علوية صبح: التصنيف وفق الهوية الدينية قتلٌ للإنسانية
- لا أكتب من منطلق الدعوة لتحرّر المرأة وإنما تحرّر الكتابة وتمرّد اللغة
- أنحاز فى أدبى للصوت النسائى من مبدأ إنسانى
- حاولت كشف المنظومة المجتمعية السلطوية الذكورية التى تسلّع الجسد
- المشاهد البصرية الحسية فى رواياتى محاولة لكسر النفاق فى اللغة
لا يمكن وصف كتابة الكاتبة اللبنانية علوية صبح بـ«النسوية»، فهى تقول إن انتصارها للمرأة فى أعمالها لا ينبع إلا من الرغبة فى الانتصار لصوت الإنسان، خاصة المستضعفات اللواتى يعانين من السيطرة الذكورية على مجتمعاتنا العربية.
وتحمل كتابة علوية صبح أكثر من هم، فهى ابنة بيروت التى شهدت الكثير من المحن والأهوال، وآخرها العدوان الإسرائيلى الغاشم، والذى تحدته بقولها: «رغم الفسفور الأبيض لن أغادر بيتى»، وابنة واقع عربى يرى الكثيرون أن المرأة هى الضلع الأضعف فيه، وغيرها من القضايا الأخرى التى سجلتها جميعًا فى أعمالها الروائية المختلفة.
«حرف» أجرت حوارًا مع علوية صبح، حول الموضوعات الأساسية التى تبنتها فى أعمالها، وكيفية بناء الشخصيات الروائية لديها، وآرائها فى واقع الكتابة العربية، وآليات انتشارها عالميًا، وغيرها من الأفكار، فى السطور التالية.
■ كيف تتعاملين مع مسألة الهوية فى رواياتك؟ هل تجدين أن الهوية اللبنانية المعقّدة والمتعددة الثقافات تفرض نفسها على نصوصك؟
- لا أتعامل بالتأكيد من موقع تنظيرى أو بحثى اجتماعى، وإنما من خلال السردية الروائية الكاشفة لها. ولقد حاولت فى روايتى الأخيرة خصوصًا «افرح يا قلبى» أن أرصد مآزقها وتحوّلاتها فى لبنان، منذ خمسينيات القرن الماضى فى زمن الناصرية القومية إلى الآن.
هذه التجاذبات والصراعات المعقّدة حولها لا تحدث فقط ضمن المجموعات المتعددة الثقافات وإنما ضمن العائلة الواحدة، لا بل داخل الفرد نفسه. وهى فرضت نفسها علىّ كما تقولين، لأن الكاتب لا يعيش فى جزيرة جغرافية أو نفسية أو اجتماعية ولا حتى فى جزيرة تخيلية معزولًا عن واقعه أو خبراته، أو عن حيوات أبطال رواياته.
فى الحروب الأهلية القذرة، فإن العنصريات الغرائزية تشعلها الخرافات الطائفية وليس الأديان، ما يقود إلى العماء الكلىّ. وما تمزُّق الأوطان إلا من تمزُّق الهوية وانشطاراتها، ويصير ما هو مفترض مسلّمات موضع شكّ وضياع وتشوّش.. وما كلّ ذلك إلا نتيجة لانكسارات وخيبات كبرى سياسية وثقافية ومجتمعية وانهيار مشروع الحداثة على كل الأصعدة.
المشكلة معقّدة جدًا، بحيث يصير الخوف من الآخر، أى آخر، هو الجدران التى تقود مسار الجماعات إلى الانزواء والعتمة والعنصرية والانطواء على ذاتها. وما هذا الانطواء سوى تدمير للذات وللهوية وللوطن.
وفى اعتقادى أن تعدّد الثقافات فى المجتمعات مصدر غنى وتنوّع جميلين. فالهوية الدينية هى ليست فقط هوية الإنسان ولا هى عنوان الفرد، وإذا كانت كذلك فهى قاتلة ومدمّرة. وما اختصار الإنسان بهويته الدينية إلا قتل لإنسانيته. وما هو مخيف فى هذا القرن هو إشعال العنصريات المتجدّدة. على كلٍ الموضوع فرض نفسه علىّ لما عشته وعايشته من حروب منذ مطلع شبابى. كما أعتقد أن سؤال الهوية الآن هو ثيمة مطروحة أينما كان فى العالم، حيث زمن العولمة والصراعات والحروب والهجرات.
■ فى روايات مثل «مريم الحكايا» أو «دنيا»، نرى تداخلات بين الماضى والحاضر فى سرد الشخصيات.. إلى أىّ مدى تعتقدين أن الذاكرة تلعب دورًا حاسمًا فى صياغة الهوية الفردية والجماعية فى لبنان؟
- بالتأكيد لها دورها لكنها ليست العنصر الوحيد فى صياغة هويته. وانطلاقًا من هنا كنت فى هاتين الروايتين أتنقّل بسهولة ويسرٍ بين الماضى والحاضر، سبقًا أو تأخيرًا. تسحرنى الكتابة عن ذاكرة أبطالى المنسية فى الروايات. والإنسان بلا ذاكرته إنسان تائه، لكنى أتعاطى مع الذاكرة على أنها متحرّكة وفى تغيّر مستمرّ. ولا شكّ أنها تلعب دورًا فى صياغة الهوية، فالإنسان ابن ذاكرته كما ثقافته. ولكلّ منا ذاكرته الفردية فى أبطال رواياتى، ما يشكّل الذاكرة الجماعية خلال المرويات والسرديات.
■ جسّدت فى أعمالك قضايا المرأة بشكل جرىء ومتعمّق مثل التصوّرات حول الجسد والجنس والعلاقات.. كيف ترين دور الأدب فى كسر الصمت حول هذه المواضيع الحساسة فى المجتمع العربى؟
- فى اعتقادى أن كل ما حاولت أن أسرده هو كسر الصمت ليس فقط حول ثيمة الجسد، وإنما أيضًا إنطاق الشخصيات النسائية وإعلاء أصواتهن فى الرواية، واختراق أعماقهن وتجاربهن الحقيقية فى الحياة، والعلاقة بذواتهن وبالآخر. إن كسر التابوهات حول هذه المواضيع كان هدفه الجرأة الفنية والإنسانية قبل أى شىء آخر، فلا يمكن للأدب أن يتمّ على مساحة ملغاة من حرية التعبير. وما حاولته حول هذا الموضوع أو غيره هو كسر الخطاب الذكورى السائد فى الأدب حول العلاقة بالجسد، والذى تماهت به كتابات نساء وكرّرته فى أدبياتها. الجسد الأنثوى ليس شكلًا، إنه حياة وأنوثة بكل أسرارهما التى حاولت التعبير عنها.
ما حاولته هو كشف المنظومة المجتمعية السلطوية الذكورية التى تسلّع الجسد أو تضعه فى مكان الترميز أو الإغواء فقط. ما حاولته هو الذهاب إلى ما هو حقيقى فى التعبير، وما المشاهد البصرية الحسية فى رواياتى، وخصوصًا فى «اسمه الغرام»، إلا لكسر النفاق فى اللغة وسعى لحسية اللغة. ولم يكن ذلك سهلًا علىّ، فاللغة الموروثة بذكوريتها تضغط على القلم، وتحرير اللغة من صَنَميتها وجمودها وشعاراتها ليس سهلًا على الإطلاق. وإذا كنا لا نكسر الصمت فى أدبنا، وإنطاق ما يجب إنطاقه، فأى دور للإبداع أن يلعبه؟
■ فى رواياتك.. كيف توازنين بين التصوّرات التقليدية للجسد وبين الحاجة إلى خلق فضاءات جديدة للتحرّر والتمرّد؟
- أنا لا ألعب لعبة التوازن، على العكس تمامًا. ما حاولته هو ميدان كتابة خارج النسق والأنماط المعمّمة، والذى نسمّيه تقليديًا إذا شئت. حين نتحدث عن إبداع يعنى أن يذهب الكاتب إلى خلق فضاءات ولغة جديدة، حتى ولو كان يكتب عمّا نفترضه عاديًا فى حياة الإنسان. فالكاتب المبدع هو ما يجعل العادى غير عادى فى الكتابة والإبداع. ولست أدّعى أو أبغى أن أطلق فضاءات أو للتمرّد. لا أكتب أبدًا من منطلق الدعوة لتحرّر المرأة أو تمرّدها، وإنما تحرّر الكتابة وتمرّد اللغة على الموروث والجمود والاجترار بالصور والأنماط. الأدب كما أفهمه هو خلق فضاءات جديدة والتمرّد على الأنساق والمفاهيم الجامدة والمعلّبة. هذا لا يعنى أنّ الأدب الحقيقى ليست له فعالية التأثير على ذهنية القارئ أو القارئة ووعيه لنفسه وللعالم.
■ كيف تختارين لغة السرد فى رواياتك؟ هل تجدين أن اللهجة العامية تمنحك حرية أكبر فى التعبير عن التفاصيل الدقيقة لحياة الشخصيات؟
- هى ليست مسألة خيار. لغة السرد تستجيب لما تودّين التعبير عنه، والتى من المفترض أن تكون حية ونابضة، بعيدًا عن لغة الخطابة والأيديولوجيا أو لغة الكاتب العليم أو اللغة الإنشائية. والأهم أن لكل شخصية لغتها حسب موقعها الاجتماعى أو الثقافى، حيث يولّد النص طبقات متنوّعة فى السرديات. عندما يكون الروائى قريبًا من الحياة، دون انفصال اللغة عن حركيتها، فلا بدّ أن تكون اللغة حية. اللغة كائن حىّ وليست مقولات جاهزة أو جامدة، وليست لباسًا لمحمول القول، بل هى ما تقوله، ولا أفصل بينها وبين ما تسرده.
اللهجة العامية تمنحنى حرية فى حوارات الشخصيات الشعبية، والتى تفقد شيئًا من نبضها ودلالاتها حين تُنقل إلى الفصحى. أما ما أستطيع التعبير عنه بالفصحى البسيطة خلال السرد، فإنى أفضّلها بالتأكيد.
■ هل ترين أن الأدب يمكنه أن يقدّم فهمًا أعمق للتاريخ اللبنانى المعاصر من خلال التركيز على التجارب الفردية والمعاناة الشخصية؟
- بالتأكيد يمكن الاعتماد عليها مهما كانت الشخصيات هامشية. إن الحروب الأهلية اللبنانية يمكن الاستناد إليها، لفهم حيوات أبطال الروايات وتفاصيل من هذه الحروب. على كلٍ التاريخ الرسمى يُكتب من منظور السلطات المسيطرة، أما مرويات الروايات فهى مرجعية حية لحيوات الأفراد أو حتى الجماعات، التى ينجذب الكاتب لكتابتها. وفى الروايات، للتخييل شرطه الإبداعى فى العلاقة بالواقع، ولكن مهما حاول الكاتب إنطاق الشخصيات بمعزل عن لغة الكاتب العليم، فإن العمل الفنى يبقى حاملًا رؤياه للواقع.
■ تتناول كتاباتك حيوات النساء فى ظروف اجتماعية وسياسية قاسية، كيف ترين أن هذه التجارب تشكّل سرديات المقاومة والصمود والمعاناة الشخصية؟
- أعتقد أن حكايات بطلات رواياتى تحاكى الوجع النسائى وكلّ ظلم وعنف ضدّهن. أنا أنحاز فى أدبى للصوت النسائى من مبدأ إنسانى وللمستضعفات فى مجتمعاتنا أيضًا كما للإنسان البسيط. كما أتنصر للجسد الأنثوى وعشق الحياة والحرية لهنّ، لكنّ سردياتى لا تحمل أى خطاب أو أيديولوجيا لحثّهن على المقاومة أو للدعوة إلى تحرّر المرأة، أنا أسرد واقعهن الذى قد يكون مأساويًا فى بعض الروايات، إلا أننى دائمًا ما أترك النوافذ مفتوحة لحيواتهن ومصائرهن. ولا بدّ للقارئة أن تقرأ أشياء تمسّها أو تكشف لها النظم والمفاهيم الذكورية والاستبدادية التى تتحكّم بالمرأة كما بالرجل على جميع الأصعدة. أو ربما هذا تمنٍ منى. كل الأعمال الأدبية الرفيعة فى العالم هى كشف للمعرفة الإنسانية والفنية مهما كانت تحمل من تراجيديات. إن ميدانى هو لعبة الفن ومداراته دون أن أنحاز إلى أى شخصية أو أخرى خلال الكتابة، على الإطلاق. أحاول أن أعبّر عنها وأن أفهمها وأسرد حكايتها، لكنّ أمر المقاومة أو عدمها يعود للقارئة أو للقارئ. سأورد لك مثالًا: فى رواية «دنيا» التى يحرّك زوجها المشلول حياتها بحركة عينيه، تبدو البطلة دنيا فى أقصى درجات الضعف والتعرض للاضطهاد على الأصعدة. لم أحاول التعبير عن زوجها المستبد «مالك» بإشارات الانتقاد. لم أكرهه خلال الكتابة ولم أنحز إلى «دنيا». لكن بعد أن انتهيت من قراءة الراوية قبل الطبع كرهته وغضبت منها ومنه. وقارئات كثيرات قلن لى إنهن كرهنه وإن كثيرات منهن اكتشفن ضعفهن والاستبداد اللاحق بهن. وهذا الأمر كان أشبه بجائزة بالنسبة إلىّ. فالمقاومة تبدأ بوعى الذات قبل أى شىء آخر.
أنا أكتب لأعبّر عن ذاتى أولًا ولأن أكتشف الحياة والعلاقات، وحتى أنا أتغيّر بين رواية وأخرى، أصير أكثر فهمًا لما يحدث بى وفى فهم هذه الحياة والعلاقات.
■ كيف ترين موقع الأدب اللبنانى والعربى واليوم على الساحة الأدبية العالمية؟ وهل ترين أن هناك تقديرًا كافيًا لأدب المنطقة فى الخارج؟
- أريد أن أقول بصراحة إن لدينا كتّابًا فى العالم العربى لا يقلّون إبداعًا أبدًا عن أى إنجاز عالمى يُحتفى به. وإذا كانت الترجمة إلى لغات أخرى هى ما يحدّد العالمية، فتفكيرى ليس كذلك. الأدب الإنسانى العالمى لا يعنى بالضرورة أن أعمال المبدعين التى لم تُترجم هى ليست فى مستوى عالمى. فالترجمة برأيى ليست المقياس. إنّ لها شروطها وعلاقاتها، وإلى ما يعود إلى اهتمام الغرب للمنتَج فى الروايات العربية. هناك أعمال لكتّاب لبنانيين أو عرب تُترجم فى الغرب، دون أن يحظوا فى العالم العربى بأى أهمية، والعكس صحيح. وعدم نجاح الأدب العربى بالمستوى المطلوب فى الغرب يعود إلى ما تختاره دور النشر الغربية من أعمال لاعتبارات كثيرة ربما سياسية أو علاقات أو غير ذلك. هذا لا يعنى أن روايات عربية مترجمة، وإن كانت قليلة، لم تحظَ بالنجاح. فالقارئ الغربى أكثر ما يجذبه حصول الكاتب على جائزة مرموقة مثلًا، ويحدث هذا فى بلادنا عمومًا.
والجوائز ليست المقياس فى نظرى أبدًا، لكن القارئ الغربى عمومًا لم يُقبِل على الأدب العربى كما يُقبِل على لغات أخرى مثل اليابانية أو الكورية أو غيرها من اللغات، وهذا يحدث فى الفنون الأخرى أيضًا. فى المقابل، فإنه من الملفت أن القارئ العربى عمومًا يُقبل على اقتناء الكتب المترجمة إلى العربية أكثر من إقباله على الروايات العربية إلا فيما ندر.
■ كيف ترين تطور تجربتك الأدبية من أول أعمالك وحتى الآن؟ ما هى التحديات الجديدة التى تواجهينها اليوم؟
- الحقيقة لا أستطيع أن أقيّم تجربتى، يحقّ لكل قارئ أو ناقد أن يفعل. التحدى الأكبر للكاتب المبدع ألّا يقلّد نفسه، وخصوصًا بعد عمله الأول الذى يلاقى نجاحًا كبيرًا، مثلما حدث لى مع روايتى «مريم الحكايا». عندما أنتهى من كتابة رواية لا أبدأ بأخرى إلا بعد أن تفارقنى عوالمها. أحرص دائمًا على أن أنتقل إلى مناخات وعوالم جديدة، لكن هذا لا يعنى أنه ليس لدىّ مشروعى الروائى. وربما هذا ميزة لى، لا أعرف. فأنا مهجوسة دائمًا بالكشف عن عوالم جديدة، وكل رواية هى التى تقودنى إلى غيرها بعد الانفصال عنها.