء التحرير فى مدينة العلمين

- الثقافة هى العمود الفقرى فى تأسيس أى مواطن ليكون قادرًا على مواجهة المستقبل

كنت واضحًا مع رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولى. 

التقينا به فى مقر مجلس الوزراء بمدينة العلمين الجديدة، مجموعة من الإعلاميين ورؤساء التحرير. 

غلب على الحوار الذى قرر الدكتور مدبولى أن يكون مفتوحًا وينقل على الهواء مباشرة هموم الناس التقليدية، فالاقتصاد كان سيد الموقف، وكان هذا طبيعيًا فى ظل معاناة يعيشها الناس ولا يمكن لأحد أن ينكرها أو يتنكر لها. 

وجدت نفسى أقف فى منطقة بعيدة بعض الشىء عن الحوار الذى غلبت عليه مفردات الأزمة الاقتصادية، الأسعار، الدولار، صندوق النقد الدولى، السيطرة على الأسواق، المرتبات والمعاشات.. وغيرها. 

قررت أن أدخل برئيس الوزراء إلى الملف الغائب عن ملفات الحكومة، كما يعتقد كثير من المواطنين، وكما هو حادث بالفعل بنسبة كبيرة. 

اخترت أن أتحدث مع الدكتور مصطفى مدبولى عن ملف الثقافة. 

هناك شعور بالفعل يسيطر على المجال العام أن حكومات ما بعد ٣٠ يونيو، لم تلتفت بما يكفى إلى ملف الثقافة رغم أهميته. 

لقد خاضت مصر بعد ٣٠ يونيو حربًا شرسة- ولا تزال- مع الإرهاب، الذى قبل أن يكون تنظيمات وأسلحة ومتفجرات وأوكارًا وقنابل بشرية مستعدة للانتحار فينا جميعًا، فهو فكرة، تقود شابًا مسالمًا إلى أن يكون إرهابيًا يهدم المجتمع على رءوس من فيه. 

كانت القوة الصلبة من الجيش والشرطة حاضرة فى المواجهة مع الإرهاب، وقدمت مصر خيرة أبنائها شهداء فداء لأمن واستقرار هذا الوطن. 

لكن غابت الفكرة عن المواجهة. 

تراجعت القوة الناعمة القادرة على تفكيك منظومة الإرهاب الفكرية وتشتيت الإطار النظرى له وبعثرة ما رسخ فى العقول المتطرفة من ضلالات. 

مبررات غياب الثقافة عن معركة مواجهة الإرهاب كانت كثيرة. 

سمعنا كلامًا مكررًا ومعادًا عن تضاؤل الإمكانات وضعف التمويل وتهافت الموظفين الذين يجلسون على رأس المؤسسات الثقافية. 

كانت هناك جهود بذلها مسئولون تعاقبوا على وزارة الثقافة، لكنها فى النهاية لم تكن الجهود المرجوة ولا المنتظرة ولا الكافية لصناعة سياق عام يمكننا من خلاله الوقوف وجهًا لوجه أمام القوى المتطرفة التى كانت تعلن عن نفسها بوضوح وصراحة وتبجح. 

وزير الثقافة أحمد هنو

فى حوار تليفزيونى سألت أحد وزراء الثقافة عن دور وزارته فى تنوير الشباب لإنقاذهم من أفخاخ التطرف المنصوبة لهم فى كل مكان؟

قلت له: لماذا لا نرى حضورًا لوزارة الثقافة من خلال أدواتها المختلفة فى كل مكان فى مصر؟ لماذا لا نشعر بوجودها فى المحافظات بقراها ونجوعها؟ لماذا لا نجد قوافل ثقافية وعروضًا سينمائية ومسرحية وندوات أدبية ولقاءات فكرية فى كل مكان على أرض مصر؟ 

كنت أقول ذلك لأننى كنت ألمس فراغًا هائلًا فى كل مكان. 

ولأن الفراغ موجود فحتمًا سيتقدم من يسده ويسيطر عليه ويصب فيه أفكاره، وبدلًا من أن نجد من يتسللون لسد هذا الفراغ بأفكارهم، على وزارة الثقافة أن تتقدم هى، فعندما تكون موجودة سيختفى الآخرون؟ 

رد وزير الثقافة ردًا جعلنى أتوقف عن مواصلة الأسئلة. 

قال لى: وهل تعرف كم سيتكلف كل هذا؟.. ليست لدىّ ميزانية لذلك. 

كنت وما زلت أعرف أن التمويل عنصر أساسى فى أى نشاط ثقافى، بدونه لا يمكننا التحرك، لكننى كنت وما زلت على يقين بأنه ليس العنصر الوحيد. 

قبل سنوات كنت أجرى حوارًا مع الوزير الفنان فاروق حسنى. 

قلت له: عندما كنت وزيرًا للثقافة كانت هناك مناوشات عديدة بينك وبين الإعلام، فلم يكن الإعلام متعاونًا معك، لم يكن ينقل الفعاليات الثقافية، فكانت أنشطة الوزارة محاصرة؟ لو عدت إلى وزارة الثقافة الآن، ما الذى يمكنك أن تفعله؟ 

رفع فاروق حسنى هاتفه المحمول، وقال لى: لن أفعل شيئًا.. سيكون اعتمادى الأساسى على هذا. 

بنى فاروق حسنى رأيه على أن المحمول أصبح فى يد الجميع بالفعل، فلم يعد شعارًا بل تحول إلى واقع، ونادرًا ما تجد مواطنًا ليس معه هاتف محمول، وكل ما سيفعله أن يقوم بإنتاج المحتوى الثقافى ثم يتيحه عبر المنصات المختلفة، بما يضمن أن يصل هذا المحتوى إلى الجميع بأقل تكلفة. 

قال لى فاروق حسنى: سنقوم بإنتاج المسرحيات والأفلام والوثائقيات ونقيم الندوات والمؤتمرات والمحاضرات، ونقدمها للناس فى أماكنهم مهما كانت هذه الأماكن بعيدة، سنتيح لهم الكتب بصيغة الـ«بى دى إف» مجانًا، سيكون لدى كل مواطن مكتبة هائلة من المعارف المختلفة على جهاز الكمبيوتر الخاص به، وهذا سيوفر لنا مئات الملايين التى يمكن أن ننفقها على الطباعة والتوزيع ووضع الكتب فى منافذ يصعب على الناس الوصول إليها. 

عادى إلىّ صدى ما قاله فاروق حسنى منذ سنوات، وأنا أتحدث مع الدكتور مصطفى مدبولى. 

قلت له: متى تتحول وزارة الثقافة من وزارة تخضع لمنطق وفلسفة الموظفين إلى وزارة فاعلة نشعر بوجودها فى الشارع؟ ما خطة الحكومة حتى تحدث هذه النقلة بعيدًا عن الكلام المنمق الذى نسمعه منذ سنوات؟ 

تحدث رئيس الوزراء عن اهتمام حكومته بملف الثقافة، وعن دورها الكبير فى استراتيجية بناء الإنسان، فالثقافة هى العمود الفقرى فى تأسيس أى مواطن ليكون قادرًا على مواجهة المستقبل، وأشار إلى أنه يهتم بالوصول إلى الشباب الذين اختلف تلقيهم للمحتوى الثقافى، فالأجيال تغيرت وطريقة التعامل معها لا بد أن تتغير. 

كان كلام الدكتور مدبولى مهمًا، يعكس اهتمامًا حقيقيًا بالوصول إلى الشباب تحديدًا، لكنه تحدث عن الوسيلة وليس عن المحتوى، فعندما نصل إليهم من خلال أدواتهم الجديدة التى يجيدونها ويعيشون بها ويعتمدون عليها فى تحصيل معارفهم، ما هو المحتوى الذى نقدمه لهم؟ 

أعتقد أن هذا سؤال مهم جدًا.. لا بد أن نجتهد فى الإجابة عليه. 

لم يكن كلام الدكتور مدبولى إنشائيًا، وصدقته فيما يقوله، ليس لأنه رئيس الوزراء فقط، ولكن لأن وزير الثقافة الجديد فى حكومته الدكتور أحمد فؤاد هنو يعمل بشكل مختلف من اللحظة الأولى التى تم تكليفه بمنصبه، وقد تابعت هذا عن قرب. 

فى مشوار الدكتور هنو حتى الآن خطوتان مهمتان للغاية. 

قام بالأولى.. ويستعد للقيام بالثانية. 

أما الأولى فكانت عندما قام بزيارات متتالية لعدد من المؤسسات الثقافية، وهى الزيارات التى استمع فيها إلى آراء القائمين على قطاعات وهيئات وزارته والفنانين والعاملين فيها. 

قبل أن يقوم الوزير بهذه الزيارات قام بمراجعة شاملة للسياسات والهياكل التنظيمية التى تحكم الوزارة، ربما ليضع يده على الخلل الذى يشعر به الجميع دون أن تكون لديهم الجرأة للاعتراف به. 

لم يكتف الوزير بمعرفة الخلل فى سياسات الوزارة من خلال الأوراق والمذكرات والتقارير التى راجعها، ولكنه كان حريصًا على أن يستمع بنفسه من العاملين فى الوزارة، وكانت لقاءاته بهم مفتوحة ولا خطوط حمراء، وأعتقد أنه خرج من هذه اللقاءات برؤية واضحة لما يجب عليه أن يفعله داخل الوزارة أولًا. 

لا أعرف على وجه التحديد القناعة التى كونها وزير الثقافة من مراجعاته ولقاءاته. 

ولا أريد أن أصادر عليه فيما يراه الآن. 

لكن البداية لا بد أن تأتى من اعتراف الدكتور هنو بأنه دخل وزارة عجوزًا تحتاج إلى تجديد شبابها، قد يكون المسئولون عن مؤسسات وقطاعات وزارة الثقافة فى معظمهم شبابًا، لكن أداءهم عجوز، تشعر وكأن بعضهم مصاب بتصلب شرايين، لا مرونة ولا حيوية ولا مبادرة، الكل يخاف على الكرسى الذى يجلس عليه، ولذلك لا يغامر بشىء، لأنه يعتقد أن المغامرة يمكن أن تكلفه منصبه، وهو يريد أن يقضى الفترة المقررة له فى منصبه بأمان ودون مشاكل. 

هذه هى الحقيقة، لقد ترهلت قطاعات وزارة الثقافة خلال السنوات الماضية، الوزارة ضخمة وعملاقة وممتدة بطول مصر وعرضها، تمتلك إمكانات هائلة، لكنها إمكانات معطلة، لأن شيئًا فى عقل المسئولين عن العمل الثقافى تعطل. 

ولذلك فالبداية لا بد أن تكون ثورة لإصلاح وزارة الثقافة من الداخل، قبل أن نطالبها بإصلاح أى شىء خارجها. 

فقبل أن نطالب وزارة الثقافة بالمساهمة فى بناء الإنسان، فلا بد أن نعمل أولًا على بناء وزارة الثقافة. 

الخطوة الثانية أعلن وزير الثقافة عن أنه يعتزم تنفيذها خلال الأيام المقبلة. 

فطبقًا لما أعلن هو أنه سيقوم بعقد سلسلة من اللقاءات المكثفة مع مختلف أطياف العمل الثقافى والإبداعى والفنى، بمن فى ذلك الأدباء والشعراء والفنانون والمثقفون والعاملون فى الحقل الثقافى على جميع المستويات. 

يسعى الوزير إلى مناقشة الرؤى والأفكار والطموحات التى يحملها كل فاعل ثقافى، والاستماع إلى مقترحاتهم وآرائهم حول مستقبل الثقافة فى مصر، إلى جانب التعرف على المعوقات التى تواجه العمل الثقافى والمشاكل العاجلة التى تحتاج إلى حلول فورية. 

لا بد أن أثنى على هذه الخطوة. 

فالوزير أعلن عن خطوة لم يسبقه إليها أحد من وزراء الثقافة السابقين، فرغم كفاءتهم جميعًا، إلا أن نداهة التفاصيل والمشاكل الإدارية بالوزارة ندهتهم فاستجابوا لها، فغرقوا ولم ينج منهم إلا قليلون، ولاحظوا معى أن وزارة الثقافة بعد ٢٥ يناير هى الوزارة التى شهدت أكبر تقلبات وزارية. 

فقد توالى على وزارة الثقافة جابر عصفور، محمد الصاوى، عماد أبوغازى، شاكر عبدالحميد، صابر عرب، عبدالواحد النبوى، حلمى النمنم، إيناس عبدالدايم، نيفين الكيلانى... وأخيرًا الدكتور أحمد فؤاد هنو. 

لقد حاول هؤلاء جميعًا على قدر طاقتهم وبدليل من خبرتهم، لكن النتيجة فى النهاية ليست فى صالحهم، لا يمكن أن ننتقص من قدرهم، ولكن ما بين أيدينا يجعلنا نقول إن وزارة الثقافة خلال السنوات الماضية كانت وزارة الفرص المهدرة، فقد كان أمامها أن تنتفض وتقود العمل الثقافى فى مصر، لكنها تراجعت كثيرًا، وهو ما مكن مؤسسات ثقافية أهلية لأن تحتل الصورة وتصيغ صورة مصر الثقافية، وهى صورة تحتاج إلى مراجعة، فمن فعلوا ذلك لم يكونوا بعيدين عن التأثيرات الخارجية فى كثير من الأحيان. 

ما أعلنه الدكتور أحمد فؤاد هنو عن لقاءاته مع الفاعلين فى العمل الثقافى مبشر، لا شك فى ذلك، لكن أعتقد أننا فى حاجة إلى ما هو أكبر من هذه اللقاءات، إننا نحتاج إلى مؤتمر ثقافى عام وشامل، يشترك فيه الجميع، بلا استبعاد إلا لمن اتفقنا جميعًا على استبعادهم وهم من لا يعترفون بالوطن بل حرضوا عليه ويخططون لهدمه. 

مؤتمر ثقافى كبير يليق باسم مصر، تُطرح فيه المسألة الثقافية بشكل واضح وصريح، نعرض الداء بشجاعة ونصف الدواء بجرأة، فلا يجب أن نخفى شيئًا، ولا يجب أن نتواطأ على شىء، فنحن نتحدث عن مصر التى يمكن جدًا أن تمرض، لكنها أبدًا لا تموت. 

لقد قلت لرئيس الوزراء إن الثقافة هى الملف الغائب عن ملفات الحكومة.

وهذه قناعتى، لم يقرنى على ذلك وهذه قناعته أيضًا. 

لن نتوقف طويلًا أمام هذا الخلاف، المهم أن نتجاوزه، أن نعمل حتى لا تكون الثقافة غائبة، لأن فى بلد يقوم فى أصله وفصله وتاريخه وحاضره ومستقبله على ما تنتجه العقول، عندما تغيب الثقافة تغيب مصر نفسها، وأى كلام غير هذا لا يمكننا أن نعترف به أو نعول عليه.