بوداود عميّـر: «الومضة القصصية» البديل الإبداعى فى عصر السرعة
- بقدر ما تهتم الأمم بالترجمة بقدر ما تضمن أسباب تطورها ونهضتها
- وجدت ضالتى فى «القصة القصيرة جدًا» بعد إخفاقى فى الشعر والرواية
- إن كانت هناك 5 كتب ألهمت البشرية حتمًا سيوجد بها «ألف ليلة وليلة»
- يعقوب صنوع وراء تعلق إيزابيل إيبرهارت باللغة العربية والثقافة الإسلامية
تتعدد اهتمامات الكاتب الجزائرى بوداود عميّــر، بين الترجمات والكتابة السردية القصصية، خاصة القصة القصيرة جدًا المعروفة أيضًا بـ«الومضة القصصية»، التى يرى أنها ستكون البديل الإبداعى فى عصر السرعة والثورة الرقمية. وشدد «عميّر»، فى حواره مع «حرف»، على أهمية «كتاب ألف ليلة وليلة»، ليس فى الشرق فحسب، بل على مستوى العالم كله، حتى أنه «لو كانت هناك 5 كتب ألهمت البشرية، حتمًا سيكون من بينها هذا الكتاب». وتحدث المترجم والقاص الجزائرى عن الشاعرة صافية كتو، التى أقدمت على الانتحار إثر «العشرية السوداء» فى الجزائر، التى حصدت العديد من المبدعين والمثقفين هناك، ليأتى انتحارها كرفض احتجاجى، وكيف كانت مأساتها مُلهمة لمواطنها الروائى واسينى الأعرج، فى روايته «سيّدة المقام». كما تحدث عن الرحّالة السويسرية إيزابيل إيبرهارت، حيث خصص جزءًا كبيرًا من وقته وعمله فى تقصى سيرتها الذاتية، ورحلتها الفريدة فى الجزائر، مبينًا كيف كان لرائد المسرح المصرى يعقوب صنوع دور فى تعلمها اللغة العربية وتعلقها بالثقافة العربية والإسلامية.
■ تتنوع أعمالك المنشورة بين الترجمة والكتابة وأغلبها ينتمى إلى فن القصة.. لماذا اخترت فنًا لا يتهافت عليه القراء؟
- دعينى أولًا أن أعبر لك عن امتنانى بوجودى ضيفًا على صفحات مجلة «حرف» الثقافية الإلكترونية، التى صرتُ حريصًا على قراءتها كل أسبوع، منذ أن اكتشفت مصادفة أحد الأعداد، وبه تحقيق إعلامى شامل لفت انتباهى، لجرأته وحججه المنطقية وأدلته الموثقة، أُنجِز بناءً على بحث وتنقيب دقيق فى أرشيف الصحف والمجلات، كان قد كتبه الإعلامى القدير محمد الباز، عن كتاب شهير لأنيس منصور، أو «الظاهرة» كما وصفه.
وعندما كتبت عن ذلك على صفحتى فى «فيسبوك»، لفت المقال انتباه الجميع، وأثار نقاشًا واسعًا. كما نالت المجلة ترحيب الجميع، ليس فقط لتنوّع موادها الثقافية وثرائها، ولغة كتابتها التى تقف بمنأى عن اللغة الأكاديمية، ولكن أيضًا فى إخراجها وتصميمها، لتثبت «حرف» بتجربتها الرائدة، أنه بإمكان المجلة الثقافية الإلكترونية أن تكون بديلًا حقيقيًا للمجلة الورقية، التى تعرف اليوم تراجعًا كبيرًا، إن لم أقل «انتكاسة» حقيقية، فى مشهدنا الإعلامى والثقافى العربى.
أعود إلى سؤالك عن القصة القصيرة جدًا، التى كأننى عثرت على ضالتى الإبداعية فيها، بعد أن أخفقت محاولتى فى الكتابة الشعرية والرواية، لأكتب العديد من القصص القصيرة جدًا، التى أتيح لها النشر فى الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية فى الجزائر والعالم العربى.
القصة القصيرة جدًا، أو «ق. ق. ج» كما تُختصر، هى نوع أدبى برز حديثًا، وأتاحت انتشاره مواقع التواصل الاجتماعى، بما تتمتع به من خاصيات التكثيف والإيجاز والمفارقة، وبالطبع القُصر. لذا سرعان ما نشرت معظم نصوصى فى هذا الإطار، ضمن مجموعتين قصصيتين، الأولى «صوب البحر» الصادرة فى الجزائر عام ٢٠١٦، و«نزق» الصادرة فى فرنسا عام ٢٠٢٣.
وأتصوّر أن القصة القصيرة جدًا أو الومضة ستكون البديل الإبداعى، فى عصر السرعة والثورة الرقمية، وفى ظل تراجع المقروئية، ما عدا الرواية، فالزمن بات «زمن الرواية» بتعبير الكاتب الراحل جابر عصفور.
■ عبر حسابك فى «فيسبوك» أشرت إلى أن «ألف ليلة وليلة» ما زالت «ملهمة البشرية»، فإلى أى مدى يمتد أثرها فى الأدب العربى والغربى؟
- قلت بالتحديد: إن كانت هناك ٥ كتب أدبية فى تاريخ الأدب العالمى، أثّرت وأدهشت وألهمت البشرية، سيكون كتاب «ألف ليلة وليلة» بينها حتمًا، منذ أن ترجمه المستشرق الفرنسى أنطوان غالون إلى اللغة الفرنسية، فى عام ١٧٠٤.
فبعد هذا التاريخ توالت الترجمات العالمية، وتعددت طبعات الكتاب بملايين النسخ، إلى جانب مئات المسلسلات والأفلام وأعمال الرسوم المتحركة عبر العالم، مقتبسة من هذا الكتاب العظيم، الذى أصبح يُهدى فى المناسبات والأعياد فى الغرب، على شكل كتاب فاخر.
يخبرنا أنيس منصور فى كتابه المثير: «فى صالون العقاد كانت لنا أيام»، أنه التقى الكاتب الإنجليزى المعروف سومرست موم، صاحب كتاب «روائيون عظام ورواياتهم»، المُترجَم إلى اللغة العربية، أثناء زيارته مدينة القاهرة، فسأله إن كان يعرف شيئًا عن الأدب المصرى والعربى عمومًا، إن كان قد قرأ لعباس محمود العقاد مثلًا، لكنه أجاب بالنفى. كذلك لم يقرأ لطه حسين ولا محمود تيمور ولا توفيق الحكيم، رغم أن كتبهم مترجمة إلى عشرات اللغات. سأله: «ماذا قرأت باللغة العربية إذن؟»، فأجابه: «قرأت ترجمة لكتاب: ألف ليلة وليلة».
■ ترجمت للرحالة السويسرية إيزابيل إيبرهارت مجموعة قصصية بعنوان «يا سمينة»؟ ما الذى قادك للكتابة عن هذه الشخصية؟
- لعل الفضول هو الذى قادنى فى البدء نحو التعرف على شخصية إيزابيل إيبرهارت، فعلى بُعد أمتار من منزلى فى مدينة «العين الصفراء» بالجنوب الغربى الجزائرى، تقع مقبرة المسلمين القديمة، حيث يوجد قبر «إيزابيل» باعتبارها ماتت مسلمة.
من هنا انطلقت رحلة بحثى عن حياتها وكتاباتها ورحلاتها، كنت أتصورها قصيرة كقصر حياتها، تنتهى بمجرد إرضاء جزء من فضولى. لكننى وجدت نفسى أمام شخصية متفردة حافلة بالألغاز، تحرض على الغوص فى أسرارها كإنسانة وكصحفية ورحالة.
وقتها كان يدور فى خلدى سؤال كبير: كيف استطاعت هذه المرأة الأوروبية أن تترك مسقط رأسها مدينة جنيف السويسرية، بهدوئها وجمالها، وحيث تعيش فى كنف عائلة ميسورة الحال، لتنتقل فجأة، وفى عز شبابها، صوب الصحراء الجزائرية، تجوبها من أقاصى الشرق إلى أقاصى الغرب على متن حصان؟!
هاجسها المركزى فى البدء كان محاولة اكتشاف عالم آخر، لكن سرعان ما انتهى بها الأمر متورطة فى مواجهة قضايا إنسانية ترتبط بمظاهر الظلم والاستبداد الذى مارسه المستعمر الفرنسى فى حق الجزائريين.
ورغم صغر سنها «توفيت عن عمر يناهز ٢٧ سنة»، تمكّنت إيزابيل إيبرهارت من إنجاز العديد من الأعمال الأدبية المتميزة فى القصة والمقالة الصحفية والرحلات، وتميزت نصوصها خاصة بعنصر المزج بين التحقيق الصحفى والسرد التوثيقى، لتصبح بمثابة شهادات حية، تحيط بتفاصيل الوضع الاجتماعى للجزائريين فى هذه الفترة، حتى توفيت فى بلدة «العين الصفراء» بالجزائر، بعد أن جرفها واديها، فى أكتوبر ١٩٠٤.
و«إيزابيل» بمثابة حلقة وصل بين الشرق والغرب، وليس غريبًا أن تصدر عن حياتها ومنجزها عشرات الكتب، فى فرنسا وإيطاليا وأوروبا، إلى جانب أفلام سينمائية وأشرطة وثائقية. كما اختارها الأديب المصرى محمود قاسم كأول شخصية عالمية، ضمن قائمة الشخصيات الأدبية والتاريخية فى العالم التى دافعت عن الإسلام، فى كتابه «الإسلام والمسلمون فى الأدب العالمى».
■ هل صحيح أن يعقوب صنوع وراء اعتناق إيزابيل إيبرهارت الإسلام وتعلمها اللغة العربية؟
- كان لرجل المسرح المصرى يعقوب صنوع، المعروف باسم «أبونظارة»، الأثر الحاسم على إيزابيل إيبرهارت فى تعلم اللغة العربية، والتعلق بالثقافة العربية الإسلامية، بعدما أطلعها على كنوز الأدب العربى، ولقنها اللغة العربية، خلال المراسلات التى جمعت بينهما لمدة تقترب من ٣ سنوات.
تقول الكاتبة الفرانكو جزائرية سيمون رزوق عن هذه العلاقة: «كان أبونظارة المراسل ثم الصديق الحميم لإيزابيل إيبرهارت. كان يستقبلها عندما تأتى إلى باريس، وكان يساعدها ماليًا عندما كانت تحتاج إلى المساعدة».
«إيزابيل» من جهتها، اعترفت بأفضال الرجل عليها، ودوره الكبير فى تحديد تفكيرها ومسار وعيها. ففى رسالة موجهة منها إلى يعقوب صنوع، أوردتها إيدموند شارل رو، الكاتبة الفرنسية الكبيرة التى أصدرت ٣ كتب ضخمة عن سيرة وأعمال «إيزابيل»، تقول: «لقد كنت واحدًا من الرجال القلائل الذين شجعونى نحو الإقبال على العلوم والدراسات الشرقية، الغالية على قلبى، لن أنسى ذلك، وسأبقى دائمًا ابنتك المثقفة التى تحترمك وتقدّرك حق التقدير، أتمنى أن أثبت لك ذلك ذات يوم، إن شاء الله».
■ تصطبغ رحلات الرحالة الغربيين للشرق بمسحة استخباراتية.. فهل كانت «إيبرهارت» تنتمى لهذه النوعية؟
- تعرّضت إيزابيل إيبرهارت أيضًا لهذا الاتهام، لكن جميع من يطلع على كتاباتها سيكتشف أنها كانت تدافع عن السكان الجزائريين زمن الاستعمار، وتفضح ممارسات الاستعمار الفرنسى، وتحرص على الكتابة فى صحيفة «الأخبار» الفرنسية، المعروف عنها خطها الافتتاحى المدافع عن السكان الجزائريين والمعادى للاستبداد.
تزوجت من مسلم جزائرى واعتنقت الإسلام، من خلال انخراطها فى الطريقة الصوفية المعرفة باسم «القادرية». وفى وقتها، كان هناك كُتاب فرنسيون كبار فى الجزائر، مثل موباسان وأندريه جيد، لم يكتبوا شيئًا عن معاناة السكان الجزائريين زمن الاستعمار.
■ إلى أى مدى تسهم وسائل التواصل الاجتماعى فى نشر الوعى الثقافى؟
- أحرص على صفحتى فى «فيسبوك»، منذ التحاقى بهذا الفضاء، على نشر كل ما هو ثقافى مفيد، جزائريًا وعربيًا، وهو ما جعلها تحظى بمتابعة واسعة، ويثنى على مضامينها جميع المتابعين لها.
وبذلك أرفض تصور البعض أن هذا الفضاء وُجد للتفاهة. شعارى فى ذلك «المساهمة بنصيبى»، وهو شعار أحد المفكرين الفرنسيين من أصول جزائرية، بيار رابحى، من خلال قصة أسطورية تقول: «فى يوم من الأيام، اندلع حريق مهول فى الغابة، أصاب الهلع الشديد حيوانات الغابة، والتى قبعت فى مكانها عاجزة أمام هول الكارثة. وحده طائر الكوليبرى الصغير بدا نشطًا، يلتقط قطرات الماء بمنقاره الصغير، ليرميها فوق النار، لم يكل ولم يتعب، وسرعان ما صاح أحد الحيوانات غاضبًا أمام عبث العصفور غير المجدى: ألست مجنونًا يا كوليبرى؟ لن تتمكن أبدًا بهذه القطرات أن تخمد الحريق! فأجاب العصفور: أدرك ذلك جيّدًا، ولكننى أساهم بنصيبى».
■ ما ردك على من يرى المترجم مجرد وسيط بين النص فى لغته الأصلية ومتلقيه.. ومتى يكون المترجم مبدعًا؟ ومتى «يخون النص»؟
- لعل عبارة «الترجمة خيانة» من العبارات الشائعة التى باتت تجرى على ألسنة الجميع، تستخدم جزافًا دون روية أو تبصر، قد يفهم منها تجنيًا أن الترجمة ليست ضرورية ولا طائل يرجى من ورائها، ما دامت تصنف فى خانة «الخيانة».
هذه المقولة يعود أصلها إلى تعبير إيطالى، وتوارت خلف تلاعب لفظى، أوجده تشابه بين كلمتى «الترجمة» و«الخيانة» فى اللغة الايطالية. لكنها تعنى فى الواقع خارج المحسنات اللفظية، كما تشرح فى سياق إطلاقها، أن ترجمة نص من لغة إلى أخرى، لا يمكن أن تتطابق مع نص العمل الأصلى، لذا يفضل قراءة العمل فى نسخته الأصلية، لنكتشفه كما أراده وأبدعه مؤلفه.
والترجمة كفعل ثقافى وحضارى عملية ضرورية لا مناص منها، بوصفها أداة أساسية لنقل العلوم والمعارف، وجسر تواصل بين شعوب العالم، إذ لا يمكن تصور شكل العالم والإنسانية دون ترجمة. وبقدر ما تهتم الأمم بالترجمة من وإلى جميع اللغات، بقدر ما تضمن أسباب تطورها ونهضتها.
■ لك اهتمام ملحوظ بالشاعرة الجزائرية المنتحرة صافية كتو. هل يمكنك أن تُعرف القارئ المصرى بها وبكواليس انتحارها؟
- ترجمتُ للشاعرة والإعلامية الجزائرية الراحلة صافية كتو مجموعتها الشعرية «صديقتى القيثارة»، التى صدرت عن دار «الوطن اليوم»، فى عام ٢٠١٧. اسمها الحقيقى الزهراء رابحى، ولدت فى مدينة جنوبية صغيرة، لم تسع طموحها فى قول الشعر بحرية، لتنتقل إلى الجزائر العاصمة، حيث نجحت كصحفية لامعة، قبل أن تستبد بها لحظات نفسية صعبة.
ألهمت مأساتها العديد من الكتاب والشعراء الجزائريين، من بينهم الكاتب المعروف واسينى الأعرج، من خلال روايته «سيّدة المقام- مراثى الجمعة الحزينة»، التى استحضر فيها مأساتها، عن طريق التلميح رمزيًا لعنصر الفراسة فى تنبؤها للقادم من المحن، من خلال اختيارها الإرادى لنهايتها، قبل أن تحصد آلة الاغتيال الإرهابية رفاقها من الكُتاب والإعلاميين، بعد سنوات قليلة من رحيلها، فيما يسمى «العشرية السوداء»... هى كما كتب «الأعرج» فى روايته «تشبه الكائنات البرية التى تتحسس عمق الأرض، ترقبًا لحدوث زلزال وشيك».
تذكرتها أيضًا الإعلامية والشاعرة اللبنانية جمانة حداد، فى كتابها «سيجىء الموت وتكون له عيناك»، الذى أحصت فيه ١٥٠ شاعرًا حول العالم، وضعوا حدًا لحياتهم خلال القرن العشرين، مثل سيلفيا بلاث وإيميلا روسيلى وتييرى ميتز ومايكوفسكى، إلى جانب مبدعين جزائريين تعرضا لنفس المصير، هما عبدالله بوخالفة وفاروق سميرة.
■ ما العمل الأحدث الذى تشتغل عليه حاليًا؟
- تقريبا أنهيت كتاب «حياة وآثار إيزابيل إيبرهارت»، وهو فى طور المراجعة والتدقيق، وسيتضمن معلومات وتفاصيل جديدة وبعض الصور والوثائق النادرة. كما أشتغل على كتابة عملين فى مجال «البيوغرافيا»، يتناولان حياة وأعمال كل من الشاعرة والإعلامية الراحلة صافية كتو، والباحث والمترجم عبدالباقى مفتاح، فى إطار سلسلة «أعلام الجزائر»، التى تشرف عليها دار النشر الجزائرية «الوطن اليوم»، بعد إنجاز كتابين فى هذا الصدد، صدرا فى عام 2023، الأول عن الباحث والمؤرخ الراحل خليفة بن عمارة، والثانى عن الناقد الجزائرى الكبير مخلوف عامر.