الخميس 19 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

مقبرة المترجمين.. «حرف» تكشف وقائع جديدة فى المركز القومى للترجمة

المركز القومى للترجمة
المركز القومى للترجمة

- مترجم: أهدر مبالغ ضخمة من المال العام.. ومديرته لا تقدم إلا الوعود

- المركز عطل صدور كتاب هدى زكريا 10 سنوات كاملة

- هدى زكريا: استفسرت مرارًا والإجابة دائمًا: «الكتاب فى الطابور»

فى عددها السابق، كشفت «حرف» عن وقائع فساد وإهدار للمال العام داخل المركز القومى للترجمة، تتمثل فى تكدس نحو مليون كتاب داخل المخازن بسبب انتهاء حقوق نشرها، وعدم جواز بيعها للجمهور.

ويتنافى هذا السبب، الذى يستدعى تحقيقًا ننتظره منذ أسبوع، مع ما صرح به وزير الثقافة، الدكتور أحمد هنو، خلال لقائه مع الصحفيين، فى 4 سبتمبر الجارى، من أن الأزمة ناتجة عن عدم توافر منافذ لطرح تلك الإصدارات للقراء.

ويبدو أن القضية قد اتخذت أبعادًا جديدة فى حجم الفساد المستشرى داخل المركز، بعدما تكشفت حلقة جديدة من حلقات هذا الفساد، تعكس وجود اتجاه ممنهج لتخريب منارة ثقافية مهمة، وتفريغها من أبرز المترجمين ودفعهم إلى عدم التعاون معه.

هذه الوقائع ظهرت مع ما كشفته الدكتورة هدى زكريا، أستاذ علم الاجتماع السياسى، من فضيحة من العيار الثقيل، تتمثل فى تأخير نشر كتابها لمدة 10 سنوات كاملة، ومحاولة تبرير ذلك بحجج واهية.. فما التفاصيل؟

الذاكرة الاجتماعية

بدأت الوقائع الجديدة بحصول «حرف» على معلومة تفيد بأن الكتاب، الذى كان المركز القومى للترجمة قد أعلن عن إتاحته فى منفذ البيع للجمهور، عبر صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعى «فيسبوك»، بتاريخ ١٨ أبريل ٢٠٢٤، تحت عنوان «الذاكرة الاجتماعية.. رؤية جديدة للماضى»، من تأليف جيمس فينترس، وكريس ويكهام، وترجمته للغة العربية الدكتورة هدى زكريا، غير موجود فى منافذ البيع، وأنه هو الآخر لاقى مصير غيره من الكتب الملقاة والمهملة فى مخازن المركز.

أطلعت «حرف» الدكتورة هدى زكريا على إعلان المركز عن صدور الكتاب خلال شهر أبريل الماضى من خلال صفحته الرسمية بـ«فيسبوك»، واستفسرت منها عما إذا كانت قد تسلمت نسخها من الكتاب، فأكدت أن أحدًا لم يبلغها أى شىء، لا عن صدور الكتاب ولا عن تسليمها نسخ المؤلف المستحقة من كل كتاب كما هو معمول به، كما نفت تمامًا علمها بصدور الكتاب أو تسلمها أى نسخ منه، وأن كل ما تعرفه عن الكتاب أنه لم يصدر بعد، وأنها تنتظر أن يتواصل معها أحد المسئولين بهيئة الكتاب ليبلغها عن مصير عملها.

وفى خطوة أخرى للتحقق من الأمر والوقوف على مصير الكتاب، تواصلنا مع منفذ البيع بالمركز القومى للترجمة للحصول على نسخة من الكتاب، لكن المسئول أجاب بأن الكتاب غير موجود بالمركز.

وعلمت «حرف» من مصدر بالمركز القومى للترجمة، أن الكتاب قبل أن يطبع وخلال فحصه من قبل لجنة الفحص، إحدى لجان المركز التى تجيز أو لا تجيز طبع الكتاب، اكتشفت المسئولة عن لجنة الفحص أن المسودة الأخيرة والمعدة للتسليم للطباعة غير كاملة ونقص منها الفصل الخاص بالمراجع العلمية للكتاب، ورفضت التوقيع على محضر الفحص، إلا أن الكتاب قد نشر، وعند اكتشاف هذا النقصان تم سحبه من المنفذ أيضًا وألقى فى مخازن المركز.

الاحتفاء بالموتى

تعد مشكلة تأخر صدور الترجمات لمدد طويلة تصل للعشر سنوات، كما فى حالة كتاب الدكتورة هدى زكريا، من أبرز المشكلات التى يواجهها المترجمون مع المركز الذى كان كيانًا ثقافيًا مهمًا أسسه الدكتور جابر عصفور عام ٢٠٠٦. 

نفس المشكلة عانى منها المترجم الراحل السيد إمام، الذى أفرج المركز أخيرًا عن كتابه «شعرية ما بعد الحداثة»، الذى كان مقررًا له أن يصدر فى عام ٢٠٢٠ أو ٢٠٢١، إلا أن الكتاب تأخر صدوره حتى سقطت حقوق نشره فى ٢٠٢٢.

وخاطبت مديرة المركز الدكتورة كرمة سامى الناشر الأجنبى هذا العام لتجدد حقوق النشر لفترة ثانية، مع دفع مقابل مادى له من جديد ليستطيع المركز نشر الكتاب والذى لم يرَ النور إلا قبل أيام ويقيم المركز له اليوم حفل صدور مع ترجمة الراحل الدكتور محمد عنانى للجزء الثانى من كتاب «الرفيق إلى النظرية السردية»، والذى كان من المفترض أن يصدر أيضًا فى ٢٠٢٠ ولكنه تأخر وسقطت حقوق نشره حتى جددت العام الجارى، بعدما صدر جزؤه الأول عام ٢٠١٧.

وبدأت ظاهرة تأخر نشر الكتب وتراكمها منذ تولى الدكتور كرمة سامى رئاسة المركز فى العام ٢٠٢٠، حيث أغلقت باب المركز على نفسها ولم تصدر كتابًا واحدًا، حسب ما صرحت به بنفسها فى حوارها مع «الأهرام العربى»، وهو ما أضاع على المركز الكثير من العملة الصعبة التى يضطر المركز لدفعها أكثر من مرة لتجديد حقوق النشر، سواء فى كتابى الدكتور محمد عنانى أو السيد إمام، اللذين سقطت حقوقهما، فاضطر المركز لدفعها مرة ثانية للناشر الأجنبى ليصدر الكتابان أخيرًا قبل أيام.

ورغم أن المركز يحتفى اليوم بإطلاق كتابى الراحلين، لكن القائمين عليه ما زالوا غير مدركين مدى أهمية أن يرى المبدع ثمرة عمله فى حياته وأن ينال التكريم وهو على قيد الحياة، لا بعد رحيله بعام وأكثر. 

وأتذكر أن محادثة جرت بين محررة «حرف» والمترجم الراحل السيد إمام، وقال لها بالحرف: «ليه ما بتفتحيش موضوع المركز القومى للترجمة وأداؤه المتراخى، تصورى إن موسوعة ألف ليلة و ليلة موجودة بقسم التصحيح اللغوى بقالها ثلات سنين؟! وكتير من الكتب بالشكل دا»، مع العلم أن هذه المحادثة جرت تحديدًا فى عام ٢٠١٨، وما زالت موجودة بنصها فى البريد الإلكترونى للمحررة حتى الآن ولكن احترامًا لخصوصية الراحل نتحفظ على نشرها.

مملكة البيروقراطية

فى محاولة لاستجلاء حقيقة ما يحدث فى المركز القومى للترجمة، حرصت «حرف» على التواصل مع أكبر عدد من المترجمين لرصد تجاربهم مع المركز. 

قال الدكتور عبدالمقصود عبدالكريم إن هناك مئات الكتب التى تُرْجِمت، ودفع المركز حقوق الملكية الفكرية لدور النشر الأجنبية وتقاضى المترجم حقه المادى كاملًا ولم تصدر بعد مرور سنوات طويلة على تسليمها.

وأضاف: «أذكر هنا ما يتعلق بى شخصيًّا، ليس لأنه يتعلق بى لكن لأنه نموذج على ما حدث مع عشـرات المترجمين، ما جعل عددًا كبيرًا من أفضل الكتاب يتوقفون عن التعاون مع المركز، وما يتعلق بى شخصيًّا سيئ ومحبط للغاية لكنه على ما يبدو لى ليس أسوأ ما فى المركز، فتصورى حين أقول لى كتاب منذ ٢٠١٤ يكون الرد علىّ بأن هناك كتبًا من قبل ٢٠١٢».

وأكمل: «لى شخصيًّا ثلاثة كتب، سلَّمتُ آخرها فى أوائل ٢٠١٩، بالتالى لن آتى على ذكره بالرغم من أن ثلاث سنوات ليست فترة قصيرة فى عصر يُحْسَب فيه الزمن بجزء على المليار من الثانية. لن أذكره لأنه الأحدث ولأن مؤلفته مصرية وأعلم أنها تتابعه بدأب شديد».

وتابع: «الكتاب الأول يمثل المجلد الأخير من موسوعة كامبريدج عن تاريخ الأدب العربى، وهى موسوعة من ستة مجلدات تعاقد المركز على ترجمة أربعة منها، وقد صدرت المجلدات الثلاثة الأولى منها، والأول منها عن تاريخ الأدب العربى حتى نهاية العصر الأموى من ترجمتى، والأخير بعنوان «تاريخ الأدب العربى الحديث»، وصدر مؤخرًا وكنت قد سلمت ترجمته فى ٢٠١٤، ووقعت على البروفة الثانية قبل ذهاب الكتاب إلى المطبعة فى ٢٠١٦».

وواصل: «الكتاب الثانى (التنوير: تفسير)، تأليف بيتر جاى، وهو فى مجلدين، والأصل الإنجليزى نصف مليون كلمة تقريبًا، وهذا الكتاب سلمته فى ٢٠١٦، وحرصًا على تسليم الترجمة فى موعدها المُحدَّد عملت أسبوعين بعين واحدة بسبب إجراء عمليتين فى عينى أثناء العمل فى ترجمته، وهو أمر أذكره بمرارة، وصدر الجزء الأول منه وما زلت فى انتظار الجزء الثانى».

وقال: «قبل اتخاذ قرار بعدم التعاون مع المركز فى ترجمة أى أعمال جديدة حتى تتغير وتيرة العمل وتصدر الأعمال الراكدة فى دهاليزه، كنت أذهب إلى المركز للسؤال عن أعمالى وكانت الإجابة التى أتلقاها دائمًا كلما سألت عن كتاب: لسه فى المطبعة، حتى صرت أسخر من سؤالى وأسخر من ردهم».

وتابع: «بعد ٢٠١٩ ذهبت إلى المركز مرتين، مرة بعد تولى الدكتورة كرمة سامى إدارته بفترة قصيرة، وسألت عن كتبى واستمعت إلى الرد نفسه من إدارة التصحيح، بالتالى عرضت مشكلة كتبى على الدكتورة الفاضلة مديرة المركز، وتفضلت بتقديم وعود متفائلة وعبرت عن نوايا طيبة، لكننى يومها خرجت بانطباع قوى بأنها مجرد وعود وبأن النوايا الطيبة وحدها لا تقدم كوب ماء للظمآن، وملاحظة عابرة، أنا عملت لأربعين عامًا تقريبًا طبيبًا نفسيًّا، وأظن أن حكمى على مثل هذه الأمور يستند إلى قدر لا بأس به من الخبرة».

وأضاف: «حالتى مجرد حالة من مئات الحالات، والمبرر الذى تسمعه من الدكتورة مديرة المركز هو التركة الثقيلة، وهو مبرر سمعناه من عشرات المسئولين، وهو فى رأيى عذر أقبح من ذنب، وهذه الحالات تعنى باختصار، إهدار قدر كبير من الطاقة البشرية، طاقة المترجمين الذين ترجموا مئات الكتب التى لم تصدر، وطاقة الموظفين التائهين فى دهاليز البيروقراطية ولا يعرف معظمهم المطلوب منهم بالضبط. وإهدار مبالغ هائلة من المال العام، كتاب (التنوير) وحده نصف مليون كلمة، والمقابل الذى حصلت عليه لم يكن بالمبلغ القليل».

وواصل: «هذا تدمير لصرح عظيم، أو كان عظيمًا، من صروح الثقافة المصرية، صرح حلمت بمثله شعوب كثيرة. الروح والوتيرة البيروقراطية التى تهيمن على المركز لا يُرجَى منها أى خير؛ وخصوصًا بعد انتشار وباء اللجان. وخفض الأعداد المطبوعة من كل كتاب وزيادة تكلفة الكتاب ورفع سعره يعنى وصول الكتاب إلى أعداد محدودة إن صدر، وهو ما يتنافى مع رسالة المركز».

واختتم بقوله: «حدث نفور لعدد كبير من أفضل المترجمين فى مصر عن العمل مع المركز، وأعرف شخصيًا عددًا لا بأس به منهم، وهناك عدد من الكتب يصدر بعد انتهاء الفترة المنصوص عليها فى العقد مع دار النشر الأجنبية ما يعنى سقوط أحقية المركز فى نشره، وفى هذه الحالة يدفن الكتاب فى المخازن، هناك صمت عمَّا يحدث فى المركز منذ سنوات، وهو فى رأيى صمت يثير الريبة؛ وكأن تدمير المركز وتحويله إلى مقبرة، أو كافتيريا، فى موقع نموذجى أمر مخطط له».