خيرى حسن يكشف التفاصيل فى كتاب جديد
سرقة القرن.. محمد يونس القاضى سرق كلمات النشيد الوطنى من سيد درويش
- الشاعر المعروف سطا على أغانٍ أخرى لـ«درويش» مثل «زورونى» و«أنا هويت»
- تاريخ إصدار وثيقة تسجيل «بلادى بلادى» باسم القاضى يوافق يوم إجازة رسمية
- معهد فؤاد للموسيقى ظل 30 عامًا يعاقب أى طالب يترنم بلحن لسيد درويش
- على «جمعية المؤلفين» مراجعة أوراق «الجريمة» وإعادة حق «فنان الشعب»
لو سألت أى مصرى عن مؤلف نشيدهم الوطنى ستقول لك الغالبية دون أى تردد: الشاعر محمد يونس القاضى، المُلقَب بـ«شيخ المؤلفين المصريين»، وسيزيدك المهتمون بالشأن الأدبى والثقافى بصفة عامة من الشعر بيتًا، ويقولون لك إنه أيضًا مؤلف أغانٍ عديدة شهيرة، من بينها «زورونى كل سنة مرة»، و«أنا هويت وانتهيت».
ماذا إذن لو عرفت أن «القاضى» ليس هو المؤلف الحقيقى للنشيد الوطنى، وأنه سطا على كلماته الشهيرة «بلادى بلادى بلادى.. لكِ حبى وفؤادى» ونسبها إلى نفسه، وأن مؤلفها الحقيقى هو سيد درويش، بل إن «زورونى كل سنة مرة» و«أنا هويت وانتهيت» هما أيضًا لـ«فنان الشعب»، إلى جانب أغانٍ أخرى منسوبة لـ«القاضى».
صدمة موسيقية وشعرية، بل على مستوى المجتمع ككل، لارتباط النشيد الوطنى بكل المصريين، كشفها الكاتب الصحفى خيرى حسن، فى كتاب جديد يحمل عنوان: «سيد درويش: المؤلف الحقيقى للنشيد الوطنى.. وقائع سرقة معلنة»، ويحكى تفاصيله التى تؤرخ لـ«سرقة القرن»، فى حواره التالى مع «حرف».
■ متى وكيف بدأت فكرة كتاب «سيد درويش: المؤلف الحقيقى للنشيد الوطنى»؟
- بدأت فكرة إعداد كتاب عن سيد درويش، أو بمعنى أدق عن «السطو على أشعار سيد درويش»، من قِبل ابن جيله، الشاعر يونس القاضى، وخاصة «بلادى بلادى»، التى استوحاها من الخطب السياسية للزعيم مصطفى، وغيرها من الأعمال، مثل «زورونى كل سنة مرة» و«عشقت حسنك» و«أنا هويت»- فى أثناء البحث والتنقيب والتفتيش فى أضابير ودواليب وأرشيف الثقافة والصحافة، بداية من ١٩٢٣، وهو العام الذى مات فيه سيد درويش.
فى البداية، نشرت هذه الجريمة، التى أراها غير مسبوقة، وإن كانت ملحوقة بسرقة تتشابه معها فى الشكل وتختلف فى المضمون، وهى سرقة كلمات «مدد مدد.. شدى حيلك يا بلد»، من شاعر عظيم من شعراء العامية المصرية، هو زكى عمر، لتُنسب إلى الشاعر إبراهيم رضوان.
كنت ممن حققوا أيضًا فى هذه الجريمة، وأثبتها فى سجلات الثقافة والصحافة المصرية، من خلال سلسلة مقالات، أو تحقيق استقصائى، نُشر على ٣ حلقات فى مجلة «روز اليوسف»، وحصد جائزة التفوق الأولى فى مسابقة التفوق بنقابة الصحفيين لعام ٢٠١٩، قبل أن أحولها إلى كتاب نشرته على نفقتى الخاصة، حمل عنوان «يا صاحب المدد.. سيرة شاعر ومسيرة وطن».
فى نفس الطريق، مشيت مع قضية سرقة سيد درويش، وإن كانت هذه السرقة أكثر فداحة، لأنها سرقة لكلمات صارت فيما بعد النشيد الوطنى. نشرت القضية فى صحيفة «الوفد»، وتقدمت بها فى مسابقة التفوق الصحفى بنقابة الصحفيين لعام ٢٠٢٣، وحصدت الجائزة الأولى أيضًا.
وكنت فى أثناء رحلة البحث وجمع المعلومات والعودة للمراجع والمصادر البحثية، قد قررت تحويل ذلك إلى كتاب، حتى أؤرخ لهذه الجريمة التى لا تسقط بمرور الزمن، وعادت بنا إلى ذلك الزمن، لنراها ونعرف صناعها وأبطالها، وما فعلوه من جُرم فى حق سيد درويش، وفى حق الوطن والثقافة بصفة عامة.
■ كم استغرق منك الكتاب وقتًا ليرى النور؟
- الكتابة لم تستغرق وقتًا طويلًا، لكن عملية البحث عن المصادر والمراجع والمجلات والصحف، فى دار الكتب والوثائق القومية، وأرشيف المؤسسات الصحفية، ومركز الدراسات القضائية بوزارة العدل، ومصلحة الشهر العقارى فى رمسيس، كل هذا استغرق عدة شهور، على أيام متفرقة الحقيقة.
بدأت بعدها مرحلة جمع المصادر والمراجع، وساعدنى فيها الكاتب والمؤرخ الثقافى شعبان يوسف، والدكتور محمود عوضين، وكيل وزارة الثقافة الأسبق، وعدد من المهتمين بالشأن الموسيقى والثقافى، قد لا يتسع المجال لذكرهم بالاسم.
ثم بدأت الكتابة التى لم تستغرق مساحة كبيرة من الوقت، لأننى بالفعل كنت معبأ بالقضية، وعايش ومتعايش معها، وأستطيع أن أقول بكل صدق، إن سيد درويش كان يعيش معى فى كل مكان، فى المقهى الذى أجلس عليه، فى عملى الصحفى، وفى عملى التليفزيونى، وفى مكتبة بيتى التى أجلس فيها. لم يفارقنى منذ أن وقعت يدى على الخيط الأول لهذه الجريمة.
■ العشرات من الكتب والمؤلفات تناولت سيرة وإبداع سيد درويش، فما الجديد الذى تقدمه بكتابك؟
- كشفت فى هذا البحث بالضربة القاضية، عن القضية التى تحدث عنها البعض منذ سنوات، وهى سرقة يونس القاضى نشيد «بلادى»، حيث إن اليوم الذى يقول عنه «القاضى» إنه سجل هذه القصيدة، هو يوم إجازة رسمية، وهذا هو اكتشافى غير المسبوق.
وإن كان البعض قد عرف سيد درويش شاعرًا، لا يعرف البعض الآخر أنه مؤلف كلمات أنشودة أو نشيد «بلادى بلادى»، الذى تم الاستيلاء عليه مع أغانٍ أخرى، بالتزوير الصريح الفاضح، من قبل الشاعر محمد يونس القاضى «١٨٨٨- ١٩٦٩»، باعترافه هو شخصيًا، وبشهادة مزورة، زعم أنها وثيقة صادرة من المحكمة المختلطةـ.
وما أثبته أنا فى كتابى أن تاريخ إصدار هذه الوثيقة، التى بها استولى «القاضى» على إبداع سيد درويش، وفى القلب منه نشيد «بلادى- بلادى»، كان يوافق عُطلة رسمية فى دواوين الحكومة المصرية، وأن سجلات وزارة العدل، مصلحة الشهر العقارى ومركز التوثيق والمعلومات القضائى تحديدًا، لا يوجد بهما أو فى غيرهما أى مستند رسمى يخص هذه القضية.. هذا ما ستكشف عنه وثائق وحقائق واعترافات وشهادات هذا الكتاب.
وإن كان سيد درويش يُعد «موسيقار القرن العشرين» فى الوطن العربى، فإن هذه الجريمة، جريمة سرقة كلمات «بلادى.. بلادى»، وغيرها من أعماله، تُعد إحدى أهم جرائم القرن العشرين الأدبية فى الوطن العربى.
■ ما الخيط الذى تتبعته وكان بداية اكتشاف وقائع سرقة سيد درويش؟
- جاء الخيط الذى اتبعته فى هذه القضية من خلفية تدربت عليها من قبل، حين حققت فى جريمة أخرى مشابهة، قبل سنوات، هى جريمة سرقة كلمات «مدد مدد.. شدى حيلك يا بلد»، التى كتبها شاعر العامية الكبير الراحل زكى عمر.
أما فى قضية سيد درويش، فهى بدأت منذ عام، عندما تزامن ذلك مع الحديث عن مئوية سيد درويش، والاحتفالية الكبرى التى أقامتها لجنة الثقافة فى نقابة الصحفيين، وكان مطلوبًا منى الحديث فى برنامج تليفزيونى عن سيد درويش، فجئت بكتاب من مكتبتى، وبدأت مراجعة بعض التواريخ والأحداث فيه عن سيد درويش.
الكتاب هو «سيد درويش- حياته.. وعبقريته»، تأليف الدكتور محمد أحمد الحفنى، وهو والد الدكتورة رتيبة الحفنى، وفيه بدأت أتوقف أمام بعض المعلومات، وكان أخطرها هو قوله إن «سيد درويش هو صاحب كلمات بلادى بلادى.. لكِ حبى وفؤادى»، إلى جانب «زورونى كل سنة مرة» و«أنا هويت» و«عشقت حسنك»، وغيرها من الأعمال المتعارف ومُثبت فى جمعية المؤلفين والملحنين أنها كلمات الشاعر محمد يونس القاضى.
هنا توقفت، وبدأت رحلة البحث بين أروقة أرشيف الصحف، وفى وزارة العدل، ودار الكتب والوثائق، واستمرت رحلة البحث أسابيع، ثم امتدت إلى شهور، لاكتشف بعدها، وأنا أول من اكتشف ذلك، تزوير الوثيقة التى بها سجل يونس القاضى الكلمات، بعدما سطا عليها باسمه.
وهى «ولا وثيقة ولا حاجة»، وكما سبق أن قلت، اكتشفت أن اليوم الذى قال فيه «القاضى» إنه حرر ووثق هذه الوثيقة، كان يوم جمعة. وبهذا الدليل، مع دلائل أخرى، أثبت للرأى العام تزوير يونس القاضى. وعلى جمعية المؤلفين والملحنين ألا تعاند وتكابر، وتعلن مراجعة أوراق هذه الجريمة، حتى يعود الحق إلى صاحبه.
■ بجانب موسيقاه، سلطت الضوء على «سيد درويش الشاعر».. هل وضحت الأمر للقارئ أكثر؟
- موهبة سيد درويش فى كتابة الشعر والأغانى بدأت ملامحها تتشكل بداخله منذ الصغر، وظهرت مع عشقه وحبه لـ«جليلة»، ثم تجلت وتخلت عن عشق المرأة والذات والنزوات إلى عشق الوطن وترابه وناسه الطيبين، مع بدايات ثورة ١٩١٩. يقول نجيب الريحانى عن شعره: «لمحت فيه اتجاهًا جديدًا وروحًا جديدة بل فنًا جديدًا يسمو على كل ما عداه مما سبق».
وعندما شب واندمج فى الحياة العملية والغنائية، بدأت تظهر هذه الموهبة فى تأليف الأشعار أو الأدوار الغنائية، التى عبّر من خلالها عن الحب والشوق والعشق، لمحبوبته ذائعة الصيت «جليلة»، وجمالها وفتنتها. وكما يقول زكى طليمات: «القلب لو لم يُعذب لا يصنع نغمًا»، ولقد تعذب وتألم قلب سيد درويش، فقدم لنا النغم، النغم فى الكلمة المكتوبة، والنغم فى الجملة الموسيقية.
ويؤكد الدكتور محمود أحمد الحفنى موهبة الشعر لدى سيد درويش، قائلًا: «إن موهبته الفنية كانت تتعدى التلحين الموسيقى إلى تأليف الزجل والشعر، فكان ينظمهما مُعبرًا عن الحوادث التى تقع له، أو التى ينفعل بها».
ثم يقول: «ومن الدلائل على المستقبل الذى كان ينتظره فى مجال التأليف الأدبى، كما هو فى المجال الفنى، أنه نظم عددًا من الأناشيد الوطنية لها قيمتها وأثرها، فى وقت كانت تلك الأناشيد مقتصرة فى الغالب على ما يقال فى تمجيد الحكام والسلاطين».
ثم يفجر، أو يؤكد المؤكد، عندما يقول: ومن ذلك نشيد «بلادى بلادى»، الذى أصبح بعد ذلك النشيد القومى، واستوحاه الفنان سيد درويش من الكلمة الخالدة لمصطفى كامل «بلادى– بلادى»، ليجارى فيه الوزن والقافية.
■ أشرت إلى أن يونس القاضى بدأ ما يشبه «الحرب» ضد سيد درويش.. كيف حدث ذلك؟
- إن الشاعر محمد يونس القاضى، فى تمهيده للسطو على تراث سيد درويش الشعرى فيما بعد، كتب مقالًا فى مجلة «المسرح»، بعد وفاة سيد درويش بـ٣ سنوات، قال فيه: «أبرئ الشيخ سيد من تهمة التأليف التى رماه بها من رثوه ونسبوا إليه ما لم يقله»... وكأن التأليف تهمة!!
ثم عاد يونس القاضى وناقض نفسه، فى حديث له مع محمد التابعى، فى صحيفة «أخبار اليوم: عندما قال عن «جليلة»: «وقد خطفها من سيد درويش صائغ اسمه محمد عباس، وأغدق عليها الهدايا الذهبية، ما حمل سيد درويش على هجائها فى إحدى الأغانى التى كانت تتردد فى الإسكندرية»... إذن يكتب الشعر، فكيف ينفى عنه ذلك فى حديث سابق؟!
بذلك التصريح من الشاعر محمد يونس القاضى، وغيره من تصريحاته وتلميحاته وإشاراته، يكون قد بدأ الحرب ضد إبداع سيد درويش الشعرى، ومحاولة نفى القدرة الإبداعية الشعرية عنه، وهى حرب بدأها من سنة ١٩٢٦، تمهيدًا لنسب هذه الإبداعات إلى نفسه.
وحسب ما جاء فى كتاب الدكتور حسن درويش، تتضمن الأغانى التى جرى السطو عليها من قبل محمد يونس القاضى: «فى شرع مين، والحبيب للهجر مايل، يا أمى ليه بتبكى؟، وبصاره براجة، وضيعت مستقبل حياتى، وأنا هويت، وزورونى كل سنة مرة، وبلادى بلادى»، وغيرها من الأغانى التى سجلها «القاضى» لنفسه فى جمعية المؤلفين والملحنين، وذلك بشهادة مزورة.
■ ذكرت أن جريمة السطو على أشعار سيد درويش واضحة، لكن الجميع تغافل عنها، كيف حدث هذا؟ ولصالح من هذا الصمت فى رأيك؟
- حرب الشاعر محمد يونس القاضى ضد سيد درويش وإبداعه الشعرى لم تكن حربه هو وحده، فكما يقول الكاتب يوسف حلمى، فى سلسلة مقالات نُشرت له فى مجلة «الكاتب»: «كان هدف من أهداف الاحتلال والسراى والإقطاع حصار تراث سيد درويش ومحاربته».
ودلل يوسف حلمى على ذلك بما فعله أصحاب «نادى الموسيقى الشرقى»، وكانوا من الأتراك المتمصرين، والذين ناصبوه العداء، عندما رفضوا الاعتراف به وبموسيقاه، واتهموه بـ«الفرنجة» و«تمييع» الموسيقى.
فعلوا ذلك لأن سيد درويش شارك مشاركة جبارة فى ثورة ١٩١٩، وكان كما يقول يوسف حلمى «أحد قادتها الحقيقيين». ولقد غنى بلسان الشعب وفئاته الفقيرة الكادحة، ولم يدع طائفة منها، حتى ماسحى الأحذية غنى لهم.
ويؤكد يوسف حلمى أن «معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية، طيلة ثلاثين سنة، جعل تراث سيد درويش مُحرمًا على طلاب الموسيقى، ليس فقط بمعنى تحريم تدريسها للطلاب، وإنما بعقاب من يُضبط من الطلبة مترنمًا بلحن لسيد درويش».
هذا المنع والحجب والحصار امتد إلى الإذاعة المصرية، منذ عام ١٩٣٤، إذ كانت تذيع نشيد «بلادى بلادى» بصوت محمد البحر ابن الشيخ سيد درويش، على أنه من تأليف بديع خيرى، لكنه- أى بديع خيرى- ذهب إلى دار الإذاعة ونفى تأليفه للنشيد. ومن المؤكد أنه قال لهم إن كاتبه هو سيد درويش. ومن المؤكد أيضًا أن الإذاعة، أو الموظف، رفض ذكر اسم سيد درويش، فى إطار الحصار الذى فرض على إبداعه من سلطات الاحتلال.
ومن هنا استغل الشاعر محمد يونس القاضى ذلك، وبدأ سعيه لمحو اسم سيد درويش من تأليف الأغانى وكتابة الشعر، وقد نجح بالتزوير، لنجد أنفسنا، والتاريخ معنا، أمام جريمة حقيقية كاملة ومكتملة الأركان، لكنها، شأن جرائم كثيرة فى التاريخ، جريمة بلا عقاب حتى الآن.