الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

جبهة المقاومة.. كيف تكافح نساء إيران من أجل الحرية؟

نساء إيران
نساء إيران

- تجسد النساء أو بالأحرى أجسادهن منطلقًا لتشريعات الدولة فى إيران

- الرئيس الإيرانى لا يستطيع مواجهة التيارات المتشددة والمسيطرة على مفاصل الدولة والمجتمع

- القانون يُغلظ العقوبة على النساء غير الملتزمات بارتداء الحجاب

«لم يوافقوا على تعيينى كأستاذة جامعية، رغم تفوقى، وتميزى الدراسى، لأننى لم أمارس يومًا العمل العام تحت سلطة قوات الباسيج (التعبئة)، كما أن لديهم علامات استفهام حول ولائى لنظام ولاية الفقيه، لأننى كتبت أكثر من مرة على صفحتى الشخصية أننى ضد فرض الحجاب بالقوة على النساء فى إيران، بل إن أحد أعضاء اللجنة المعممين، قالها لى صراحة: كونك امرأة لا يضمن لكِ العديد من الفرص المناسبة داخل الدولة، إلا إذا كنت منتمية لإحدى المؤسسات التابعة للحرس الثورى، كما أن موقفك من الحجاب الشرعى لا يبشر بخير».

هكذا أخبرتنى «زهراء» إحدى الصديقات من إيران، وهى فى غاية التأثر والإحباط، فبعد سنوات من الدراسة والتفوق، وتوقعها أن يتم تعيينها فى إحدى الجامعات الإيرانية، تم رفضها من قِبل لجنة الاختيار والتحكيم، بناء على الهوى والميول والانتماءات الفكرية والسياسية. كانت صدمتها الحقيقية فى أن معيار الكفاءة ليس هو الحكم النهائى فى شغل الوظائف داخل الدولة، ولكن الولاء الكامل للنظام، والمشاركة فى أحد الأنشطة التابعة لقوات الحرس الثورى أو الباسيج المسيطرة على مفاصل المجتمع ومختلف أنشطته التعليمية والثقافية، وعدم مخالفة النظام فى أى توجه أو رأى حتى ولو بشكل سلمى، هو الشرط الوحيد لضمان المستقبل للمرأة فى إيران.

قررت «زهراء» بعد هذه المرحلة أن تنتمى للحركات النسائية فى إيران، وأصبحت من أكثر المدافعات عن حقوق المرأة، ووظفت تخصصها فى علم الاجتماع لدراسة أشكال التعامل مع النساء داخل المجتمع، وبعد أن كانت بعيدة كل البعد عن كل ما هو سياسى، شاركت فى مختلف الأنشطة المعارضة للنظام، مثل الاحتجاجات التى اجتاحت إيران بعد مقتل «مهسا أمينى» عام ٢٠٢٢، على يد شرطة الأخلاق؛ نتيجة لعدم ارتدائها الحجاب الشرعى، كما نص عليه القانون الإيرانى. وصولًا إلى دعمها الكامل للمرشح الرئاسى «مسعود بزشكيان» ٢٠٢٤، الذى أصبح رئيسًا للجمهورية الآن، بعد أن قرر مغازلة ناخبيه من النساء واللائى يشكلن ما يقارب الـ٥٠٪ من الكتلة الانتخابية فى إيران، وصرح بشكل مباشر بأنه ضد فرض الحجاب الإجبارى على النساء، ورفضه قانون العفة، الذى لم يكن قد تمت الموافقة عليه من قبل مجلس «صيانة الدستور» آنذاك، بل إنه أعلن مرارًا عن رفضه لممارسات شرطة الأخلاق ضد النساء غير الملتزمات بالحجاب. لكن ونتيجة لعديد من الضغوطات الداخلية على الرئيس المعتدل الجديد، ذهبت وعوده أدراج الرياح، وتم الموافقة فى سبتمبر الماضى على «قانون العفة» بشكل نهائى، الذى يُغلظ العقوبة على النساء غير الملتزمات بارتداء الحجاب، قد تصل إلى المنع من السفر أو السجن فى بعض الأحيان، والغرامات التى قد تصل إلى ٥٠٠ مليون ريال إيرانى، واتسع نفوذ شرطة الأخلاق، وأصيبت «زهراء» بإحباط جديد، يُضاف إلى سجل إحباطات طويل تعانى منه المرأة الإيرانية.

من الشاه إلى آيات الله

تجسد النساء أو بالأحرى أجسادهن، منطلقًا لتشريعات الدولة فى إيران، سواء فى العهد الملكى أو حكم رجالات الدين بعد ذلك. فرغم محاولات نظام الشاه «الدولة البهلوية قبل الثورة» أن يبدو أكثر ميلًا للحداثة، ومحاولاته إنشاء محاكم للأسرة التى اعتمدت على قوانين سُنت لصالح المرأة من وجهة نظره، مثل قانون «حماية الأسرة»، الذى نالت النساء من خلاله الكثير من حقوقهن على المستوى النظرى، خاصة فيما يتعلق برفع سن الزواج من ١٣ إلى ١٨ سنة، ومنع تعدد الزوجات إلا بموافقة الزوجة كتابيًا، وأحقية المرأة فى شغل مناصب القضاء، ولكن جاء التطبيق سطحيًا للغاية على جميع قطاعات المجتمع . ففى المقابل مارس نظام الشاه قمعًا على المرأة بشكل واضح، فقد أمر رجال الشرطة، أن يُنزع الحجاب بالإجبار من على رءوس النساء فى الطرقات، ومنع ظهور أى امرأة محجبة فى الأماكن العامة والدوائر الحكومية، وأجبرهن على الظهور بالملابس ذات السمت الغربى، وتعاقب قانونًا بالحبس أو الغرامة كل من تخالف توجهات الدولة.

تلك التوجهات كانت سببًا فى قيام الثورة بطابعها الإسلامى، والتى شارك فيها النساء من الطبقات الأكثر بعدًا عن المدن التى يُطبق فيه قانون الشاه، واشتركت كذلك الحركات النسوية التى تأسست فى العهد الملكى، فى الثورة ضد النظام. واستطاع رجال الدين المزج فى شعارات الثورة بين القضايا الوطنية وفساد الشاه ونظامه والأفكار الدينية، خاصة المتعلقة بقضية الحجاب، وغيرها من قضايا المرأة.

بمجرد وصول رجال الدين إلى الحكم، قرر الخمينى ١٩٨٠ إلغاء قانون حماية الأسرة، وتخفيض سن الزواج إلى ٩ سنوات، والأهم فرض الحجاب الإجبارى على النساء. فقامت الدنيا ولم تقعد، وبدأت مظاهرات احتجاجية نسائية الطابع باجتياح إيران، وبعد العديد من المصادمات بين آيات الله والمتظاهرات، تأجل إلغاء القانون لمدة عام واحد فقط ١٩٨١، وظهر ما يُعرف بشرطة الأخلاق، التى تكونت فى البداية من الجماعات الدينية، التى شاركت فى الثورة، وشكلت ضغطًا هائلًا على النظام والمجتمع فيما بعد، وأصبحت المرأة هى المجال الأهم فى إحكام سيطرة رجال الدين على المجتمع، ومحاولة عزل النساء عن المجال العام، وحصرهن داخل المنزل، وظهر قانون يُحرم الإجهاض، وقد يصل إلى الإعدام فى حق كل من يسهم فيه. وتطبيق حد الرجم على النساء فى حال ثبوت قضية الزنا، ورفض مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة، وبدأ فصل جديد من الملحمة النسائية أمام دولة آيات الله.

الحركات النسائية بعد الثروة

ظهر العديد من الحركات النسائية بعد الثورة، حاولت المرأة من خلالها أن تحصل على جانب من حريتها فى ظل رجال الدين، والغريب فى الأمر أن المعارضة لقمع المرأة جاءت من التيار الدينى ذاته، خاصة التيار الأكثر اعتدالًا داخل الحوزة الدينية، فمثلًا تأسست حركة بقيادة «السيدة أعظم طالقانى» ابنة «آية الله محمود طالقانى» المتوفى فى بداية الثورة، والمعارض للتوجهات المتشددة للخمينى، رغم أن «طالقانى» كان الخطيب لأول صلاة جمعة تُقام بعد الثورة.أسست ابنة طالقانى مؤسسة «النساء المسلمات»، التى عارضت من خلالها فرض الحجاب الإجبارى على النساء مع عدم الدعوة إلى خلعه، لكن حاولت تدعيم مبدأ الحرية فى اختيار الحجاب من عدمه. وساعدتها فى ذلك الناشطة «زهرا راهنورد» زوجة «مير حسين موسوى» مؤسس الحركة الخضراء التى ظهرت فى إيران بعد انتخابات «أحمدى نجاد» ٢٠٠٩. ورغم أن تلك المؤسسة تم إغلاقها أكثر من مرة فى عهد «نجاد»، إلا أنها عادت إلى العمل بعد ذلك بقيود شديدة من قبل الدولة.

وفى المقابل ظهر التيار النسائى الأميل للأفكار الليبرالية، متمثلة فى العديد من الناشطات المساهمات فى إصدار مجلة «زنان» «النساء»، وهى أكثر ارتباطًا بالحركات النسوية العالمية من حيث الفكر والمبادئ، فتم توقيفها ومنع ظهورها ورفض رجال الدين فى قم توجهات المجلة، بعد تناولها قضية الحق فى الإجهاض، ورفض فكرة الحجاب الإجبارى. وظهر بالتبعية العديد من الحركات النسائية التى عارضت توجهات الدولة منذ ذلك الحين، لكن ظلت دائمًا تعانى من قمع الدولة، أو رجال الحوزة الدينية، وتحول الأمر تدريجيًا إلى ظهور جيل جديد من الفتيات والنساء، اللائى قررن أن يتجاوزن سلطة الدولة، ويبتعدن عن أى سياق رسمى، يعترف بشرعية وجودهن، فاتجهن إلى الصدام المباشر مع النظام، فى مشاهد تمردية لها العديد من الدلالات.

«زن، زندكى، آزادى»

عام ٢٠١٧، قررت فتاة تُدعى «فيدا موحد» أن تقف على صندوق كهرباء فى ميدان «انقلاب» «الثورة» أكبر الميادين فى طهران، لتخلع حجابها الأبيض اللون، ولوحت به أمام الجميع فى وجه الدولة والمجتمع، فتحولت إلى أيقونة للثورة النسائية آنذاك، وتأسست حركة شعبية تحت مسمى «فتيات شارع انقلاب»، رغم الحكم بالسجن والغرامة المغلظة على «فيدا»، إلا أن العديد من الفتيات قمن بنفس الفعل، فى العديد من ميادين إيران، لكن قرر النظام أن يتعامل بمنتهى العنف الأمنى مع الحركة الوليدة. الغريب أن تلك الحادثة وما أعقبها تمت فى عهد الرئيس المعتدل الإصلاحى «حسن روحانى»، الذى لم يستطيع أن يُحرك ساكنًا أمام سطوة آيات الله فى ذلك التوقيت، مما قد يذكرنا بمشهد «مسعود بزشكيان» وقانون الحجاب الإجبارى.

امتدت فكرة «فتيات شارع انقلاب» لتتطور إلى حركة أخرى ظهرت على مواقع التواصل الاجتماعى «التى يحاول النظام السيطرة عليها قانونًا»، وانعكست داخل الشارع، بقيادة ناشطة نسوية تُدعى «معصومة على نجاد»، التى أسست حركة «الأربعاء الأبيض»، ودعت خلالها لأن ترتدى النساء كل يوم أربعاء، حجابًا باللون الأبيض فقط، إعلانًا عن رفض الحجاب الإجبارى، مع عدم خلع الحجاب حتى لا يتعرضن لقمع أو مضايقات أمنية مثلما حدث مع «فيدا موحد»، ونجحت تلك الحركة نسبيًا فى إيران، ورغم أن «معصومة» تعيش فى الولايات المتحدة الأمريكية، لكن كان لها تأثير على الداخل بشكل ملحوظ بالتنسيق مع الحركات النسائية فى الداخل، ما أدى إلى ممارسة النظام آليات قمعية مختلفة، فقد سعى بشكل قوى إلى السيطرة على شبكات التواصل الاجتماعى، وتم سن القوانين التى تمنح الدولة شرعية حجب الإنترنت، ومتابعة حسابات النشاطات فى الداخل وعلاقتهن بمثيلاتهن فى الخارج، وإصدار العقوبات القانونية لكل من يثبت تورطه فى أى حركة ضد توجهات الدولة، وتحول الأمر تدريجيًا إلى مزيد من محاولات السيطرة على الحركات النسائية، أو أى مطالبات بالحرية.

وفى عام ٢٠٢٢، فى عهد الرئيس السابق «إبراهيم رئيسى» ظهرت الحركة النسائية الأهم خلال السنوات السابقة، وهى «المرأة، الحياة، الحرية» «زن، زندگی، آزادی»، كردة فعل على مقتل «مهسا أمينى»، وهى الحركة الأكثر تأثيرًا وانتشارًا، فرغم إخماد الاحتجاجات آنذاك، بعد مقتل ما يقارب الـ٥٠٠ شخص، إلا أن الحركة امتدت بعد ذلك على المستوى المحلى والدولى، وتحولت إلى حركة شبه عالمية للتضامن مع حقوق المرأة فى جميع دول العالم، خاصة دول الشرق، وتضامنت الحركة مع القضايا النسوية فى الإقليم، مثل قضايا المرأة الفسطينية أمام الاحتلال الصهيونى على سبيل المثال.

ومن ضمن قيادات الحركة «نرجس محمدى» التى نالت جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٢٣، لدعمها حركات التحرر النسوى فى إيران، ورغم أن نرجس قابعة فى السجون الإيرانية بتهم مثل تهديد السلم الاجتماعى، والدعوة إلى الفتنة، إلا أنها تحولت إلى رمز نسائى، داخل إيران وخارجها، وأصبح للحركة حضور قوى فى الداخل الإيرانى، وظهر العديد من الدعوات لخلع الحجاب والصدام المباشر مع شرطة الأخلاق.

الأمر لم يتوقف، الآن، فقط على مهاجمة النساء فى الشوارع أو الميادين العامة، ولكن كما أخبرتنى الصديقة الإيرانية «زهراء» أن المحلات والمطاعم الآن، تعلق لافتة أنها لن تقدم خدماتها لغير الملتزمات بالحجاب الشرعى، لأن عناصر الشرطة والباسيج لهم السلطة القانونية لمداهمة وغلق أى محل أو مطعم يقدم خدماته لنساء غير مرتديات الحجاب الشرعى. كما يحرمن من استخدام المواصلات العامة، أو دخول الهيئات الحكومية، أو حتى ممارسة حقهن الانتخابى حال أى استحقاق انتخابى تشريعى أو رئاسى. أى حصار كامل لأى صوت نسائى يعلو على صوت آيات الله، على حد تعبيرها.

جواهر الله وثروة الحرية

تبنت الحركات النسائية فى الخارج الحركات النسائية فى الداخل الإيرانى، فبعد محاولات القمع التى تمت ممارستها على الإيرانيات، انتقلت القضية برمتها إلى النشاطات النسويات والجمعيات الحقوقية فى الدول الغربية، وبدأ فصل جديد من مناصرة النساء فى إيران، وصدرت مجموعة كبيرة من الكتب والأبحاث، التى كان لها صدى قوى على الحركة النسائية الإيرانية محليًا ودوليًا. يُعد كتاب «جواهر الله.. الحكايات المسكوت عنها للنساء فى إيران»Jewels of Allah : The Untold Story of Women in Iran، للكاتبة الإيرانية «نينا أنصارى»، الإيرانية الأمريكية، والناشطة المدافعة عن حقوق المرأة، والأستاذة فى جامعة كمبردج، من أهم الكتب التى تشير إلى طبيعة تعامل المجتمع والنظام للنساء فى إيران، فحاولت من خلال الكتاب أن تقدم تحليلًا اجتماعيًا وسياسيًا لواقع المرأة فى الداخل. تم ترجمة الكتاب إلى الفارسية، وأصبح له حضور قوى بين المنتميات للحركة «المرأة والحياة والحرية»، وبطبيعة الحال تم منعه من التداول داخل إيران، ولكن له وجود كبير على شبكات التواصل الاجتماعى، والجدير بالذكر أن «نينا أنصارى» هى ابنة « هوشنج أنصارى» آخر وزير اقتصاد قبل الثورة الإسلامية.

ومن الكتب المهمة التى تؤرخ لمرحلة احتجاجات «مهسا أمينى» كتاب «ثورة المرأة والحياة والحرية فى إيران» للكاتب الإيرانى بهرام رحمانى، وهو صحفى وناشط له توجهات يسارية مقيم الآن فى السويد، يرصد من خلال كتابه مشاهدات المعاصرين لفترة الاحتجاجات، وأهم الأسماء التى تم احتجازها، وتطور الحركة النسائية فى إيران، وأزمات القمع المرتبطة بالحجاب الإجبارى. ويرصد فكرة غاية فى الأهمية مرتبطة بأن النظام الإيرانى ليس له وجه إصلاحى، كما يحاول تقديمه فى أشخاص رؤساء الجمهورية، أمثال «محمد خاتمى» أو «حسن روحانى»، وصولًا إلى «مسعود بزشكيان»، فكل الأوجه التى تبدو معتدلة أو إصلاحية تنتمى فى عمقها إلى التيار المتشدد أو الأصولى على أفضل تقدير، فأغلب الحركات الاحتجاجية فى إيران تم قمعها أمنيًا وعسكريًا فى عهد رؤساء لهم سمت إصلاحى. المرأة فى إيران وقضية الحجاب تحديدًا، هما المرصد الحقيقى لتطور الحياة السياسية أو الاجتماعية، فرغم محاولات الرئيس الحالى أن يقدم بعض العناصر النسائية داخل تشكيل حكومته الجديدة، لكنه فى العمق لا يستطيع مواجهة التيارات المتشددة والمسيطرة على مفاصل الدولة والمجتمع. فما زالت « زهراء» والكثيرات أمثالها فى حالة غليان اجتماعى، قد ينفجر فى لحظة تاريخية، تُعيد صياغة الواقع فى إيران.