الجامعة ليسـت بخيـر.. تحرير التعليم من التطرف!
- الاستثمار فى العلوم والتكنولوجيا والابتكار أصبح ضروريًا للتكيف مع الثورة الصناعية الرابعة والخامسة
- لا شك أن عمق الفجوة بين الناتج التعليمى وسوق العمل من بلور الأزمة لدينا لذا فنحن بحاجة حقيقية إلى ربط التعليم بسوق العمل
على الرغم من انتصار الحلفاء فى الحرب العالمية الثانية، إلا أن فرنسا قد خرجت كسيرة جراء ما فعله النازيون بها، وحينها جمع شارل ديجول مستشاريه، وسألهم سؤالًا واحدًا: كيف حال الجامعة؟ فردوا: بخير. فقال ديجول جملته الأثيرة؛ إذن فرنسا بخير.
ليست هذه هى المروية الوحيدة التى تناقلتها أدبيات الأفكار بشأن قيمة الجامعة، وأهميتها الاستثنائية، وقيمتها المركزية فى صناعة العقل العام لأى أمة من الأمم.
ومنذ سنوات قليلة، وتحديدًا فى ديسمبر من العام ٢٠٢١، عقد فى مصر المنتدى العالمى للتعليم العالى والبحث العلمى، وبحضور الرئيس السيسى الذى دعا فى كلمته إلى «تحرير التعليم من قبضة الأفكار المتطرفة»، وهى عبارة شديدة الأهمية، تدرك ذلك الخطر الوجودى الذى يواجه التعليم لدينا فى لحظته الراهنة.
كان هذا حدثًا مهمًا فى الحقيقة، يحب استعادته، والتذكير به باستمرار، خاصة مع تلك العبارة الدقيقة للرئيس السيسى، والدالة أيضًا «تحرير التعليم من قبضة الأفكار المتطرفة». وربما نصل الآن إلى جوهر ما يعانيه التعليم الجامعى، فالتطرف كان ولا يزال حجر عثرة أمام أى نهضة معرفية وفكرية، ويزداد الأمر سوءًا حين يناصر البعض مشايعى التطرف، والتصورات الرجعية عن العالم، تلك التصورات المعادية لمفهوم الوطنية المصرية بتراكماتها الحضارية، وجذورها المتعددة.
فى روايته الملهمة «المرايا» يشير الروائى المصرى العالمى نجيب محفوظ إلى شخصية «زهير كامل» ضمن مدونة الشخصيات التى يقدمها فى نصه الحافل بالتجريب آنذاك، واستخدام تكنيك البورتريه، وجعله أداة جمالية وموضوعية فى تقديم العالم الروائى. وزهير كامل أستاذ جامعى، عرف طريقه إلى الجامعة مبكرًا، ونال إشادات هائلة من أساتذته، لكنه سرعان ما أصبح عنوانًا على كل ما هو انتهازى، وكانت جملته التى يعبر بها عن خبيئته من الجمل المركزية فى الرواية «الزيف فى الحياة منتشر كالماء والهواء»، ويصفه فى الرواية المفكر سالم جبر بعبارة واحدة «أنت لا تنقد، ولكن تقتل القيم».
يجب على الجامعة أن تلتحم بواقعها أكثر، وأن تهيئ المناخ العام لتعزيز قيم التقدم، والتكريس لنمط التفكير العلمى فى النظر إلى العالم، والواقع والأشياء. وتشتمل قيم التقدم التى يجب على الجامعة تعزيزها على مفاهيم التسامح والاستنارة، وتفعيل إمكانات العقل النقدى الخلاق، والخيال الإبداعى، ووصل التعليم بمفاهيم الهوية الوطنية. وربما تحتاج الجامعة أيضًا إلى ذلك الخيال الجديد فى استثمار الطاقات البشرية، وتعزيز منطق الكفاءة، ومعايير الشفافية والنزاهة. إن اعتدادنا بالجامعة المصرية جزء أصيل فى تراثنا العلمى والفكرى والمعرفى، وهذا ما يجب أن ننميه باستمرار، وأن تتسم الجامعة برحابة العلم، وعقلانية المعرفة، والروح الوثابة التى تدرك أنها أساس فى بناء وطن يتطلع إلى مستقبل واعد. كم نحن بحاجة إلى مزيد من البناء، والعمل الخلاق، والارتفاع إلى مستوى اللحظة المركبة وما تستلزمه من جهد دءوب يمنح شعبنا طاقة من الأمل الموضوعى، عبر نخب أكاديمية وفكرية رصينة تبلور الخطاب العام، وتدفع به صوب عالم أكثر جمالًا؛ وتقدمًا، وإنسانية.
إن جدل الوسيلة والغاية فى المنتج النهائى من العملية التعليمية، سيظل قائمًا باستمرار، فالتعليم وسيلة لبلوغ غاية كبرى تسعى إلى تعزيز قيم التقدم، والتسامح، والانتماء، واستيعاب الآخر، والقبض على روح العصر، والتماس مع مستجدات الراهن، وتحولاته المعرفية النظرية والتطبيقية.
لقد شاركت فى هذا المنتدى العالمى هنا فى القاهرة، وفى نسخته الثانية، نخبة من أهم الجامعات والمنظمات الدولية، من قبيل: جامعات جورج واشنطن، وهارفارد، وولاية أريزونا، وفيرجينيا، وتشابمان، ومعهد بوسطن العالمى بالولايات المتحدة الأمريكية، وجامعة سابينزا روما بإيطاليا، والكلية الملكية للجراحين بالمملكة المتحدة، وجامعة لينكولن بإنجلترا، وجامعة سيبيو برومانيا، وجامعتى كيبيك وويندسور بكندا، وجامعة بوتسدام الألمانية، بالإضافة إلى عدد من المنظمات والجهات الدولية وهى: اليونسكو، والإيسيسكو، والبنك الدولى، والمجلس الوطنى للتقويم والاعتماد «NAAC»، والماجنا كارتا Magna Charta، ومنظمة Coursera لبناء المهارات والقدرات، وكذلك الناشر العالمى Elsevier ،Knowledge E.
ويلفت الانتباه ذلك الكم، والكيف النوعى أيضًا فى الجامعات والمعاهد والمؤسسات الدولية المشاركة، وحالة التنوع الخلاق فى التخصصات الأكاديمية أيضًا.
وفى الحقيقة كنا بحاجة إلى البناء على هذا المنتدى، ووضع توصياته حيز التنفيذ، وبما يطرح سؤالًا مهمًا على وزارة التعليم العالى والبحث العلمى لدينا عن مدى وحجم التطبيق الذى تم من تلك التوصيات، والتى كان من أبرزها ما يلى:
إن الدول ذات الرؤية الموحدة والبنى التحتية المستثمرة هى من ستقود وتجذب مرشحين إقليميين للتعليم. ومن ثم، فإن الاستثمار فى العلوم والتكنولوجيا والابتكار أصبح ضروريًا للتكيف مع الثورة الصناعية الرابعة والخامسة، ما سيساعد فى توفير فرص لوظائف جديدة.
إن التحفيز على نظام التعليم متعدد التخصصات والبحث العلمى هو المحرك الرئيسى لاستقرار المجتمع والنمو الاقتصادى، خصوصًا العلوم الأساسية مثل الفيزياء والرياضيات.
يجب التأكيد على أن ضمان الجودة وتوحيد المعايير سيلعبان دورًا فى التعاون الإقليمى والدولى فى مجالات التعليم والعلوم والتكنولوجيا والابتكار.
كما يجب الاسترشاد بأهداف التنمية المستدامة «SDGs» والتى اعتمدتها الأمم المتحدة لعام ٢٠٣٠.
يجب علينا للتوظيف فى المستقبل، إدراك أهمية وملاءمة الوظائف المستقبلية والتكنولوجيا الناشئة.
والتأكيد أيضًا على دور الثورة الصناعية الرابعة والخامسة وتأثيرها المباشر وغير المباشر على التعليم والعلوم والتكنولوجيا والابتكار.
ثمة حاجة حقيقية إلى تعميم التعليم الفنى والمهنى والتدريب «TVET» للوظائف المستقبلية.
يجب إعادة التأكيد على أهمية المعارف الأصلية والتكنولوجية للتنمية الاجتماعية والاقتصادية.
وهذه الخلاصات يعد تطبيقها فى الواقع التعليمى والبحثى ضرورة علمية، وموضوعية لا غنى عنها.
لقد اتخذ التعليم العالى نهجًا فى السنوات الأخيرة، دعمته الدولة المصرية، وعززت من وجوده، ويتمثل فى التوسع الأفقى فى التعليم، من خلال إنشاء عدد من الجامعات الأهلية، والسماح للجامعات الخاصة المستوفية الاشتراطات الكاملة بممارسة العملية التعليمية والبحثية، وكان هذا أمرًا مهمًا، استتبع وجود مدونة خاصة بالجامعات الأهلية، وأخرى للجامعات الخاصة، حيث تضمنت التعديلات الجديدة النصية على أن تحل عبارة «مجلس الجامعات الخاصة ومجلس الجامعات الأهلية»، محل عبارة «مجلس الجامعات الخاصة والأهلية»؛ وذلك فى ضوء ما تقرر من إنشاء مجلسين بالوزارة المختصة بالتعليم العالى، أحدهما للجامعات الخاصة؛ والآخر للجامعات الأهلية، فى ظل خصوصية المسائل المتعلقة بكل منهما.
وقد بدا التوسع الأفقى فى التعليم حيويًا، ولافتًا، لكنه يحتاج أيضًا إلى جناح آخر أكثر حيوية، ومجاوزة للسائد، ويتمثل فى الاهتمام الدال بالتوسع الرأسى فى التعليم، من خلال الحفر المتنامى فى مسارات علمية نوعية تحقق نقلة حضارية فى المجال العام.
لا شك أن عمق الفجوة بين الناتج التعليمى، وسوق العمل من بلور الأزمة لدينا، لذا فنحن بحاجة حقيقية إلى ربط التعليم بسوق العمل، والنظر إلى العملية التعليمية برمتها من منظور جديد، ومغاير، تكون غايته صناعة وعى خلاق، وعلوم متجددة، وتماس مستمر مع التقنيات الحديثة، وإيمان عميق بدور نظرية المعرفة فى تشكيل المناخ العام. وربما سيكون من المهم الاحتفاء بعلوم المستقبليات بشكل عام، وإذا كان هذا حتميًا فيما يتصل بالعلوم التكنولوجية، فإن العلوم الإنسانية لدينا باتت هى الأخرى بحاجة إلى التوسع فى دراسة المستقبليات داخلها، والبدء الفورى فى إنشاء مراكز بحثية تهتم بهذا المنحى الفاعل فى مجرى المعرفة الحديثة، والنظر إلى العلوم الإنسانية بوصفها حجر الزاوية فى تشكيل الوعى الممكن، القادر على التخطى، والمجاوزة، والاستشراف.
وبعد.. إن تفعيل قيم الاستنارة، ووصل التعليم الجامعى بالمكون الثقافى المصرى متعدد الجذور، وصياغة وجدان عام يتأسس على قيم التسامح، وقبول الآخر، وتشكيل ذهنية عامة تنهض على التفكير العلمى، ومجاوزة الخرافات، وتنمية الخيال الإبداعى، والتكريس لمعنى العقل النقدى الذى يسأل، ويراجع، ويقترح خطوات مركزية فى هذا السياق، ويمنح الفرص الواعدة للكفاءات الحقيقية، والموهوبين، ويكشف الغطاء عن تحالف الفساد والرجعية، بحيث يصبح التعليم الجامعى قيمة مضافة بحق إلى متن الدولة المصرية.