محمد الفارسى: إذا لم يهتم الكاتب بالناس لا خير فى أدبه
- الجوائز الضخمة للرواية هى ما تُوهم البعض بأنها «تتسيّد» السرد
قبل أيام، فاز الكاتب محمد نجار الفارسى بجائزة «الدكتور حسن البندارى»، ضمن جوائز اتحاد الكتاب لعام 2024، عن المجموعة القصصية «أشياء لا تُذكر»، بعدما سبق أن نال عدة جوائز من قبل، فى الرواية والقصة القصيرة وأدب الطفل.
ففى الرواية، فاز «الفارسى» بجائزة «ربيع مفتاح» على مستوى الوطن العربى. وفى القصة القصيرة حصد جائزة «رامتان». أما فى أدب الطفل فتصدر مسابقة الجمهورية الكبرى، وغيرها من الجوائز، إلى جانب حصوله مؤخرًا على درجة الماجستير فى النقد الأدبى، عن أطروحته المعنونة بـ«نكبة فلسطين فى السرد العربى.. نماذج من الرواية والقصة القصيرة توثيق الحقائق وتأكيد الهوية».
عن كل هذه الجوائز، ورأيه فى المنافسة بين الرواية والقصة القصيرة وغيرهما من الأجناس الإبداعية الأخرى، وتوقعاته لمستقبل القصة القصيرة على وجه التحديد، ونظرته للنقد الأدبى فى الوقت الحالى، يدور حوار «حرف» التالى مع محمد نجار الفارسى.
■ بداية.. كيف ترى الرأى القائل بـ«تسيّد» الرواية على القصة القصيرة؟
- «سيادة» الرواية على القصة، أو كلتيهما على الشعر، أو العكس، أرى أنه كلام غير صحيح فى ميزان النقد، لأن كل فن له مقوماته وسماته، ربما يكون أحدها أعلى صوتًا من الآخر، وهذا ليس لعيب أو ضحالة الفن بعينه، أو تقاعس كتابه عن التجديد، إنما يكون لأسباب مالية بحتة، فجوائز الرواية حقيقى باذخة فى عطائها، لذا نجد كتاب السرد يهرولون إليها، وهذا ما يوهم البعض بأن الرواية «تتسيد» السرد. وأقولها لكِ بملء الفم، ومن واقع تجربتى، أقمت العام الفائت مسابقة للقصة القصيرة فى أسوان، ولم أتخيل كم القصص التى وصلتنى، والأهم من الكم، اكتشفت كتابات أفضل كثيرًا ممن يكتبون ويملأون الدنيا ضجيجًا.
■ إذن لماذا لا تلقى القصة رواجًا بين القراء مقارنة بالرواية؟
- من قال إن القصة لا تلقى نفس إقبال الرواية؟ أظن هذه قوالب كلامية مُعدة سلفًا من أنصار الرواية للنيل من القصة. القصة ما زالت موجودة ولها كُتابها وقراؤها. انظروا إلى الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية والشهرية، ستجدوا كمًا هائلًا من القصص المنشورة. الحقيقة أن القصة أزمتها فى نقدها.
■ هل تعتقد أن دور النقد غائب؟
- لا من ناحية الكم. أما من ناحية الكيف، فنعم تعانى الساحة الأدبية غياب النقد الأكاديمى الموضوعى، لدرجة أن الأدباء أصبحوا ينقدون بعضهم بعضًا على صفحات الجرائد!
■ كيف ترى الجوائز الثقافية.. وهل انتشارها أدى لظهور اتجاهات بعينها فى الأدب وتحديدًا الرواية؟
- رغم ما يُثار حولها عند إعلان نتائجها من تشكيك فى مصداقيتها، تعد الجوائز الأدبية حافزًا قويًا للأدباء للكتابة والتميز، وابتكار تجارب سردية جديدة تُثرى المكتبة العربية. هناك كثير من الكتاب لولا المسابقات الأدبية ما وصلوا إلى النقاد، فهى فرصة لهم ليفرضوا كتاباتهم عليهم عنوة، وهى أيضًا مورد مهم للمبدعين إذا ما نالوها.
أما بالنسبة للقراء، فالجوائز الأدبية تدفعهم إلى الاطلاع على الأعمال الإبداعية الجديدة، خاصة التى تصل إلى المراحل النهائية. لكن أيضًا الاتجاهات الأدبية للجان التحكيم ربما تحيد بالجائزة إلى ميولهم، فغياب معايير التقييم من حيث الموضوع ومستوى البناء الروائى أو اللغوى والأسلوبى، فى كثير من الجوائز، يساعد على ذلك الأمر، وهذا ما يُلقى على الجائزة بظلال الشك.
■ هل تعكس ظواهر مثل «الأعلى مبيعًا» حالة حقيقية أم أنها «ظواهر مصنوعة»؟
- كل هذه أوهام يُرضى بها الأدباء غرورهم. نحن للأسف الشديد ليست لدينا مبيعات ولا قراء، وأغلب دور النشر عملها استباحة دم المبدع، فأنا أكتب، وأدفع لدور النشر مقابل نسخ تعد على أصابع اليد.
■ نلت الماجستير عن أطروحتك «نكبة فلسطين فى السرد العربى».. إلى أى مدى نجح السرد العربى فى رصد النكبة؟
- قدم الأدب العربى الكثير من الكتابات السردية التى اهتمت بالشأن الفلسطينى، مئات من القصص القصيرة والروايات، منها ما كان رمزيًا، ومنها ما كان مباشرًا صريحًا. منها ما كان كل أحداثه تدور حول النكبة، كأعمال الكُتاب الفلسطينيين، ومنها ما كان يستخدم النكبة كما يتعامل الطاهى مع الملح، قليل من النكبة يستقيم العمل فنيًا، وهذا الاتجاه يمثله كُتاب القطر العربى.
وأرى أن السرد العربى عن نكبة فلسطين مر بمراحل أربع: الأولى قبل النكبة سنة ٤٨، وكانت فترة تعبر عن الخوف من فقدان الهوية العربية مما يحدث من تغيرات ديموغرافية فى فلسطين، والثانية ما بعد نكبة ٤٨ حتى نكسة ٦٧، وكانت عن عذابات الواقع المتردى، والآمال العربية الكبيرة المنعقدة على الوحدة العربية فى إنقاذ فلسطين.
وتمثل المرحلة الثالثة الانكفاء على الذات بعد النكسة، حين انزوى كل قطر مع نفسه يلعق جرحه، ووجد الفلسطينيون أنفسهم بلا معين فى وجه الصهيونية. أما المرحلة الرابعة فجاءت بعد انتصار أكتوبر ١٩٧٣، وانتفاضة الأقصى الأولى عام ١٩٨٧، وحينها التحم أدباء الأقطار العربية بصورة أوضح مع إخوتهم الفلسطينيين فى الذود عن حياض الوطن الكبير، بعد تحرك الشارع العربى، وشعورهم بالمسئولية تجاه «قضية القضايا».
ويظل سرد فلسطينيى الشتات، إذا جاز لنا تقسيم السرد الفلسطينى إلى «الشتات- المهجر- داخل الداخل» الأكثر زخمًا، والأصدق والأفصح تعبيرًا عن معاناة بنى وطنهم، لأنهم كبقية الشعب عانوا الاقتلاع، وأُلقى بهم على هامش الحياة فى مخيمات لا إنسانية، وعلى عاتقهم فقط قام النضال المسلح للتحرير. أما سرد المهجر وداخل الداخل فكانت كتاباتهم حنينًا للماضى، فأهل المهجر صراعهم بين البقاء فى المهجر والعودة للوطن، وأهل داخل الداخل صراعهم بين الهوية الفلسطينية والهوية الصهيونية المجبورين عليها.
■ نعود إلى القصة القصيرة.. ما الذى جذب اهتمامك إلى هذا اللون الأدبى؟
- فى الحقيقة انجذبت إلى السرد عمومًا، لأننا فى القرية نشأنا على حب الحكايات والسير التراثية مثل «أبوزيد الهلالى» و«الشاطر حسن»، حكايات أمهاتنا والقوّالين. ثم جاءت مرحلة الشباب، فكتبت القصة القصيرة والشعر، ولا أدرى أيهما سبق الآخر، ربما الشعر، فكتبت الشعر بنوعيه الفصيح والعامى، غير أننى لم أجد نفسى فيهما، رغم حصولى على جائزة فى الشعر الفصيح، فاتجهت إلى القصة القصيرة، وفى سن الـ٢٠ انتهيت من مجموعتى القصصية الأولى «الفوارس»، التى صدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة عام ١٩٩٥، لتتوالى بعدها كتاباتى.
■ هل تهتم فى كل قصة تكتبها بأن يكون لها مغزى بالنسبة للأوضاع الاجتماعية المعاصرة؟
- إذا لم يهتم الكاتب بحياة الناس على عمومها، لا خير فى أدبه، فالأدب الحقيقى يعبر عن أوجاع الناس وهمومهم وتطلعاتهم، انظرى إلى قصص «تشيخوف» التى عبر فيها عن الإنسان المعذب، الذى يعانى فى عالم يحكمه الأقوياء والأغنياء، ساخرًا من رفاهية الأغنياء وسلطة الأقوياء، جاعلًا من المشاعر الإنسانية زاد الحياة، ومن الإنسان أسمى ما فى الوجود لكونه إنسانًا.
انظرى إلى قصص يوسف إدريس، وكيف صاغ لنا حياة المهمشين فى الريف، وإلى ما كتب غسان كنفانى، خاصة فى مجموعته «عن الرجال والبنادق»، وجل رواياته وقصصه القصيرة، وإلى حياته القصيرة وكيفية قتله، سندرك أن السرد قوة يهابها الطواغيت، فبسبب قصصه ورواياته قتله الصهاينة ليخرسوه للأبد.
هذا يدفعنى إلى الاعتقاد بأن مقولة «الفن للفن»، أو أن «قيمة الأدب فى نواحيه الفنية»، هو كلام واهٍ. لا أدعو إلى نقل الوقع بحذافيره داخل العمل الأدبى، لكن يجب أن يتغلب الأسلوب الفنى على النقل المحض.