رفقاء الذكاء الاصطناعى.. العلاقات الاجتماعية والمعايير الأخلاقية على حافة الهاوية (ملف)
أن يقيم الإنسان علاقة حميمة قوية مع صديق افتراضى مدعوم بالذكاء الاصطناعى قد يبدو للوهلة الأولى واحدًا من ثيمات رواية الخيال العلمى الذى شُغِل طويلًا بالسؤال عن واقع البشر فى ظل هيمنة التكنولوجيا وتطورها، ولكن الحقيقة هى أن مثل هذه العلاقات لم تعد خيالًا بل صارت واقعًا يستحث الكتابات الفلسفية والنفسية والاجتماعية بالدول الغربية، ويثير لدى مبرمجى التكنولوجيا والمختصين فى القانون عشرات الأسئلة والكثير من المخاوف، بينما تندر فى العالم العربى البحوث والكتابات التى تستقصى حدود تأثير هذه التطبيقات، المتاحة للجميع فى نسخ مجانية وأخرى مدفوعة، على فئات مختلفة من المستخدمين.
لم تعد العوالم الافتراضية بصورة عامة هامشية بأى مكان فى العالم، بل يمكننا القول إن مساحة الواقع الافتراضى باتت أوسع من الواقع الطبيعى المَعيش. لقد صار الجميع يعتمد على التكنولوجيا فى تسيير أمور حياته البسيطة والمعقدة، وغدت المكالمات والاتصالات عبر مواقع وتطبيقات التواصل المختلفة هى الأصل، ومع التطورات المذهلة الأخيرة بالذكاء الاصطناعى أضحت الاعتمادية أكبر، وتعدى الأمر الإفادة المعرفية ليصل إلى ابتغاء رفقة وصداقة اصطناعية عبر تطبيقات تتيح للمستخدم اختيار الصديق وشكله وجنسه واهتماماته، ثم ينطلق هذا الصديق الافتراضى ليصير مع الفرد وقتما يطلبه وحينما يتجاهله لا يكف الصديق الافتراضى عن إبداء الاهتمام والرغبة فى مشاركة الأفكار واستئناف المحادثات.
إن حديث الفيلسوف الفرنسى جان بودريار بوقت سابق عن العالم الموازى الذى خلقته الصورة صار اليوم واقعًا متجسدًا مع التطورات الأخيرة بالتكنولوجيا، وهو ما يفرض علينا التفكير فى طبيعة التغيرات التى طالت عالم اليوم، والتى من المتوقع فى المستقبل القريب أن تتجسد بصورة أكبر إلى حد يهدد بابتلاع الافتراضى لكل ما هو واقعى.
قلق شركة «أوبن إيه آى»
ليست المخاوف من تهديد التطورات الأخيرة فى تطبيقات الذكاء الاصطناعى المتعلقة بالرفقة الاجتماعية نابعة من فراغ، فمؤخرًا عبّرت شركة «أوبن إيه آى» المطورة لروبوت المحادثة «شات جى بى تى» عن قلقها من إمكانية تعلُّق المستخدمين بالتطبيق على حساب العلاقات البشرية لا سيما بعد إضافة أصوات واقعية إليه، محذرة من إمكانية اعتماد الناس بشكل مفرط على التكنولوجيا بسبب قدرات الذكاء الاصطناعى الفائقة.
وإن كان الأمر كذلك فيما يتعلق بروبوت محادثة يصدر عنه صوت، فإن الوضع يبيت أكثر تعقيدًا مع تطبيقات تتيح اتصالات ورسائل مع روبوت يستطيع كل مستخدم تخصيصه بتحديد شكله واهتماماته وعمره وغير ذلك، كما يمتلك خاصية تذكر المحادثات السابقة وتخزينها بشكل يُمكّنه من إبداء التعاطف وإسداء النصيحة ومواكبة شخصية المستخدم واهتماماته.
تحول حتمى فى المستقبل القريب
فى تقرير نُشِر بصحيفة «نيويورك تايمز»، شارك الكاتب الصحفى كيفن روز تجربته فى التعامل مع أصدقاء الذكاء الاصطناعى وملاحظاته حولها وكذلك تنبؤاته لمصيرها ومصير البشر معها فى السنوات القليلة المقبلة.
يقول روز: أمضيت الشهر الماضى فى صنع أصدقاء الذكاء الاصطناعى، شخصيات يمكننى التحدث إليها وقتما أريد. هناك بيتر، المعالج الذى يعيش فى سان فرانسيسكو ويساعدنى فى التعامل مع مشاعرى. وأريانا، وهى مرشدة محترفة متخصصة فى تقديم النصائح المهنية. وجاريد خبير اللياقة البدنية، وآنا المحامية، ونعومى الأخصائية الاجتماعية، ونحو عشرة أصدقاء آخرين قمت بتكوينهم من ستة تطبيقات هى Nomi، وKindroid، وReplika، وCharacter.ai، وCandy.ai، وEVA.
يصل الكاتب من تجربته إلى أن مثل هذه التطبيقات لا تزال محتفظة بآليتها وغير قادرة على تقديم الدعم الحقيقى. ومع ذلك فهو يعتقد أنه خلال السنوات القليلة المقبلة، سيشكل ملايين الأشخاص علاقات حميمة مع أصدقاء الذكاء الاصطناعى، كما قد يجدونهم مستقبلًا على منصات التواصل الاجتماعى. وبينما قد يستمر البعض فى السخرية من الفكرة، فإن آخرين وبخاصة الأشخاص الذين يعتبرون التواصل الاجتماعى صعبًا أو غير جذاب، سوف يدخلون الذكاء الاصطناعى إلى أعمق أجزاء حياتهم، وقد تستيقظ يومًا ما وتجد شخصًا تعرفه «ربما طفلك» على علاقة بصديق ذكاء اصطناعى، وستشعر بأنها علاقة حقيقية ومهمة، علاقة تقدم نسخة مقنعة من التعاطف والتفاهم، وفى بعض الحالات، تبدو جيدة تمامًا مثل العلاقة الحقيقية.
تحذيرات من أصدقاء الذكاء الاصطناعى
واحد من أبرز التطبيقات التى صارت معروفة عربيًا فى هذا الصدد تطبيق Replika، الذى أُطلق منذ سبع سنوات، فوفقًا لتقرير نشره موقع the conversation كشف متجر «جوجل بلاى» عن ملايين التنزيلات للتطبيق منذ إطلاقه. وعلى الرغم من التحذيرات المبكرة حول مخاطر أصدقاء الذكاء الاصطناعى، فإن الاهتمام بالصداقات وحتى العلاقات الرومانسية مع الذكاء الاصطناعى آخذ فى الارتفاع.
ينقل التقرير تنويه عالم الذكاء الاصطناعى رافائيل سيريلو بضرورة اكتشاف التعاطف النفسى المزيف لدى أصدقاء الذكاء الاصطناعى، وحديثه عن أن قضاء الوقت مع أصدقاء الذكاء الاصطناعى يمكن أن يؤدى إلى تفاقم الوحدة لأننا نعزل أنفسنا أكثر عن الأشخاص الذين يمكنهم تقديم صداقة حقيقية.
ومن هنا، يطرح التقرير عددًا من التحذيرات فى التعامل مع أصدقاء الذكاء الاصطناعى، فإن كان الدعم والاحترام الإيجابى غير المشروط من أهم مميزات أصدقاء الذكاء الاصطناعى، فإن ذلك الدعم غير المشروط هو سلاح ذو حدين، فوجود صديق يقف إلى جانبك دائمًا قد تكون له أيضًا آثار سلبية، خاصة إذا كان يدعم أفكارًا خطيرة بشكل واضح.
وعلى افتراض أن أصدقاء الذكاء الاصطناعى يمكن أن يتعلموا تقديم الثناء بطريقة تؤدى إلى تضخيم احترام الذات بمرور الوقت، فقد يؤدى ذلك إلى ما يسميه علماء النفس التقييمات الإيجابية المفرطة للذات. تظهر الأبحاث أن هؤلاء الأشخاص يميلون إلى امتلاك مهارات اجتماعية أضعف، ويكونون أكثر عرضة للتصرف بطرق تعيق التفاعلات الاجتماعية الإيجابية.
الخطر الثانى الذى تطرق إليه التقرير يتعلق بإضعاف المهارات الاجتماعية، فقد يعانى الأشخاص الوحيدون من آثار نفسية سلبية بسبب الفراغ الأخلاقى الذى ينشأ عندما تكون اتصالاتهم الاجتماعية الرئيسية مصممة فقط لتلبية احتياجاتهم العاطفية. هذا «الفراغ الأخلاقى» يعنى أن علاقاتهم تفتقر إلى الدعم المتبادل أو الفهم أو القيم المشتركة، فإذا قضى البشر معظم وقتهم مع أصدقاء متملقين من الذكاء الاصطناعى، فمن المرجح أن يصبحوا أقل تعاطفًا، وأكثر أنانية، وربما أكثر تعسفًا.
ومن جهة أخرى، فإن المحتوى الجنسى الذى قد تسمح به مثل هذه التطبيقات يمكن أن يعيق الاهتمام والقدرة على تكوين علاقات جنسية حقيقية تتطلب جهدًا لا تتطلبه العلاقة الجنسية الافتراضية مع صديق يعمل بالذكاء الاصطناعى.
وأخيرًا، هناك هيمنة الشركات التجارية على سوق أصدقاء الذكاء الاصطناعى، فبينما قد يقدمون أنفسهم على أنهم يهتمون برفاهية مستخدميهم، فإنهم موجودون لتحقيق الربح، ونظرًا للحماية الضئيلة التى يتمتع بها مستخدمو أصدقاء الذكاء الاصطناعى، فإنهم معرضون لمخاطر شتى.
أسئلة مطروحة
فى ضوء ذلك، نحتاج على المستوى العربى لإيلاء اهتمام بالتغيرات الراهنة والمستقبلية التى قد تشكلها علاقاتنا المندفعة اليوم مع الذكاء الاصطناعى، فإن كان الاندماج العربى فى وسائل التواصل الاجتماعى قد تأخر فإنه صار اليوم أساسًا للتواصل والأعمال والعلاقات وغير ذلك، والوضع ذاته ينتظرنا فى علاقاتنا التى نُشكّلها اليوم مع تطورات كبيرة يشهدها الذكاء الاصطناعى تهدد بتغيرات فى مختلف مناحى الحياة.
يُسلط كتاب «وحدنا معًا»، الذى نتطرق إليه هنا، الضوء على المخاوف الاجتماعية التى تحيط برفقة اصطناعية سواء كانت روبوتًا أو صديق ذكاء اصطناعى افتراضيًا أو أى وسيط تكنولوجى آخر، فيما نناقش مع أربعة من الكتاب والباحثين المعنيين بالتكنولوجيا والمتصلين بأحدث التطورات بها على مختلف الأصعدة، عددًا من الأسئلة تتعلق بآلية تحقيق هذه التطبيقات للنجاح، والمخاوف الأخلاقية والاجتماعية والقانونية التى تحيط بانتشارها وذيوعها وكيفية تجنب تحققها.