صانع الثقافة ومنبع الفلسفة وصاحب المفاجأة المذهلة
سأحدثكم عن قريب غريب اسمه.. الموت
- أحب أن أموت فى بلدى وسط أهلى.. الغربة يا صديقى ليست أن تعيش بعيدًا عن بلدك.. الغربة أن تموت بعيدًا عن بلدك
- لا أتسامح قط مع حرمان مقبل على الموت من حق السلام والهدوء والاحترام فى لحظة الانتقال
- أطلب الغفران من أى كريم آلمته أو كنت سببًا فى ضرر وقع له بقصد منى أو بغير قصد
شايلوك وحده الذى يقطع اللحم إذا ما تأخر عاثر فى السداد، كنت قد وعدت باستكمال سلسلة العزيزات، لكن سفينة الزاد ضلت البلاد وتأخرت عن الميعاد.. أستسمحكم فى تأجيل الكتابة عن عزيزة وأخواتها، فعزيزة يمكن أن تنتظر، لكنه لا ينتظر.
إنه الموت.. سيد المواعيد الصارمة، قاهر الأبطال والضعفاء بلا تفرقة.
يقولون «وأنا لا أصدقهم» أن الإنسان هو المخلوق الوحيد على الأرض الذى يعرف منذ البداية أنه ميت، ومع ذلك يواصل الحياة بشغف وعناد، كأنه «زى حالاتى» لا يصدق أنه فى طريقه إلى الموت «طال الطريق أو قصر».
كلما راودنى الموت عن روحى، وددت لو بقيت أكثر، لأستكمل أنصاف المشاريع التى تأخرت كثيرًا فى تحويلها من أحلام محسوسة إلى أعمال ملموسة، فقد عشت عاشقًا للتأجيل، كأننى «خالد» أمتلك الغد وأدخر من أجله كل شىء، وبرغم تحذير شادية بأن «أيام العمر معدودة»، تجاهلت التحذير الخطير، وسخرت منه مع الساخرين، بينما السيجارة تحرق الأيام قبل الأصابع «حوشى دموعك يا آمال».
الإنسان والذبابة
كنت أعيش مع صديق أوروبى فى غابة جبلية على البحر الأسود بعيدًا عن حياة المدن، ذات ليلة شعرت بوخزات حادة وآلام شديدة فى الصدر والكتف، وقاومت الألم كعادتى، لكن صديقى لاحظ تعبيرات الألم المكتوم على وجهى، وسألنى: مالك؟.. تعبان من حاجة؟
قلت: ولا حاجة، وكلما أعاد السؤال أسارع بالتهوين حتى فقدت الوعى، أفقت فى المستشفى «بعد وقت لا أعرفه»، وعرفت أننى نجوت من أزمة قلبية، كادت تنهى حياتى.
عاتبنى الصديق وحذرنى من مخاطر كتمان الألم: تجاهل الألم قد يؤدى للموت.
قلت له بجدية: أنا مش هموت.. لسه بدرى على الكلام ده.
اندهش من الرد.
أكملت: تعرف إنى مت أكثر من مرة قبل كده؟
سأل مندهشا: كيف؟
حدث فى صبايا «وتكرر بعد ذلك» أن غبت عن الوعى وفقدت كل صلة بالحياة، وأذكر أن الموت كان ناعمًا ولطيفًا وغير مؤلم.. ينسحب العالم من أمام عينيك، ويختفى الإحساس بأى ألم، ثم تنزلق فى مكان بارد برودة محببة، كأنك تسبح داخل غمامة من ندف القطن ناصع البياض، ويظل السمع هو صلتك الأخيرة بالحياة، لكن الأصوات من حولك تشبه خلفية موسيقية هادئة تصحبك حتى الغرفة المظلمة التى تنقطع فيها علاقتك بالحياة تمامًا، وبعد كل هذا كنت أنهض وأعيش حياتى، كأن الموت كان مجرد تجربة معرفية فى حلم قصير.
نقلنى الصديق إلى مسكنى فى الشطر الأوروبى من اسطنبول، لكى أبقى لفترة قريبًا من المستشفيات واحتياجات العلاج.
بعد أسابيع قليلة مرت الأزمة بسلام، لكن شيئًا عميقًا تغير فى جسدى، كنت ألاحظ أنه فى حالة انهيار، شعرى يتساقط بغزارة مخيفة، وجلدى يذوب.. يتحول بسرعة متزايدة إلى قشرة كثيفة، تتهاوى كأن جسدى من رمال، وذاكرتى تغرق فى الخلط والنسيان، وتركيزى يسيل ويستسلم للتداعى الحر، ونظرى يطل من وراء المياه البيضاء فيزيد من تشوش أفكارى وضبابية دماغى.
كان الصديق يتابعنى يوميًا للاطمئنان، ويقطع بسيارته أكثر من ٤٠٠ كم أسبوعيًا ليقضى معى يومًا أو يومين، ثم يعود إلى المزرعة الجبلية، وعندما اطمأن إلى استقرار حالتى الصحية عدنا معًا إلى الجبل، وفى الطريق جدد عرضه بالسفر معًا إلى فنلندا، للمشاركة فى المشروع الذى حصل على موافقة وتمويل بشأنه من أجل تنمية فنية ومجتمعية لإحدى المناطق الريفية هناك.
كررت اعتذارى، وفاجأته بسبب مختلف هذه المرة: لقد قررت العودة لبلدى.
سألنى: لماذا الآن؟.. هل لديك أخبار جديدة؟
قلت: لا شىء.. فقط أحب أن أموت فى بلدى وسط أهلى.. الغربة يا صديقى ليست أن تعيش بعيدًا عن بلدك، الغربة أن تموت بعيدًا عن بلدك.
تناقشنا كثيرًا، ولما تأكد أننى حسمت قرارى قال مداعبًا بما معناه: مش انت قلت مش هتموت؟.. ليه بقى شاغل نفسك بموضوع الموت.. بلاش تفكر كده.
قلت: أنا مش بفكر.. أنا بموت فعلًا.. عايش حالة موت تدريجى.
قال: إزاى؟.. أرجوك اشرح لى بالتفصيل.
سألته: شوفت فيلم «الذبابة» «The Fly»؟
قال: مش فاكر التفاصيل.. قل ما تريد بوضوح
قلت: عالم عبقرى متألق يحضر حفلة تكريم، ويتعرف على صحفية فى مجلة علمية ترغب فى الحصول على قصة صحفية عن اختراعه الجديد المذهل لنقل الأشياء والبشر عن طريق تحويلهم إلى ذرات فى مكان الإرسال، وإعادة تجميعهم فى مكان الوصول، وقع العالم فى غرام الصحفية، وسمح لها بمتابعة تجاربه، وبينما ينتظر حبيبته فى المعمل راودته فكرة تجريب الاختراع على نفسه بدلًا من الحيوانات التى نجحت التجارب عليها، ودخل كابينة الإرسال وبدأ عملية تشغيل الانطلاق، ولم يلحظ أن ذبابة دخلت معه إلى الكابينة.
نجحت التجربة وخرج العالم من الكابينة الأخرى سعيدًا، لكنه مع الوقت بدأ يشعر بأعراض غريبة، فقد اندمجت الذبابة معه، وصار الكائن الجديد مزيجًا من الإنسان والذبابة، ومع الوقت بدأ طريقه إلى الانهيار الكلى، كان يدرك مصيره «كما أدرك سيزيف عقابه السرمدى»، فصار يتعامل مع مظاهر انهياره باعتبارها الحياة التى فُرضت عليه دون إرادته، محاولًا التمسك بأحلامه ومشروعاته العلمية، وزاد تمسكه بالحياة عندما علم من حبيبته أنها حامل، وأنه سيصير أبًا له امتداد، ولما علمت حبيبته بما حدث له، سألت طبيبها، فطالبها بالإجهاض خوفًا من تشوه المولود جينيًا، ولما كان قرار الإجهاض تحطيمًا نهائيًا لآخر آمال العالم، طار إلى المستشفى كذبابة ضخمة واختطف الحبيبة لإنقاذ «جنين الأمل» لكنه قتل بعد مطاردة، بينما كانت النهاية فى القصة الأصلية التى كتبها المحرر العلمى فى الخمسينيات «جورج لانجيلان»، أن المخترع طلب من زوجته أن تسحقه تحت مكبس حديدى، كانت تمتلكه العائلة، وترك تفاصيل قصته فى مذكرات حصل عليها المحقق الذى كان يتابع لغز مقتل العالم.
القصد من حكاية الفيلم يا صديقى أننى فى حالة تماهى مزعجة مع مرحلة انهيار سيث براندل، ذلك الواثق «المعجبانى» المنطلق فى الحياة بآمال عريضة، الذى يتعرض لظرف عبثى تافه، يسحبه إلى النهاية بوعى مسبق، فهو يدرك ويتابع بعقله وعلمه مأساة انهياره الجسدى وتحوله اللعين إلى إنسان/ ذبابة!
ليس كل روبرت «بوبى»
توقفنا فى استراحة بين بحر مرمرة وبحيرة صبانجا، وأثناء الغذاء أخبرنى صديقى بتأثر ملحوظ أن لديه مخطوطة تتعلق بحديثنا، حصل عليها من صديق أيسلندى عن المشاعر الأخيرة لأسطورة الشطرنج العالمى «بوبى فيشر»، عندما هاجمته آلام الكلى وبدأ جسده فى الانهيار، ومن المفيد الاطلاع عليها باهتمام لاستكمال النقاش حول أفضل طريقة لتعامل الإنسان مع شبح النهاية.
مع حلول الظلام وصلنا المزرعة فى شمال سكاريا، وبرغم الإنهاك البدنى لم أذهب للنوم، طلبت المخطوطة من صديقى، فأعطانى «هارد كوبى» بالأيسلندية، و«سوفت كوبى» مترجمة للإنجليزية كان يحتفظ بها على «الكلاود»، وبرغم الإرهاق سهرت الليل كله أقرأ، وانغمست طيلة شهور بعد ذلك فى تتبع التفاصيل الخفية فى حياة فيشر المأساوية من بدايتها إلى نهايتها، حتى أننى شرعت فى كتابة رواية توثيقية ذات طابع فانتازى عن «روبرت فيشر» وعدد من المعتزلين المنسحبين من الحياة العامة إلى حصون الذات، منهم الواقعى مثل جمال حمدان وسالينجر وجريتا جاربو وليلى مراد، وأبوذر الغفارى، واميلى برونتى، وعبدالحى كيرة فى سنواته الأخيرة، ومنهم المتخيل مثل بطل الراوية وشخصيات روائية وسينمائية.
وسط كل هذه الانشغالات ظل السؤال المدهش المربك الذى كان يردده فيشر بعد اعترافه بالمرض فى «نهاية اللعبة»، ظل يشغل رأسى ويكرر نفسه بإلحاح، غير معترف بوقت ولا موضوع:
هل تعتقد أننى أموت؟!
حتى ذلك الوقت لم أكن قد اكتشفت إصابتى بالسرطان، فهذا لم يحدث إلا بعد عودتى إلى مصر بفترة، لكن السؤال غرس نفسه فى رأسى وسيطر على عقلى ومشاعرى، حتى إننى كنت أرى بوبى وهو يتجول متخفيًا فى الغابة، وكنت أعيش قلقه وأحزانه وغضبه المرير من العالم والمهيمنين عليه.
مثل بلدى «فى ذلك الزمان» لم أكن أحب فيشر ولا بلده، كنت أقرب لسباسكى وكاربوف والمدرسة الروسية فى اللعب وفى الحرب، ولم تعجبنى أبدًا بروباجندا البطل الأمريكى الذى هزم الروس فى أشهر معارك الحرب الباردة، لكن المفارقة المدهشة أننى وقعت فى «جامبيت» صديقى، الذى ورطنى فى مقارنة مفتوحة بينى وبين فيشر، ليس فى المنفى والتمرد والغضب فقط، لكن بالأساس فى «هوس الاعتزال» و«استغراب الموت».
كان صديقى مغرمًا بالتصوير الفوتوغرافى، والتقط لى مئات الصور، كنت أرى فى بعضها صورة فيشر وليس صورتى، خاصة فى سنواته الأخيرة بعد الإفراج عنه من السجن فى اليابان، إذ نمت لحيته بشكل عشوائى، واختفت وسامته الشبابية القديمة تحت هيئة هيبية، وكتب الزمن على وجهه السطور الأكثر حزنًا وألمًا فى حياته، وعندما شاهدت مع صديقى فيلم «بوبى فيشر ضد العالم»، كنت أخلط القصتين وأخاف أن أموت وحيدًا فى ثلوج أيسلندا..
ذات ظهيرة مشرقة فى شتاء يناير ٢٠١٨، كنت أعبر على جسر خشبى فوق مجرى صغير صنعته الأمطار وسط الغابة، فانزلقت قدماى ووقعت فى المياه الباردة الضحلة، سجل صديقى الموقف فى أكثر من صورة، جلسنا نشاهدها فى الليل أمام المدفأة ونضحك بقهقهة عالية على تعليقاتنا العادية، لأننا فقط كنا فى حاجة لأن نضحك، وعندما ذهبت إلى النوم أضاءت فى رأسى لوحة قديمة كنت أحتفظ بها فى مكتبتى لفنان فرنسى «لا أتذكر اسمه الآن» تصور مجموعة من الرعاة فى مرج يانع الخضرة يتأملون بدهشة شاهد قبر وجدوه بالصدفة، ويحاولون قراءة المكتوب عليه، وكانت عبارة تقول: «أنا هنا.. حتى فى أركاديا»، والمعروف أن منطقة «أركاديا» كانت أرض سلام وخضرة فى اليونان القديمة، واتخذت اسمها من إله الطرق ودليل الغرباء والمسافرين، وأعتقد أننى تذكرت اللوحة لأن المخطوطة كانت معنونة: «على الطريق الأخير مع روبرت فيشر»، وبين قوسين بحروف كبيرة «بوبى»، اسم الشهرة لروبرت، مددت يدى بشكل لا إرادى إلى النسخة الورقية الموضوعة بجوار الأباجورة، لم أهتم بالعنوان المكتوب بالأيسلندية، لكن عينى تجمدت وهى تحدق فى التاريخ المكتوب تحت اسم فيشر: «٩ مارس ١٩٤٣- ١٧ يناير ٢٠٠٨».. مرت اليوم ١٠ سنوات على موت بوبى، وربما كانت لحظة موته هى نفسها لحظة سقوطى فى الجدول!.. ما هذه الميتافيزيقا؟ وما هذه المصادفة؟، وما هذه الأفكار الغريبة التى تخرج من رأسى؟!.
كش.. مات الملك
«لا أحد يعزينى، والله لنجلسن على الأرض لنروى القصص الحزينة عن موت الملوك»..
أقسم بالله ثلاثًا أن برنامج «وورد» أغلق تلقائيًا أكثر من ١٠ مرات دون أن يحفظ هذه العبارة!.
أعدت تشغيل الكمبيوتر وتكرر الأمر، وفشلت فى العثور على سبب أو تفسير، فأسندت ظهرى إلى المقعد، وجلست أفكر ثانية فى الميتافيزيقا وأستعيد كلمات ريتشارد الثانى فى مسرحية شكسبير التى بدأت بها هذا المقطع، كنت واثقًا أننى أحفظ جيدًا ذلك الحوار من المشهد الثانى فى الفصل الثالث للمسرحية، لكننى لما راجعته انتبهت إلى الفروق بين الأصل الإنجليزى وترجمة محمد عنانى «المهذبة»،
فى الأصل يقول الملك للسير سكروب الذى جاء ليخبره بعزله وضياع ملكه:
قل ما عندك، حتى لو كانت أسوأ خسارة فى الدنيا، هل ضاعت مملكتى؟ لقد كانت همى، فما الخسارة التى قد تترتب على التخلص من الهم؟.. الأسوأ هو الموت، والموت له يومه.
وعندما يبلغه سكروب بخسارة الحرب يسأله عن كبار قادة الجيش هل تحالفوا مع العدو؟ فيرد سكروب: نعم يا سيدى.
فيرد ريتشارد بالقول الذى انتحله عبدالرحمن الشرقاوى على لسان ريتشارد قلب الأسد فى فيلم «الناصر صلاح الدين»: كل حلفائك خانوك يا ريتشارد، الكل باطل.. ثعابين، شياطين ملعونة، كلاب من السهل كسب تملقها، كل واحد منهم أسوأ من يهوذا ثلاث مرات..
وعندما تبدأ الحاشية فى الحديث عن الموقف، يلقى ريتشارد أقوى خطاب فى المسرحية:
«لا أحد يتحدث عن الراحة والعزاء، دعونا نتحدث عن المدافن والديدان وعبارات الذكرى على شواهد القبور، دعونا نتحدث عن الورثة والوصية، فماذا يمكننا أن نورث سوى أجسادنا العائدة إلى التراب؟!، بالله عليكم دعونا نجلس على الأرض ونحكى قصصًا حزينة عن موت الملوك...»
أية أرض يقصد ريتشارد؟
أرض الوطن المشترك بين الملوك والرعايا؟ أم أرضية الموت التى تنزع الألقاب وتساوى بين الجميع؟
عاش السؤال أكثر مما عاش الملك، وظلت الأرض هى الأرض بلا تعريف قاطع، برغم اجتهادات وتأويلات النقاد والمتعاطفين مع الملك الحزين.
زادت مأساة ريتشارد الثانى من شجونى، فعدت إلى أوراقى لاستعادة تفاصيل العلاقة بينى وبين فيشر والموت:
بعد حصوله على بطولة العالم وكسر الاحتكار الروسى للبطولة اعتكف فيشر فى عنوان مجهول وعاش متنكرًا بعيدًا عن الصحافة والإعلام والتحق بإحدى الكنائس الغريبة وتشبع بأفكار عن علاقة الإنسان بالطبيعة ونبذ الطب الحديث والكيمياء بأنواعها، حتى عندما تم القبض عليه بالخطأ فى كاليفورنيا للاشتباه فى السطو على بنك، لم يكشف عن هويته وتم احتجازه وإهانته وتعذيبه، كما كشف بعد ذلك فى كتيب صغير ومثير بعنوان «عذبونى فى سجن باسادينا»، وبعد سنوات طويلة من الاعتزال وفقدان لقب بطولة العالم لرفضه مباراة التحدى أمام كاربوف، وافق على لقاء سباسكى فى مباراة تحدٍ أطلق عليها بطولة العالم الحقيقية، وتم الاتفاق أن تكون فى صربيا، وأثناء التحضير للمباراة فوجئ فيشر بخطاب من وزارة الخزانة الأمريكية يحذره من اللعب فى صربيا لصدور قرار بالحظر التجارى عليها بسبب حربها مع البوسنة، وأثناء المؤتمر الصحفى أعلن فيشر عن استلامه لخطاب التحذير، وأخرجه من جيبه، ثم بصق عليه وهو يقول: «هذا ردى على الخطاب».
صدر أمر باعتقال فيشر ولم يعد بإمكانه العودة لأمريكا، وعاش هائمًا بين البلدان حتى تم القبض عليه ومصادرة جواز سفره فى اليابان عام ٢٠٠٤، وخلال تلك السنوات جاهر بعدائه للإدارة الأمريكية وندد بشموليتها وسيطرة اليهودية العالمية عليها، وعندما وقعت تفجيرات ١١ سبتمبر صرح فى أحد البرامج الإذاعية فى الفلبين بأن هذا اليوم أسعد أيام حياته وطالب الجيش الأمريكى بالانقلاب على إدارة بوش وتحرير أمريكا من الطغيان واليهود.
كانت تجربة الاحتجاز القسرى فى اليابان مؤلمة ومؤثرة فى حياة فيشر النفسية والصحية، وبعد حملة دولية صاخبة اجتمع البرلمان الأيسلندى وقرر منح فيشر الجنسية ومطالبة اليابان باستعادته بدلًا من تسليمه لأمريكا، ونجحت المحاولة الإيسلندية التى حدثت تقديرًا لفضل فيشر فى شهرة أيسلندا عندما لعب على أرضها بطولة العالم التى فاز بها، وبعد وصوله إلى ريكيافيك، اعتزل فيشر الحياة العامة تمامًا، وعاش فى ضاحية هادئة وسط عدد قليل من الأصدقاء أقربهم جاردار سفيرسون وعائلته الصغيرة، والطبيب النفسى ماجنوس سكولاسون، وحارسه السابق أثناء بطولة العالم، وكلهم فى دائرة الشطرنج والبطولة الأولى.
بعد أقل من عامين فى أيسلندا بدأت مشاكل فيشر الصحية تعكر حياته الهادئة المنزوية، بدأت المشاكل بآلام قاسية فى الظهر، ثم احتباس للبول، وكان فيشر يرفض الذهاب للأطباء والعلاج بالأدوية أو تعاطى المسكنات، وأكد على جاردار بتكتم أخبار المرض وعدم الحديث عنه مع أحد، ومع تزايد المتاعب الصحية اضطر فيشر لقضاء معظم الوقت فى شقة جاردار أسفل شقته.
الأريكة الخضراء
هذا هو العنوان الذى كتبته على مخطط روايتى عن فيشر، فقد كنت أراه ممدًا معظم الوقت على أريكة جلدية خضراء فى صالة مسكن جاردار، وعندما تدهورت حالته أكثر اقترحت كريستين زوجة جاردار نقل سرير قديم لابنتهم «توجا» إلى الصالة لينام عليه فيشر، ولأنها تعمل ممرضة فقد صارحته بأنه يقتل نفسه إذا لم يذهب للمستشفى ويتلقى العلاج، لكنه رفض وكرر عليهم موعظته واعتقاده المتين: البشر جزء من الطبيعة ولابد من ترك الطبيعة تسير فى سلام واتزان بلا تدخل من الطب الغربى المصطنع والمتطرف، اقرأوا كتاب «كيفن ترودو» الذى يؤكد أن مافيا صناعة الأدوية تسعى لإبقائك مريضا وليس لشفائك.
فى نهاية ٢٠١٧ تواصلت آلام الظهر ومنعته من النوم، وظهرت عليه قرحة فراش سيئة، كانت كريستين تعالجها ببعض المراهم، لكنه ظل يرفض الأدوية، وطلب من كريستين النزول معها للتسوق، لكنه سقط فى السوبرماركت وأغمى عليه، وعندما أعادته إلى المنزل شعر بغثيان شديد ودوخة وطلب كأسًا من الكونياك غير المخفف كمسكن للألم، وأقتبس من مخطوطة جاردار هذه المقتطفات:
«استيقظت صباحًا، وكان الجو مظلمًا والثلج يتساقط بكثافة، تناولت هاتفى المحمول، ورأيت محاولات اتصال من بوبى، لا بد أن هناك مشكلة، لأنه لم يتصل بى أبدًا فى مثل هذا الوقت المبكر، صعدت إلى شقته وفتحت بالمفتاح الذى أعطاه لى، كان مستلقيًا فى غرفة النوم المظلمة، وأخبرنى بصوت ضعيف أنه لم ينم منذ أمس، وقال بحزن شديد «لا أعرف ماذا يحدث هذا لى يا جار؟».
أضأت الأباجورة وجلست على حافة السرير، فمد يده وأمسك يدى بقوة، حتى أننى أحسست بقوة الألم الذى يعانيه، وزاد من قلقى أنه قال بصوت واهن: «هل أبدو لك كأننى أموت؟»
قلت: لا يا بوبى.. لا تبدو كما تقول.
قال: كيف أبدو؟
قلت: ستكون بخير، لكن لابد من قبول العلاج.
كرر سؤاله: الآن.. كيف أبدو لك؟
قلت وأنا أصدق وأتمنى ذلك: بخير.. ستعبر كل هذا وينتهى الألم.
قال: أنا حزين لأن والدتى ماتت ولم يرسلوا لى صورًا لها.
قلت: سأحضر لك الصور قريبًا جدًا
واتصلت بزوج أخته جوان فى أمريكا وشرحت له حالة فيشر وطلبت منه إرسال بعض الصور ووصلت بالفعل بعد أيام قليلة، لكن حلة فيشر الصحية كانت حرجة جدًا ولم يتذكر الأمر كله، وأخيرًا وافق على الخضوع للعلاج بشرط إخفاء هويته وعدم تصويره أو معرفة الصحافة.
أتذكر فى هذه اللحظة ما كتبته «شارلوت برونتى» فى مذكراتها عن أختها «إميلى» صاحبة «مرتفعات ويذرنج»:
«لم تكن أختى اجتماعية بطبيعتها، كانت تميل إلى العزلة، ونادرًا ما كانت تعبر عتبة المنزل، إلا للتنزه على التلال أو الذهاب إلى الكنيسة.. ذات شتاء أصيبت بنزلة برد شديدة أفضت إلى التهاب فى الرئتين ومرض السل، وعلى الرغم من تدهور حالتها بشكل مطرد، إلا أنها ظلت ترفض المساعدة الطبية وتقول: لن أسمح لـ«أطباء التسميم بالقرب منى».
وصباح ١٩ ديسمبر ١٨٤٨، كتبت شارلوت:
«إميلى تضعف يومًا بعد يوم، لجأت إلى طبيب وشرحت له حالتها، فأرسل معى بعض الأدوية التى رفضت تناولها، لم أعرف لحظات مظلمة مثل هذه من قبل، أدعو الله أن يعيننا جميعًا «..» عند الظهر، ساءت حالة إميلى أكثر، فهمست لى بآخر كلماتها بصوت متقطع: «إذا أرسلت فى طلب طبيب، فسوف أراه الآن، لكن لم يكن هناك وقت فقد ماتت فى ظهر اليوم نفسه أثناء جلوسها على الأريكة»!
دعكم من «مفارقة الأريكة» وانتبهوا إلى قدرة الموت على إقناع المتشددين بتغيير رأيهم، وغالبًا بعد فوات الأوان، لتبقى الدراما شيقة والنهايات مفتوحة.
برغم موافقته على العلاج كان بوبى قلقًا من وجوده فى المستشفى مع أشخاص لا يعرفهم «أطباء أو تمريض»، فكان لا بد من البحث عن شخص يعرفه بوبى ويثق به ليرافقه واستجاب الدكتور ماجنوس سكولاسون للمهمة، وعندما أخبرته بذلك وافق وعاد يسألنى: هل تعتقد أننى أموت.
وأنا أكرر إجابتى: لا يا بوبى.. لا يبدو عليك الموت.
فى ذلك اليوم أدركت أن ألم بوبى وسؤاله وخوفه ينبع من شىء آخر أخطر من المستشفى والمرض والصحافة.
لم أفهم ما قصده جاردار بذلك الشىء الخطير الذى يخشاه بوبى، لكننى أعتقد أن هذا الشىء هى الهزيمة فى مباراته مع الزمن.. أعتقد أن ذلك الشىء الخطير الذى يخشاه بوبى وأنا وأنتم هو عدم وجود غدٍ.. عدم وجود نهار آخر وفرصة أخرى..
يضيف جاردار:
لم يكن بوبى يريد سيارة إسعاف، فانتقلنا الى المستشفى فى «باسات»، فى العادة كان الطقس الشتوى الجميل يحرك مشاعر بوبى، وعندما علقت على جمال المدينة فى ثوبها الأبيض«الثلوج» أومأ برأسه فى ضعف واستمر فى النظر عبر النافذة فى ألم.
وصلنا إلى المستشفى ونقلناه فى كرسى متحرك إلى قسم الكلى فى الطابق الثانى، وسط الترتيبات وحركة الأطباء والتمريض، مر طالب طب ذو مظهر ودود، ووقف بجوار بوبى الذى نظر إليه بمحبة وسأله: «هل أبدو وكأننى أموت؟».
رد الشاب: بصدق.. أنا خائف قليلًا من الحالة.
كرر بوبى السؤال: هل تعتقد حقًا أننى أموت؟
أجاب الشاب: من الصعب الإجابة يا سيدى.
قال جاردار باللغة الأيسلندية للطبيب المتدرب: يكفى هذا
مد بوبى يده وأمسك يدى ورأيت فى عينيه البنيتين بريق التمسك بالحياة فسرت الطمأنينة قليلًا فى نفسى، وعندما جاء سكولاسون سأله بوبى أيضًا: هل تعتقد أننى أموت؟
لم يُجب الطبيب النفسى، ابتسم لبوبى وأمسك بكفه.
تنهد بوبى وقال بصفاء وامتنان: لا يشفى الألم أكثر من اللمسة الإنسانية.
عدت إلى البيت منهكًا فى المساء، وعندما استيقظت حكت لنا «توجا» على مائدة الإفطار أنها رأت بوبى فى المنام يتمشى مبتسما وسط الطبيعة الخضراء، شعرت بالراحة لأن هذه هى الصورة الأجمل التى نرى فيها بوبى سعيدًا.
وعند الظهيرة رن هاتفى وأخبرنى الطبيب بموت بوبى، هرعت إلى المستشفى لضمان تنفيذ وصيته بدقة، رأيت على طاولة بجانب سريره منديلًا من القماش الأبيض وشمعة والعهد الجديد، أقام الأب جاكوب رولاند صلاة كاثوليكية، ووضعناه فى تابوت رمادى، وشعرنا برهبة تحرق القلب ونحن نرى السيارة تبتعد عن المستشفى إلى مدفنه فى حديقة الكنيسة التى اختاره بنفسه.
الوصية
فى ديوان «ورد أقل» يكتب محمود درويش: «يحبوننى ميتًا، ليقولوا: لقد كان منا، وكان لنا»
والقصد من القصيدة دارج ويخشاه الجميع، لكننى أحب فلسفة الدارج وتعميقه، لذلك أتوقف معكم عند قصتين تجمعان بين السخرية والمرارة فى لحظة الموت:
القصة الأولى: ليلة إعدام الرئيس
فى شتاء آخر لا يشبه شتاء رحيل فيشر واميلى برونتى كنت ساهرا فى مناوبة ليلية بأحد استوديوهات مدينة الانتاج الإعلامى كرئيس تحرير لإحدى القنوات الإخبارية المشفرة، وفى نهاية ديسمبر من عام ٢٠٠٦ بثت الوكالات تنويهًا لخبر عاجل عن إعدام صدام حسين، كانت وقفة عيد الأضحى ومذيع الأخبار معى فى تلك الليلة هو المذيع العراقى الصديق «أيمن خالد» الذى تجمدت صورته على فضائية «الشباب» عدة أيام بعد اقتحام الأمريكان للاستوديو وإغلاق القناة، جلسنا فى توتر نتابع المعلومات المتواترة باقتضاب، وتأخرنا حتى وصلت لقطات الفيديو، لم أكن من المعجبين بصدام لكننى تأثرت بالغ الأثر بمشهد موته، وكان الإحساس الأكثر إيلامًا فى نفسى، هو إفساد لحظة الموت بالعتاب أو الشماتة، ولا أتسامح قط مع حرمان مقبل على الموت من حق السلام والهدوء والاحترام فى لحظة الانتقال، والعبرة من القصة متروكة لمن يفهمها ويقدرها.
القصة الثانية: نكتة موت الإمبراطور
بعد عهد حافل بالصراع والحروب والإنجازات وصل الإمبراطور الرومانى فسباسيان إلى خط النهاية وعانى من أعراض مرض مزعج، وعندما سألته زوجته عن حاله ابتسم لها وهو يقول قوله المأثور والمحير للمؤرخين: «يبدو أننى أتحول إلى إله»، وعندما شعر برجفة الموت قال لمن حوله القول الأشهر الذى شاع ولم ينسب إليه: «أسندونى.. يليق بالإمبراطور أن يموت واقفًا»، ثم سقط وذهب مع الموت.
وقد وجدت فى إحدى روايات سينيكا «معلم نيرون» تفسيرًا مقنعًا وصائبًا يكشف مغزى قول فسباسيان «أصير إلها»، فقد كان من عادة الرومان تأليه حكامهم بعد الموت، إلا من يغضبون عليه، ولما جاء فسباسيان بعد نيرون وسعى لإصلاح مفاسده فى الحكم، فقد أراد أن يسخر من عادة تأليه الحاكم بعد موته، كأنه يلتقى مع درويش ومع أغلبية الناس فى نقد طريقة «الموت يجعل الميت أجمل».
وبناء على فهمكم للقصتين أترك وصيتى لأهلى، وأصدقائى، والمحبين، والكارهين الطيبين:
لا تعلنوا عن موتى إلا بعد دفنى فى مقابر عائلتى بجوار أبى.
لا تقيموا سرادقًا للعزاء، سأترك صفحتى على «فيس بوك» مفتوحة كدفتر للعزاء والدعاء.
أطلب الغفران من أى كريم آلمته أو كنت سببًا فى ضرر وقع له بقصد منى أو بغير قصد، أما الله فروحى مطمئنة أنه الغفور الرحيم الذى يسامح فى حقه ولا يسامح فى حقوق الناس.
وأخيرًا من يحبنى وتأخر فى إظهار حبه، فليذكرنى بخير ويدخر ما لديه من حب لابنى وابنتى، فهما مفتاح سعادتى فى الأولى وفى الآخرة..
دعواتكم لى، ومحبتى للجميع.