الثلاثاء 04 فبراير 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

صانع القلق.. الروائى الجزائرى كمال داود: أحلم بتحرير فلسطين من العرب!

الروائي كمال داود
الروائي كمال داود

- لماذا لا تعنينا الحرب عندما تكون بين مسلمين مثلما يحدث فى سوريا والسودان؟

- من النادر أن ينجو كاتب عربى من الشتائم والانتقادات وتحريف الكلام

- فلسطين تحولت إلى مطية لكره اليهود والذات والنيل من مخالفينا فى الرأى

- ضيع الفلسطينيون أراضى لهم ويضيعون تاريخهم لأنهم «أسرى القومية العربية»

يرفض الركود والثبات، فهما خصماه اللدودان اللذان يحاربهما، ليس فقط بإثارة العواصف والزوابع، بل وبإشعال البراكين الخامدة أيضًا، فهو من نوعية الكُتاب الذين يقتاتون على القلق الروحى والوجدانى والعقلى، فيكاد يصطدم ويصارع الجميع وهو يكتب على الورق. هو الروائى الجزائرى الفرنسى كمال داود، الذى فجر مجموعة قنابل فى الوسط الثقافى العربى، بروايته «الحوريات»، التى أُعلن فوزها بجائزة «جونكور» الفرانكفونية لعام 2024، أوائل نوفمبر الماضى، وتعرض بسببها لموجة من الانتقادات والاتهامات، رغم أن امرأة اتّهمته بأنه روى حكايتها، لكن قصتها معروفة، فقد روتها والدتها بالتّبني عام 2022، في مجلة DeGroene Amsterdammer العلمية في مارس 2022 ، وصارت معروفة عند الناس، عن كل هذه القنابل التى فجرها، والاتهامات العنيفة التى واجهها طوال أسابيع، تحاور «حرف» الروائى كمال داود.

■ بداية.. بمَ تقدم نفسك للقارئ المصرى غير المتخصص؟

- فى البداية، أنا كاتب جزائرى وفرنسى، وُلدت فى قرية جزائرية ساحلية اسمها «ماسرة»، وتخرجت فى المدرسة الجزائرية، وصرت صحفيًا فى الـ٢٣ من عمرى، إبان الحرب الأهلية فى الجزائر «١٩٩٠-٢٠٠٠»، ثم مؤلفًا وكاتب أعمدة صحفية فى العديد من الجرائد العالمية، من بينها «لا ربيبليكا» الإيطالية، و«لوبوان» الفرنسية، و«نيويورك تايمز» الأمريكية. 

■ ما الذى دفعك إلى عالم الكتابة؟ لماذا تكتب؟

- هذا سؤال يهواه الكُتّاب. فالكُتّاب يحبون الكشف عن الأسباب التى أودت بهم إلى امتهان الكتابة. فيما يخصنى، أظن أن السبب هو افتقادى إلى الكتب فى صغرى، بعدما نشأت فى قرية فقيرة لا تصل إليها الكهرباء آنذاك، بالتالى لم نعرف التليفزيون. وافتقدت الكتب، لأن البلاد كانت تفتقد إلى مكتبات وبائعى كُتب. لعل السبب الذى أودى بى إلى الكتابة هو رغبة فى تدوين كتب أحلم بمطالعتها، أو مواصلة قصص لم تكتمل. هل يعقل أن الملل قادنى إلى لذة الكتابة؟

فى صغرى، أتقنت الفرنسية، وكنت أساعد أقاربى فى مطالعة رسائل أهلهم الذين يقيمون فى فرنسا، أقرأ لهم كذلك ورقة الاستخدام التى تنضوى عليها الأدوية. كنت أكتب رسائل حب إلى جيران لى كى يرسلونها إلى خليلاتهم. وفى قلب كل مبدع، يخبو جرح يتحول مع مرور الوقت إلى مصباح علاء الدين، يمسد عليه فيخرج منه الإلهام.

■ هل لديك طقوس بعينها تحرص عليها خلال الكتابة؟

- كل كاتب له طقوس تخصه، وهى طقوس ضرورية لصرامة التخييل، الذى يصعب ترويضه. بخصوص طقوسى: الكتابة فى الصباح جنب فوضى الأمكنة أو المقاهى أو قاعات التحرير، مع الكتابة بحبر أسود. أكتب قبل الواحدة كى يتسنى لى وقت قيلولة. أكتب وأنا أستمتع بلحظة الكتابة، لأن الكاتب الذى يشعر بملل فى هذه اللحظة، ينقل عدوى الملل إلى القارئ. أفضل أن أنقل إلى قارئى عدوى البهجة.

■ رغم إجادتك العربية تكتب بالفرنسية ثم تترجم.. لماذا؟

- عندما يكتب جزائرى باللغة الفرنسية فهو يضع نفسه فى مأزق. يعرض نفسه إلى تأويلات غير صائبة. نظرًا إلى التاريخ الكولونيالى، ووطأة السياسة باسم الهوية المقدسة. ومسارى المهنى أوصلنى إلى الكتابة باللغة الفرنسية. لم يكن خيارًا سياسيًا، لكنها رغبة، لقاء، قصة حب، وليست قصة حرب. ليست خيانة، بل فرصة أُتيحت لى.

اللغة الفرنسية ليست منفاى، بل سفر بديع، وعندما أسماها مالك حداد بـ«المنفى»، فهو عبر عن خيار حزين، قرر نحر موهبته، أطلق نار ما بعد التحرر على نفسه، لأن اللغة الفرنسية جزء من تاريخ الجزائر، والكُتّاب الجزائريون باللغة الفرنسية يحظون باعتراف فى العالم، فلم نتخلَّ عن هذه الثروة ونرميها من النافذة؟!

■ ما التحديات التى واجهتك ككاتب جزائرى يكتب عن قضايا حساسة مثل «العشرية السوداء»؟ وإلى أى مدى أثرت هذه الحقبة عليك؟ 

- الحرب الأهلية فى الجزائر أثرت علىَّ بعمق، علمتنى أنه من السهولة خسارة بلد، وأن الحياة من شأنها الانتقال بسهولة من أخوة إلى فظائع. علّمتنى أن الإنسان وحش، وأن من العسير أن نروى الحرب إلى الآخرين، وأن الأدب هو من يعبر عما يمور فى خواطرنا من صمت مأساوى.

من الصعب الكتابة عن الحرب الأهلية فى الجزائر، وذلك يعود إلى أسباب كثيرة، أولها أن القانون يمنع ذلك. بالمقابل، الإرهابيون لا يزالون على قيد الحياة، ولا يزالون يخوفون النخب التقدمية، إلى جانب أسباب أخرى، مثل الإعلام الجزائرى الذى ما زال فى قبضة الإسلاميين، وهم أشخاص لا ضوابط لهم، يهاجمون كل من يكتب عن تلك الفترة.

 

■ كيف تتعامل مع الانتقادات التى وجهت إليك بعد فوزك بجائزة الـ«جونكور»؟

- انتقادات؟ شتائم؟ تحريف كلام؟ من النادر أن ينجو كاتب من العالم العربى من هذه «الردود» الخشنة. الكُتّاب يُمثلون الحرية والكونية والتخييل وعدم المبالاة. يتهمونهم بكل شىء وبلا شىء فى الوقت عينه. أنا أصغى إلى النقد المتعلق بعملى لأنه يفيدنى. أما شتائم أو تحريف كلامى أفضل عدم الرد عليه.

فى الجزائر الكاتب يرمز إلى حرية نتغاضى عن عيشها فى تناقضاتها وهشاشتها. إنه يرمز إلى التفكير والتخييل فى بلدان تخشى ذلك. منذ سنوات طويلة وأنا أتعرض إلى تهجمات وتهديدات وإساءات، هذا جزء من الثمن الذى ندفعه من أجل الكتابة والعيش الحر. منذ قرون ونحن مهزومون وخاضعون فى العالم العربى. نغنى للحرية وننسى أن نعيش أحرارًا. لم نتعلم سوى الحديث عن التحرر بعد انقضاء «الكولونيالية».

■ هل تعتقد أن هناك حملة منظمة ضدك؟ وما الأسباب وراء هذه الحملة؟

- هذه المرة، مثل مرات سابقة، هجمات منظمة وتعرف هدفها. لماذا؟ لأن الجزائر ومنذ عقود لم يكن بها مشروع مجتمع، عدا تكرار سردية الحرب المتخيلة ضد فرنسا. يجد الكُتّاب أنفسهم فى وسط حقل من الأوهام، بين فرنسا مُتخَيلة وجزائر لا تتخيل مستقبلها. ثم هناك الفراغ الثقافى، حتى أن صديقًا جزائريًا سألنى: «إذا لم يهاجموك هذا الشهر ماذا سنفعل؟ سنشعر بالملل، لأنه لا توجد قاعات سينما ولا مسارح ولا حياة حرة فى تمضية الوقت. عندما يهاجمونك نملأ وقت فراغنا».

نحن الكُتّاب نشبه كرة بلياردو بين الجزائر وفرنسا، بين الغرب والعالم العربى. كل واحد يصفى حساباته مع الآخر على ظهر الكُتّاب: النظام السياسى الذى يعيش فى فراغ، الإسلاميون الذين يرغبون فى هدم كل قيادة تخرج عن نخبهم السياسية وعن خطاباتهم، وكذلك نخب سياسية أخرى لا تريد الحديث سوى عن حرب واحدة: حرب التحرير. عندما يقتل عربى عربيًا آخر، نقول ضحية أو ميت، وليس شهيدًا. وعندما الغربى يقتل عربيًا يصير شهيدًا، يصير الميت الذى يستحق الخلود. فى رأيى، أن بلدًا يقضى وقته فى الحديث عن المُستعمِر القديم ليس مستقلًا، بل تابعًا.

■ ما ردك على الاتهامات الموجهة إليك بشأن موقفك من القضية الفلسطينية؟

- أحلم أن تصير فلسطين حُرة. لكن ماذا فعلنا فى الجزائر من أجل فلسطين؟ هل تبنينا الأيتام؟ كلا. ساعدناها فى تكوين نُخب؟ كلا. يعيش الفلسطينيون ظروفًا صعبة فى بلدان عربية، ويحتاجون إلى «فيزا» فى التنقل بين الدول أو للعيش فيها. لا يستطيعون أن يصيروا أصحاب أملاك فيها. نفضل رؤيتهم على الدوام مثل «لاجئين».

ثم كيف نرجو تحرر فلسطين ونحن لسنا أحرارًا فى بلداننا؟ منذ صغرى فهمت أن فلسطين يريدون منها مطية، مطية فى كره اليهود والذات، مطية كى لا نحكى عن الحرية فى بلدنا، مطية للنيل ممن لا يقتسم معنا الرأى نفسه، مطية كى نبتعد عن قضايا الإنسانية، مطية من أجل التفرقة واتهام الغرب.

عندما تكون هناك حرب بين مسلمين نشعر بأنها لا تعنينا، نصف مليون فى سوريا، يصير تفصيل بسيط عندنا. ١٥٠ ألف فى السودان يصير تفصيلًا كذلك. إنسانيتنا تنظر صوب فلسطين، ونرفض أن نفكر بشكل كونى باسم فلسطين.

أحلم أن تصير فلسطين حُرة وتحررنا، تحررنا من العنصرية والجبن، من المطية التى نسكن فيها العالم ونقتسم كونيته. أحلم بأرض لفلسطين. أن تكون حُرة منا نحن العرب، من شقائنا وحقدنا على الإنسانية. ضيع الفلسطينيون أراضى أمام الاحتلال، ويضيعون تاريخهم الآن بكونهم أسرى للقومية العربية.

أنا لا أدين آخرين لأنهم لا يفعلون مثلى. وعندما أتكلم عن فلسطين، فى دعمى لها من منظرى، هناك من يشتمنى. إنهم يبحثون عن خصم لهم على مقاسهم. البعض يهاجمون كُتّابًا فى العالم العربى، لأن الكاتب ليس مُسلحًا ومن السهل النيل منه أو قتله.

■ الحضور الكبير للأدب الفرنسى فى أعمالك حالة من التفاعل الثقافى أم تحدٍّ للهيمنة الاستعمارية؟

- كلا، كتاباتى تغذيها كل الآداب. القارئ المسافر الوحيد الذى لا يحتاج إلى جواز سفر، ولا أنا أحتاج جواز سفر عندما أكتب. لا أعرض نفسى لأى مساءلة، بل أفكر فى القضايا التى أنا مقبل عليها. الكتابة تقتضى طرح الأسئلة. أما الإجابات فمن مهام رجال الدين والسياسة.

■ هل واجهت ضغوطات أو تهديدات بسبب مواقفك الأدبية والسياسية؟

- تهديدات من طرف جماعات الإسلام السياسى، نعم. كما حصل معنا نحن جميعًا. الإسلام السياسى عائلة تمقت الشعراء والحرية والسؤال والاختلاف والكونية، مشروع «هيمنة سياسية». فى الغالب من يتكلم باسم الله، يستغل اسم الله فى قضاء مصالحه.

أرى أن ما نحتاج إليه فى العالم العربى هو «نظرية فى السعادة والتلهية». بغض النظر عن الإسلاميين عندما يعدون الناس بالجنة، العالم العربى لا يعرف معنى السعادة والتلهية. نعيش حياتنا كمن اقترف خطأً مُبهَمًا. ما زلنا نتحمل وزر خسارات وضياع الأندلس.

■ كيف استقبلت خبر فوزك بجائزة «جونكور»؟

- جائزة «جونكور» حدث كبير فى حياتى. لا أدخل سباقات من أجل جوائز، لا أرغب فى ذلك، لا تهمنى التكريمات. وعندما تأتى بنفسها، أشعر بالسعادة. غادرت قريتى فى الجزائر، ليس لأكون هامشًا، بل لأكون الأول.

فى يوم الجائزة كنت خائفًا. تذكرت والدى ومعلمى فى مدرسة القرية، ثم خفت. صديق قال لى: «فى الجزائر، لا يوجد نجاح من غير عقاب». نحن نفضل الأسلاف على الأبناء، نشبه النبى إبراهيم، نريد التخلص من أبنائنا للحفاظ على كباش مطيعة!. و«جونكور» جائزة وليست رواية، تفتح أبوابًا، بينما الكتابة تفتح نوافذ.

■ ما رسالتك للقراء فى الجزائر والعالم العربى ككل؟

- فكروا فى الغد. لا تفكروا فى الماضى. الماضى يسكنه الموتى.

■ لماذا اخترت المرأة بطلة لروايتك «الحوريات»؟

- فى مجتمعاتنا النساء هن اللاتى يدفعن ثمن الحرية الباهظ. هن فى أسر منذ قرون. نحن حررنا بلداننا، لكن حررنا الرجال وليس النساء. المرأة مرآة الحميمية، مرآة أسرارنا وإنسانيتنا، والديانات كافة لها حسابات تجاهها، لأنها تذكرهم أنهم ليسوا آلهة، مثلما يدعون.

الطفلة فى روايتى اسمها «أم كلثوم»، كناية عن هذه المرأة، هذا الصوت الإلهى الإعجازى، صوت فريد من نوعه، صوت جمال وثورة ضد السائد. وأنا شخص يقيس تطور المجتمعات بحسب تحرر المرأة. عندما تتحرر المرأة يتقدم البلد إلى الأمام، وعندما تُحجَب أو تتوارى يسير البلد إلى جهة كابول. فى مجتمعاتنا العربية، نريد خوض سباقات سرعة بساق واحدة، بنصف المجتمع فقط. كيف نريد السعادة بينما النساء فى شقاء؟!