المواجه.. الروائى الجزائرى سمير قسيمى: كل ما فى العقل العربى أسطورة ووهم بلا استثناء
- الرواية التاريخية العربية سطحية ونادرة الخيال
- كُتاب الرواية التاريخية لا هدف لهم إلا تحقيق المبيعات أو الجوائز
- الجوائز العربية الكبرى تحاول قولبة الروائيين وتدجين القراء
- انقضى زمن الرواية ونعيش الآن زمن «روايات الجوائز»
يحمل الروائى الجزائرى سمير قسيمى فلسفة خاصة تجاه العالم وتجاه الإنسانية، وهى فلسفة تجلت بشكل أعمق فى روايته الأخيرة «احذر دائمًا من الكلاب»، الصادرة قبل أيام عن دار تكوين الكويتية.
سعى «قسيمى» خلال روايته لتوريط القارئ فى التفكير فى الحدود الدقيقة التى تفصل بين الحقيقة والوهم، وبين التاريخ والأسطورة، ليفتح بابًا أمام التأمل فى علاقة الإنسان بالمقدس الذى صنعه بنفسه، عبر النقد الموجه إلى ما يصفه البعض بـ«الحقائق الثابتة»، وعبر نقد فكرة الأسطورة بشكل عام، التى يتم استخدامها كأدوات تتحكم فى وعى الناس.
عن الرواية وتفاصيلها وعلاقاتها بالمقدس الدينى والأساطير، وحول النقد وروايات الجوائز وغيرها من القضايا، أجرت «حرف» مع سمير قسيمى الحوار التالى.
■ فى روايتك الصادرة مؤخرًا «احذر دائمًا من الكلاب»، تطرقت إلى موضوع الوهم وتحوله إلى أسطورة ينبنى عليها «المقدس» بجميع أشكاله الدينى والسياسى والتاريخى.. هل وضحت ذلك الأمر للقارئ؟
- حاولتُ فى هذا العمل تتبع سيرة «الكذب»، الذى كثيرًا ما يتماهى فى عقل الإنسان العربى مع الحقيقة، وكيفية تحوّله إلى الوهم، وهو تجولٌ تفرضه حاجة الإنسان العربى إلى الاعتقاد فى الأمل، الذى أعتقد أنه أولى طفرات الكذب ضمن عدد لا متناهٍ من الطفرات، التى تؤهّله ليتّحذ صورة الوهم الذى هو بلا شكٍّ جوهر أى مقدس، سواء كان دينيًا أو سياسيًا أو تاريخيًا.
لكننى فى «احذر دائمًا من الكلاب» وجّهت الأحداث لتشتغل على موضوعى المقدس الدينى والسياسى، دون الاعتناء كثيرًا بالمقدس التاريخى، لاعتقادى أن صناعة التاريخ، فبركة أو كتابة، ليست إلا تحصيل حاصل، غايته حماية المقدّسَين السياسى والدينى. حاولت فى روايتى هذه، إيصال هذا التصور من خلال شخصية المؤرخ البريطانى «صوئيل إليوت موريسون»، وهى شخصية متخيّلة، تمثل المؤرخ المُفبرك الأحداث التاريخية وصانعها، وهو شخصية من عادة العقل العربى تبجيل أمثاله، بسبب طبيعته الاستشراقية، وأيضًا بسبب انتمائه للطرف الغالب، والذى يحق له بلا شك أن يكتب التاريخ على هواه، لأنه الفريق المنتصر، ومع شخصية «ماوريسيو زيرى» البحار البرتغالى، حددت أيضًا موقفى من «الاستشراق» بشكل عام ودوره فى تشكيل المقدس التاريخى.
■ تقول إنّك وجهت الأحداث لتشتغل على موضوعى المقدس الدينى والمقدس السياسى.. كيف فعلت ذلك؟
- ربّما تعرفين موقفى من الرواية التاريخية العربية، والتى أعيب على معظم المشتغلين فيها وليس جميعهم، ما أصبحت عليه من سطحية وندرة خيال، ما يجعلها بالنسبة لىّ نوعًا روائيًا لا غاية له إلا شدّ القارئ إلى الخلف، شده إلى ماض مسل أو مجيدٍ أو حتى مأساوى بحسب وجهة النظر المعتمدة، دون أى إسقاط على الواقع، أدرك تمامًا ما قد يفترضه العقل الباطن للروائى العربى من قيود قد يضعها بعض الأنظمة لتحجيم فكره، بل تجعله يخاف على حياته وحريته إذا فكّر فى تجاوز خطوط حمراء، يفترض وجودها حتى وإن لم توجد فعلًا. ربما أتفهم هذا النوع من الخوف، لكنَّ ذلك لا يعنى أن يسبّل الروائى قلمه فى كتابة رواياتٍ، لا غاية منها إلا تحقيق المبيعات أو الفوز بجوائز وتلقى الدعوات لحضور الفعاليات الأدبية وتأهيله فى أعين مُحكمى الجوائز العربية الكبرى، التى تحاول قولبة الروائيين وتدجين التجديد حتى على مستوى الشكل الروائى، وهو ما نجحت فيه بلا أدنى ريب، بل نجحت فى قولبة القراء أيضًا بالتعدى، من خلال دعمها لنصوص لا تبتعد فى أسلوبها عن الواقعية والسرد الخطى، ولا تتناول من المواضيع ما يشغل الإنسان العربى فى واقعه من حرية شخصية وفكرية، وحقوق لا يتمتع بها، عبر دعمها اللا مشروط للروايات الطيعة والروايات التاريخية، سجينة الماضى. أعتقد أن هذا يعنى إعدام الرواية المتمردة فى موضوعها وشكلها، وقبرًا للكاتب النقدى المختلف.
موقفى من هذا النوع من الروايات، جعلنى أستعمل التاريخ كخلفية سحرية لوقائع روايتى «احذر دائمًا من الكلاب»، لك أن تقولى ديكورًا ومرجعية تسمح لى بتبرير غير المبرر من أحداث فى الرواية.
■ فى العقلية العربية.. ما هى الأساطير والأوهام التى تحولت إلى معتقدات وقناعات؟
- كل ما فى العقل العربى هو أسطورة ووهم بلا استثناء، لأنه عقل تسيّره العواطف حتى فى أكثر ما يعتقد فيه العقلانية، إننا نؤمن مثلًا بالنصر رغم هزيمتنا، ومقتنعون بأنها ليست هزائم بل انتصارات، نعتبر البراجماتية عيبًا يجب التخلص منه حتى بالنسبة للدول، نعتقد أن العلاقات بين المجتمعات يجب أن تبنى على الاحترام، رغم أنها تبنى على المصالح فقط، نعيش حياة من الشيزوفرينية فى كل شىء، حتى ذوقنا الفنى صار معيبًا للغاية، وعلى الرغم من يقيننا من كل ذلك، لا نلعب دور الضحية الموهوبة التى لم يفهمها العالم بعد.
■ إلى أى مدى يعكس بطل الرواية «عبد المؤمن حلوفة» تأثير الوهم وتحوله إلى قوة تحرك الشعوب، وتحدد لها ملامح المقدس الذى قد تستسلم له أو تقدسه دون وعى؟
- أولًا، لا يمكن اعتبار «عبد المؤمن» بطلًا للرواية، فقد اعتمدت فى عملى على بطولة ساهم فيها جميع شخصيات الرواية، من «عبدالمؤمن» إلى «القاضى» الذى لم أعطه اسمًا، مرورًا بنسرين نايت خوجة وصالح برجيل وتيموثى القديمة وتيموثاوس الصغير أو النبى ويحيى المعمدان، بل حتى الشخصيات الخلفية فى الرواية اشتركت فى هذه البطولة الجماعية كالسيّدة كورتيناى أو المؤرّخ موريسون أو غيرهما من شخصيات. أما إذا كان لا بد من بطل فى روايتى، فأنا أرشح الوهم والكذب.
شكّلت شخصية عبدالمؤمن لتمثل ذروة الانحراف الفكرى والفساد الاجتماعى فى أى مجتمع، إنه رجل مستكين منعدم الضمير، شكّلته أحداث كثيرة على رأسها تاريخه العائلى المريب، فهو ابن رجل قتل مجاهدًا فى الثورة التحريرية وانتحل شخصيته ثم عاش حياته يحمل اسمه، مدعيًا حقيقة ليست له. كما عمدت لتكون أمه من نفس الفصيلة، وهى فصيلة «المدعين» الذين تسربوا من شقوق الحظ والمصادقات السادية للتاريخ إلى حيواتنا، ليوهمونا بأنهم نماذج بشرية يستحسن بنا اتباعها، لكنهم ليسوا فى الحقيقة إلا بالونات يملؤها الهواء ومزاعم، كلّما زادت حجمًا وانتفاخًا، كلّما تيسر تفجيرها.
■ بعض شخصيات «احذر دائمًا من الكلاب» تحمل طابعًا رمزيًا يمكن استخدامه لنقد المقدس الدينى، فأسماء مثل: تيموثى القديمة، وتيموثاوس الصغير، ويحيى المعمدان مألوفة مستمدة من التراث الدينى وتعيش قصصًا وتحولات.. هل وظفت هؤلاء بشكلٍ رمزى ليعكسوا نقدًا من نوع خاص؟
- وظفت هذه الشخصيات رغبة فى تقديم رؤية نقدية للمقدس الدينى، وذلك عبر سردٍ يعكس الصراع بين القداسة الزائفة والقيم الإنسانية الحقيقية. فتيموثى القديمة تجسد القداسة المتآكلة التى تفقد معناها الأصلى بفعل الزمن، وتتحول إلى عبءٍ ثقيل على الوعى الجماعى، أقصد أنها تمثل رمزًا للتقاليد الدينية التى تتجذر فى المجتمع وتستمر بالتأثير على الأجيال، رغم افتقادها أى صلة حقيقية بروح العصر أو احتياجاته، فهى كائن مُخلَّد تعيش خارج إطار الواقع والزمن، تعبر بلا شك عن بقاء الأفكار التقليدية التى لا تزال تسيطر على العقول وتوجّه سلوكيات الأفراد، دون أن تُقدّم أى إضافة ملموسة لحياتهم.
كما أننى اعتمدت فى نحتها على ما آمل أن يجعل القارئ يشعر بثقل هذا الإرث والتساؤل عن جدوى استمراره. أما بالنسبة لتيموثاوس الصغير، فهى شخصية مضادة لتيموثى القديمة؛ اسمه المستوحى من قديس مسيحى يوحى بالصرامة، لكنه فى الحقيقة يعكس براءة بداية الوعى الدينى الجديد، لهذا نجده يحاول دائمًا تجاوز التقليد الأعمى، فيختبر قضايا الدين والقداسة عبر فضول وشكوك متنامية، فمن خلاله أستعرض إمكانية إعادة النظر فى المقدسات والطقوس، ومعاملتها من منظور أوسع وأكثر ارتباطًا بقيم الحياة المعاصرة. شخصية تيموثاوس الصغير تجسّد صراعًا داخليًا فى مواجهة الجمود، وكأنها تقول إن الطفولة فى الدين ليست مرحلة زمنية، بل وعى جديد يتيح التطلع نحو فهم إنسانى أكثر أصالة للدين، لكن لسوء حظه فإن هذا الدين حمله «يحيى المعمدان»، وهى شخصية تابعة تعبّر عن المتلقى الساذج، الذى يحمل فى روحه قابلية لتقبل القيم الجوهرية للدين بل لأى دين يمنحه شيئًا من الأهمية، ويعطى لحياته التافهة أى غاية، غاية تلبس دائمًا وبحسب الحاجة ثوب الطهارة والتجديد الأخلاقى.
■ هل تعتقد أن النقد العربى سيكون عادلًا مع روايتك، خاصة أنك قد اعتبرت فى أكثر من مرة أنه نقد ظالم؟
- لقد تحدثتُ فى مناسبات عدة عن مشكلتى مع النقد العربى، أو إذا شئتِ، وجهة نظرى بخصوص النقد العربى، وهو رأى أتشبث به ومقتنع به بلا شك، فأنا أعتقد أنها قضية عميقة تمتد جذورها إلى طبيعة الثقافة النقدية فى العالم العربى. كثيرًا ما يخضع النقد لدينا إلى الأحكام المسبقة وإلى أيديولوجيات تفرض نفسها على العمل الأدبى، بعيدًا عن تقييم عناصره الفنية. بل إن النقد العربى المتصدر فى بعض الأحيان لا يُعنى بالنص بقدر ما ينشغل بما يحيط به، سواء تعلق ذلك بخلفية الكاتب، أو بأفكاره الشخصية، أو حتى بشبكة علاقاته داخل الوسط الأدبى. لذا، ليس من السهل أن أقول إنى متفائل بتلقى النقد العربى لروايتى «احذر دائمًا من الكلاب»، لأنها نص قلق لا يخضع فى كتابه ولا فى موضوعه لأى قالب سبق وأن تعامل معه، من دون أن يعنى ذلك، أنه لن يحظى باهتمامهم ويشد انتباههم ولو فى السرّ، ليس لأن هذه الرواية تطرح قضايا جريئة حول الرموز المجتمعية والدينية، بل لأنها كتبت بأسلوب أردته غير مألوف تمامًا، يختبر أعماقًا نفسية وفكرية يصعب طرقها، فهى تقدم تجربة خاصة، تجمع بين نقد المجتمع وتناقضاته وبين عمق روائى يختبر مشاعر القارئ ويجعله يتساءل عن القيم التى نعيش وفقها، وعن المعايير التى نعدها مقدسة. كل ما أرجوه أن تكون هذه الجوانب دافعًا لبعض النقاد للتركيز على مضمون النص وأسلوبه بدلاً من الاكتفاء بأحكام عامة أو نقد ينحصر فى التفاصيل السطحية. مع ذلك، لست ساذجًا لأتوقع تغييرًا جذريًا، فما زلت أرى أن النقد العربى فى حاجة إلى إعادة نظر شاملة فى أدواته وأساليبه، كى يصبح قادرًا على مواكبة تطور الأدب العربى المعاصر واحتضان أصوات جديدة.
■ تطرح فى أعمالك أسئلة فلسفية عن الكون والوجود الإنسانى ومعناه.. هل تشارك أبطالك الروائيين حيرتك الوجودية؟ وكيف ذلك؟
- أحيانًا وليس دائمًا، أؤمن بضرورة أن يضع الكاتب مسافة بينه وبين عمله، وبالأخص بينه وبين شخصيات رواياته.
■ أشرت إلى أن الجوائز الأدبية عملت على تنميط الرواية وهوجمت روايتك «حبّ فى خريف مائل» على خلفية مشهد جنسى، وهو ما تعرضت له مواطنتك إنعام بيوض إثر فوز روايتها «هوارية» بإحدى الجوائز، فما علاقة الجوائز بمثل هذه الظواهر؟
- دفاعى عن إنعام بيوض لا علاقة له بجودة روايتها «هوارية»، فهى ليست كذلك، بل كان رفضًا لنصب المشانق ومحاكم التفتيش لأى عمل إبداعى، حتى وإن كان رديئًا أو سيئًا. كما أن مقالى المنشور فى الصحافة عنها، لم يتناول أحقيتها فى التتويج بهذه الجائزة، نظرًا لعدم اطلاعى على الروايات المنافسة الأخرى، بل دفاعى عنها كان من أجل الاحتفاظ لها بحقها فى أن تكتب ما تشاء دون أن يعرضها ذلك إلى أى محاكمة أو تهديد.
■ هل مازال «تابو» الدين والجنس والسياسة يحكم العقلية العربية فى تلقيها الأدب والفن بشكل عام؟
- بلا شك فهى العقلية العربية ذاتها، التى قال عنها «الماغوط»، إن تحرير فلسطين أهون من تحريرها.
■ حصيلتك الإبداعية 10 روايات.. هل تؤمن بأننا نعيش فعلًا «زمن الرواية»؟ وهل فكرت أو حاولت كتابة القصة؟
- لا، لقد انقضى زمن الرواية بلا شك، فنحن نعيش زمن «روايات الجوائز»، انقضى بمجرد أن تكرّس الاعتقاد بأن الرواية الجيدة هى الرواية التى تفوز بجوائز، ذهب زمن الرواية منذ أن أصبحت لها مواسم لكتابتها، بل آجال تتطابق بنحوٍ سحرى مع آجال الجوائز. انتهى زمن الرواية منذ أصبح عدد كتابها أكثر من عدد قرائها، وهو أمر معقول، ما دامت أرض السرد لم تعد تنبت للأسف إلا روائيين لا يكتبون إلا رغبة فى الفوز بجوائز، بل لا ينشرون كتبهم إلا إذا تعهد الناشر لهم بأنه سيرشحها لهذه الجائزة أو تلك، خلاصة القول هذا زمن رواية الجوائز.