الأربعاء 27 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

محمد البساطى.. الوجود عبر الكتابة

محمد البساطى
محمد البساطى

- كان لمحمد البساطى صوت سردى لا يشبه غيره يظهر فى لغته الدالة المكثفة

- كتاباته مفعمة بشجن خاص ورغبة عارمة فى معانقة الحرية

من حين لآخر تبدو استعادة كتّابنا ضرورة نقدية حيوية لا تذكّر الأجيال الجديدة بنماذج الكتابة المصرية البازغة فحسب، لكنها تعين على فهم أكبر لتحولات الأدب، ومساراته، وتعزز من قيمة رمزية مفتقدة إلى حد كبير فى واقعنا الثقافى والأدبى. 

وقد مرت ذكرى رحيل محمد البساطى مثل ميلاده «نوفمبر ١٩٣٧، يوليو ٢٠١٢» بلا صخب أو ضجيج، على الرغم من الأثر الذى تركه من جهة، والاحتفاء النقدى والصحفى الذى صاحب أعماله الأدبية من جهة ثانية أثناء حياته. 

أذكر مثلًا أننى حين كتبت فى صحيفة الحياة اللندنية، التى شرفت بأن أكون أحد كتابها حتى قبيل توقف صدورها، مقالًا مطولًا عن أجيال القصة المصرية وتياراتها الأدبية، بمناسبة المؤتمر الدولى للقصة القصيرة فى العام ٢٠٠٩، فى المجلس الأعلى للثقافة، والذى نطالب بإعادته مرة أخرى إلى الوجود- وضع المشرف على الصفحة الأدبية الشاعر والروائى والصحفى اللبنانى المعروف عبده وازن صورًا لكتّاب بارزين كان أحدهم البساطى، بالإضافة إلى يوسف إدريس، ويوسف الشارونى حسبما أتذكر.

كان لمحمد البساطى صوت سردى لا يشبه غيره، يظهر فى لغته الدالة المكثفة، التى لا تعرف التقعير، وفى ذهابه إلى ما يريد من دون مقدمات مسهبة، أو جمل طويلة ينسى بعضها بعضًا.

هكذا كانت كتابة محمد البساطى علامة على تلك البساطة الآسرة، التى تجذبك إليها بلا ملل أو افتعال.

اتسمت كتابته بجسارة لافتة، وقدرة على اختراق الطبقة الكثيفة للقشرة الخارجية للواقع الاجتماعى، ولم تخلُ كتابته من نزوع ساخر، لكنها السخرية المحملة بالأسى، وتأمّل الواقع، والعالم، والأشياء.

وتتعدد التيمات فى المنجز الإبداعى لمحمد البساطى، وفى داخل كتابته المفعمة بشجن خاص، ورغبة عارمة فى معانقة الحرية. 

ويحضر القهر بوصفة التيمة المركزية فى معظم روايات البساطى، حيث نجده بارزًا فى روايته «أسوار» ذات الاسم الدال والمعبّر عن جملة من القيود التى تحيط بالإنسان الفرد، خاصة أن الفضاء الروائى المهيمن على النص يتأرجح ما بين المعتقل والسجن. وفى «جوع» نرى حالًا من الحرمان الاجتماعى لأسرة ريفية تعانى شظف العيش منذ مفتتح الرواية وحتى نهايتها، وفى «دق الطبول» نرى ذلك القهر النفسى الذى يدفع بشخوص الرواية إلى حال من الاستلاب المادى والمعنوى كما يظهر فى شخصية «زاهية» التى تجبر على أن تترك وليدها لمخدومتها. لكن تظل روايته «غرف للإيجار» مسكونة بهذه الدلالة السردية، وتلك الجدلية التى تحضر فى أعماله جميعها كما أشرنا، وأعنى جدلية القهر والحرية.

وتتشكل رواية «غرف للإيجار» من قسمين مركزيين، لم يضع لهما الروائى أى أسماء فرعية، بل اكتفى بوضع توصيف بصرى يعد بمثابة الافتتاحية لكلا القسمين، هذا المدخل لكل قسم يبدو أقرب للتقديمة الدرامية للسرد، حيث يشير من خلاله الروائى إلى المكانين المركزيين فى الرواية، حيث ثمة غرف متهالكة فوق سطح بيتين قديمين، فالقسم الأول يستهله الكاتب هكذا: «الشقة فى بيت قديم، من ثلاث غرف، بكل غرفة عائلة، الباب الخارجى مفتوح ليل نهار، لا يوجد فى الصالة ما يخشى عليه، وكل عائلة تغلق باب غرفتها على نفسها وأشيائها».

ويستهل البساطى قسمه الثانى فى «غرف للإيجار» بقوله: «غرفتى فوق السطح، تشغل ركنًا من الجانب الأيمن، تطل على رأس السلم، أوارب الباب وأرى من رقدتى الأقدام التى تهبط وتصعد، وقد يمر يومان أو ثلاثة لا أرى قدمًا، وعندما أراها أظل فى رقدتى لا أتحرك، صاحبها لا يقصدنى، فلا أعرف أحدًا يمكن أن يزورنى، وأسمع الخطوات فى طريقها إلى الغرفة الأخرى». 

ويشترك المدخلان السابقان لقسمى الرواية فى كونهما يعبران عن مكان محشو بالبشر، ضيق بالأساس، حيزه الجغرافى محدود، ويفترقان فى طبيعة الأداء السردى، حيث يبدو الاستهلال السردى للقسم الأول مرويًا عبر ذلك السارد الرئيسى الذى يهيمن على فضاء الحكى ويقدم لمتلقيه شخوص الحكاية الأولى، بينما يوظف الكاتب فى القسم الثانى ضمير المتكلم، ويجعل الحكاية الثانية مروية على لسان أحد شخوص الرواية، أى أنه سارد من داخل الحكاية وليس من خارجها كما فى الحكاية الأولى.

ويرتبط القسمان المركزيان المشكّلان لمتن الرواية فى تعبيرهما الدال عن عالم المنسحقين والمقموعين والطبقات الشعبية المقهورة التى تحيا على الحافة.

ففى القسم/ الحكاية الأولى ثمة شخوص متنوعون: «بائع الفول وزوجته/ الفرّان وزوجته/ عامل السكة الحديد وزوجته وطفلهما»، وفضلًا عن الفقر فإن القهر يعد بمثابة الجامع المشترك بين العائلات الثلاث، ويتخذ القهر هنا نزوعًا طبقيًا، حيث تمثل الأسر الثلاث نموذجًا دالًا على الطبقة الاجتماعية المهمشة والمنسحقة.

وما بين جدل القهر والحرية يتحرك شخوص الحكاية الأولى، يطمحون إلى فضاء جديد، ففاطمة- زوجة بائع الفول عوض- العروس الجديدة تتلخص أمانيها فى أن تنعم بالصالة الخارجية للشقة التى تسكن فى إحدى غرفها الثلاث، كى تمدد جسدها فى أى وقت، ومن ثم تدعو الله صباح مساء ألا يأتى أحد للسكن فى الغرفتين المقابلتين، غير أن أحلامها الصغيرة تنتهى بقدوم عطيات وزوجها «بدوى الفران»، وعلى الرغم من الصداقة التى تجمع بين المرأتين: «فاطمة وعطيات»، إلا أن خضوع فاطمة للضرورة الحياتية المعاشة، ولواقعها المأزوم، يدفعها للمغامرة والتمرد على المواضعات القائمة، فتستجيب لتلك اليد التى تمتد من شباك شقة أخرى يسكنها رجل وحيد، يداعب أنوثتها، ويمسك بفنجان القرفة بالحليب الذى تعده لزوجها كل صباح وهو واقف أمام عربة الفول التى يملكها، ثم يشربه، ويعيد الفنجان من جديد إلى «سَبَت الطعام» النازل أمام شرفته، غير أن الدهشة التى تصاحب فاطمة فى المرة الأولى التى يختفى فيها فنجان القرفة ثم يعود، سرعان ما تغادرها، وتبدأ فى الاستمتاع باللعبة الجديدة، حيث يمنحها هذا الساكن الذى لا تراه منديلًا وزجاجة عطر تخفيهما فى أشيائها الخاصة، حتى ألِفت الفعل وأصبحت تصنع فنجانين من القرفة أحدهما لزوجها/ الواقع، والآخر للرجل الثانى/ الحلم: «بعدها كانت تعد فنجانين من القرفة وتدلى (السَّبَت)، تلتقط اليد واحدًا منهما، ويستمر السَّبَت فى طريقه. ساعة زمن ويهبط مرة أخرى ليعود بالفنجان الفارغ من العربة، وفى صعوده يوضع الفنجان الآخر عند الشباك» .

ويتجلى منحى القهر هنا عبر التوظيف الدال من الكاتب لشخصيته الروائية ووعيه بأبعادها الفنية الثلاثة: البُعد الجسدى، والبُعد النفسى، والبُعد الاجتماعى، ففاطمة تعانى حرمانًا جسديًا فى علاقتها بزوجها «عوض»، خاصة مع إهاناته المتكررة لها عقب الجماع، وبما يجعلها فى حال من الألم النفسى المستمر، حيث تشعر بإخفاق شديد فى حياتها الجديدة التى تمنتها فى المدينة بعد أن تركت قريتها البعيدة، ولم يعد فى مقدورها الآن العودة، فزوج أمها لها بالمرصاد، وأمها نفسها لاهية عنها بزوجها ورغباته الجنسية المستعرة، ومن ثم ليس أمامها سوى الخضوع لواقعها والامتثال للضرورة الحياتية المعاشة: «لكمها فى عنف، انطوت على نفسها تغطى عريها، استمر فى زمجرته ثم خرج، تأملت الكدمة بخدها، كانت تستطيع أن تمرغه فى الأرض، غير أنها خافت الطلاق والعودة إلى البلدة» .

تحيا فاطمة فى ظل بنية اجتماعية مهترئة، فالغرفة التى كانت تعيش فيها قبل الزواج كانت تجمعها بزوج أمها ونظراته الجائعة إليها، فضلًا عن أخيها الصغير والأم المستسلمة للزوج الذى لا يفيق جراء تعاطيه المخدرات: «هى فى رقدتها ترقبهما بنصف عين متظاهرة بالنوم، وتدوخ من الرائحة، ولا أحد يفتح الشباك أو يوارب الباب ليخفف منها خشية أن تتسرب ويكثر الكلام.

تقول أخيرًا والنوم يثقل عليها: 

- افتحوا الشباك شوية. 

ويقول: إنتِ صاحية؟ ولا تزعلى، حجر كمان وخلاص.

وتستمر القرقرة، وتروح فى النوم» . 

ويدفع القهر بعطيات لأن تحيا فى عالم موازٍ لعالمها الواقعى، عالم تخييلى بالأساس، فتستعيد ذكرى نضارتها الأولى حين كانت صبية، ويوظف الكاتب هنا آلية التداخل الزمنى للتعبير عن المفارقة الدرامية فى حياة شخصيته الروائية، حيث نرى استخدامًا دالًا لتقنية الاسترجاع، التى يعود فيها السارد الرئيسى بالحكى إلى الوراء، حيث السنوات التى قضتها عطيات فى منزل «نوال هانم»، وابنها ذى الوجه الأبيض المكتنز، الذى داعب أنوثة عطيات، وكانت المحصلة رغبة نادية هانم فى التخلص منها بتزويجها من أول طارق لبابها، فأصبح بدوى «الفرّان» زوجًا لعطيات، غير أن الحروق التى أصابت بدوى أثناء عمله جعلتها تتحاشى النظر إليه، وتتذكر ماضيها مع الصبى المدلل: «ماجد الابن يصغرها بعامين، كان ولدًا جميلًا، وجه أبيض بخدين ممتلئين تشوبهما حمرة خفيفة، يضحك لها كلما التقيا، كان يكبر هو أيضا، ظلت دائمًا أطول منه، تنتبه لتجد شيئًا تغير فيه، صوته، الشعر الخفيف على جانبى شفته وفى ساقيه أيضًا حين يلبس (الشورت)، حركة لسانه وهو يلعق شفتيه، ويأتى مرات إلى المطبخ يطلب شيئًا، يكلمها وعيناه على وجهها، ويمد يده يتناول كوبًا أو طبقًا فتلمس ذراعه ثديها، لا تتحرك فى وقفتها، ذراعه تضغط خفيفًا، تنسحب فى بطء، عيناه بعيدتان، ينظر هنا وهناك، وتراه يلهث ثم يستدير خارجًا».

وتلجأ الشخصية المركزية الثالثة فى الرواية «هانم»، زوجة عامل السكة الحديد، إلى الخيال المحض، حين تتعامل مع الرسم الذى وجدته على حائط الغرفة باعتباره يحوى شخوصًا حقيقيين، بل وتتخيل أن الرجل العارى فى الرسم يحاول مضاجعتها!!.

إننا بإزاء حالة من الحرمان الجسدى والنفسى تنتاب نساء الرواية، مصحوبة بقهر اجتماعى جراء جملة من الظروف المعيشية الضاغطة، التى يحضر فيها الفقر والحيز المكانى الضيق بما يحمله من تأثيرات فى سيكولوجية الشخوص.

ثمة استراتيجية فى السرد ينتهجها البساطى إذن، فكل امرأة ومعها زوجها يسكنان فى غرفة من الغرف الثلاث، والأزواج الثلاثة يعانون شظف العيش، ويهيمن القهر على حيواتهم المختلفة، فالفقر والعوز يسيطران على حال الشخوص داخل القسم الأول، وتغيب الحرية بدلالاتها الوجودية والسياسية والاجتماعية المختلفة، وتبدو حلمًا بعيد المنال، فشخوص الحكاية يعيشون على حافة الحياة، فوق سطح متهالك لبيت قديم، من ثم يصاب الرجال بالعجز كما فى حالة «عوض زوج فاطمة»، أو الانزواء كما فى حالة «بدوى زوج عطيات»، أو الخَرس «كما فى حالة عثمان زوج هانم».

ولا تملك النساء سوى الثرثرات اليومية، فى محاولة للاستعانة على نهارات قاسية وليالٍ من الجحيم، بل وتستعير كل امرأة عالمًا بديلًا لتحيا فيه، منفصلة عن واقعها المؤرق والمأزوم، لنصبح- ومن ثم- أمام شخوص مغتربين بالأساس، دفعتهم ظروفهم إلى الإحباط، وأفضى بهم القهر إلى الاغتراب، الذى لم يترك أحدًا فى الرواية إلا وقد مسّه، حتى الطفل الصغير «يوسف»، الذى يعد مع أمه «هانم» بمثابة الجامع المشترك ما بين قسمى الرواية المركزيين. فيوسف قد صار منفصلًا عن البنية الاجتماعية المحيطة به، بفعل الفضيحة العبثية التى طالت أسرته جراء دخول «بدوى الفران/ زوج عطيات»- الذى أفقده المخدر وعيه- غرفة أبيه، ونومه إلى جوار الأم «هانم» اعتقادًا أن الغرفة المفتوحة هى غرفة زوجته «عطيات»، وعلى الرغم من اختفاء الأب فيما بعد، ورحيل الأم إلى غرفة أخرى فى القسم الثانى إلا أن يوسف قد فقد قدرته على التواصل مع العالم، وعندما لجأت عطيات إلى جارها كاتب الحسابات- الشخصية المركزية فى القسم الثانى وساردها «عباس»- لم يستطع أن يغير من مزاج الصغير «يوسف» الذى صار منطويًا، مكسوًا بالحزن والأسى طيلة الرواية، ومن ثم يحكى السارد البطل «عباس» عن هانم ويوسف قائلًا:

«تستعين بى أحيانًا أمام إصراره على عدم الأكل، أجدها واقفة أمام غرفتها تنتظرنى.. تقول:

-ولا لقمة أكلها فى الغدا، وموش عايز يتعشى، كلمه إنت يمكن يسمع كلامك.

الطبلية فوق حصير بمنتصف الصالة الصغيرة، عليها طبق أرز بملوخية وقطعة فرخة، أراه مقرفصًا فى ركن، نظرته الخاطفة نحوى، ورقبته النحيلة التى مدها قليلًا، وتكشيرة صغيرة على وجهه. أسأله لم لا يأكل؟ يرقبنى لحظة بطرف عينه ثم يزحف فى صمت حول الطبلية وينحنى على الأكل. أتعجب من طاعته لى، صوتى كان غير غاضب. خطر لى أنه تجنب معارضتى حتى لا يفتح نقاشًا لا يرغب فيه».

ويبدو القسم الثانى من الرواية تعميقًا على مستوى الرؤية السردية لحالة القهر التى تنتاب شخوص الرواية الآخرين، حيث يصبح السارد/ البطل «عباس» جزءًا من الحكاية نفسها، فيقدم لنا جيرانه الآخرين، الذين يشتركون معه ومع شخوص القسم الأول أيضًا فى الإحساس العارم بالقمع والتهميش جراء الفقر والجهل والمرض، فعباس كاتب الحسابات المنزوى فى غرفة متهالكة على سطح بيت قديم، يبدو هاربًا من واقعه القديم، مستشعرًا قدرًا هائلًا من المرارة جراء عدم القدرة على مجابهة الفساد فى عمله، وفشل حياته الزوجية، وابتعاده القسرى عن ابنته التى أخذتها أمها حين اتهمت عباس بأنه يعانى مرضًا نفسيًا، ولا يصلح لتربية الصغيرة، ومن ثم يستشعر عباس قدرًا من المرارة والخيبة والإحباط.

وربما يصبح الإحساس بالفقد دافعًا أساسيًا للسارد/ البطل «عباس» للتعاطف الشديد مع الفتاة الصغيرة «فريدة»، التى تسكن مع جدها إحدى الغرف المجاورة لغرفته؛ ولذا لم يجد الجد سوى عباس ليأتمنه على حفيدته التى مات أبوها وتزوجت أمها من رجل لا يرغب فى رؤيتها فى البيت، فعندما يستشعر الجد الفقير النهاية يطلب من عباس أن يحافظ على الصغيرة، ويخبره بأن يومًا ما سيأتى من سيسأل عنها.

ويتجلى القهر بمستوييه المادى والمعنوى عبر الشخصية المركزية فى القسم الثانى من الرواية «عباس»، الذى يتعرض للظلم حين يُبعَد عن ابنته قسرًا، ويُتهم اتهامات غير حقيقية، ومن ثم تنكسر إرادته، ويقرر العزلة، مبتعدًا عن عالم فقد قدرة التكيف الاجتماعى معه، كما بدا منسحبًا فى عمله، غير قادر على مجابهة الفساد المحيط به، ومن ثم تبدو «فريدة» أملًا جديدًا له، قد يخفف من المرارات النفسية التى نالت منه، وإن بدت الإخفاقات التى تعرض لها عباس مهيمنة عليه، فعلى الرغم من محبته الحقيقية لفريدة إلا أنه ينتظر من يأتى ليأخذها منه، كما طلب منه جدها، وربما كان المقطع السردى الأخير الذى يختتم به الكاتب روايته دالًا وكاشفًا عن رغبته فى استعادة عزلته من جديد: 

«ومر اليومان واكتمل الأسبوع والجد لا يأتى.

سألتها عن سبب تأخره.

قالت إنها لا تعرف، لم يخبرها.

- قال إنه رايح يقوم بواجب فى البلد.

- واجب إيه؟

- ما قالش.

- له فترة ما بيقولش حاجة.

أقعد وقت العصر أمام غرفتى، وتأتى إلى جوارى.. تقول:

- ديدى نايمة.

- تتأمل الأفق بنظرات شاردة. وأنا فى قعدتى أنتظر من يأتى ليسأل عنها».

تتسم رواية «غرف للإيجار» بتعدد لغات الشخوص داخل الرواية، فكل منهم يعبّر عن موقفه من العالم، وتكوينه الاجتماعى والنفسى، كما وظف الكاتب العامية فى الحوار السردى للإيهام بواقعية الحدث الروائى، وبدت المفردات المستخدمة معبّرة عن تيمة القهر وتجلياتها المختلفة، ورأينا وعيًا بالتوصيفات البصرية للمشهد الروائى، وقد لعبت اللغة السردية دورًا مركزيًا فى هذا السياق، ونرى ذلك على سبيل المثال حينما يصف الكاتب الصبى «يوسف» الذى تتشكل داخله أزمة تجاه عمل أمه خادمة فى البيوت تأتى إليه بالطعام آخر النهار: «رفس الطبلية، وأنا أمسكت لفة الأكل قبل أن تقع. تمدد على الفرشة ووجهه للحائط»، فالكاتب هنا يمنح متلقيه إمكانية واعدة لتخيل المشهد بصريًا، مثلما قد وظف الأفعال السردية المنتجة توظيفًا دالًا: «رفس/ أمسكت/ تقع/ تمدد».

وإذا كانت هانم وابنها يوسف بمثابة الرابط ما بين قسمى الرواية على مستوى حركة الشخوص داخل الرواية، فإن عباس يعد الرابط ما بين شخوص القسم الثانى من الرواية، حيث نراهم بعينيه بوصفه السارد لما يدور فى المكان، ولذا فإن الغرفة الرابعة من غرف الإيجار فى القسم الثانى من الرواية نراها عبر هذا السارد/ البطل «عباس» أيضًا، فتظهر لنا عزيزة وزوجها الجالس فوق كرسى متحرك، وتختزل حكايتهما تيمة الرواية المركزية «القهر» بمسبباته ومظاهره فى الآن نفسه، حيث يتشارك الثالوث المدمر «الفقر والجهل والمرض» فى وأد حياتيهما، ولا تجد عزيزة بجوارها سوى الساكن القديم «عباس»، المحاصَر بنظرات الشك والريبة من الزوج القعيد، غير إنه وإمعانًا فى القهر يستمر كل شىء، فلا الزوج يعبّر بأى طريقة عن رغبته فى عدم مجىء عباس للغرفة، ولا عزيزة تكف عن ارتداء الثياب الشفافة، ولا يتوقف عباس عن مساعدتها فى العناية بالرجل.

وتتعدد مستويات القهر وصوره فى «غرف للإيجار»، متخذة صيغًا مختلفة، هى عينها التجليات التى تطرحها هذه التيمة المركزية المسيطرة على الرواية، فالحرمان الجسدى لكل من: فاطمة، وعطيات، وعزيزة، يدفعهن لمحاولة خلق عوالم بديلة، والمكان الروائى ذاته بضيقه وحيزه الضاغط على سيكولوجية الشخوص يمثل عنوانًا على قمع آخر، يكرس للقهر الاجتماعى الذى يهيمن على فضاء الرواية، خاصة أن الطبقة الاجتماعية المهمشة هى الحاضرة داخل الرواية، حيث تمثل كل شخصية هنا تلك الذات الجماعية المأزومة التى سحقها ثالوث الفقر والجهل والمرض، ولم تكن هذه العذابات اليومية بعيدة عن سياق سياسى ضاغط على الشخوص، وإن ظل متواريًا فى النص، حاضرًا فى الخلفية، بوصفه إطارًا لحركة الشخوص فى عالم مسكون بالقسوة، والوحشة، والعتامة.