طباخ الكرملين.. كيف بَنَت روسيا إمبراطورية بالشوكة والسكين؟

- كتاب يروى قصة المائة عام الأخيرة من القوة الروسية بـ« الطعام»
- كاتب بولندى يكشف أحداث روسيا التاريخية من خلال عيون طهاة الكرملين
- المؤلف: طهاة الحكام الروس كانوا عملاء فى المخابرات السوفيتية ولم يسمح لهم بالحديث عن عملهم أو مغادرة البلاد
«الكرملين».. كلمة روسية معناها القلعة أو الحصن، وتطلق هذه الكلمة اليوم على مركز موسكو القديم بمبانيه، وهو محاط بجدار ضخم طوله ميلان ونصف الميل وارتفاعه 65 قدمًا، ويضم عدة قصور فاخرة كانت قديمًا ملكًا للقيصر ورجاله، قبل أن تتحول إلى متاحف. هذا المكان المحصن كان له بعد دفاعى وروحى وسياسى، فكان يؤوى البنى التحتية العسكرية ومراكز السلطة وأماكن العبادة فى روسيا القديمة، وكانت كل المدن تحتوى على الكرملين الخاص بها، وكان ذلك الذى فى موسكو لقرون عديدة مركز القوة الروسية. ويكشف الصحفى البولندى «ويتولد زابلوفسكى» فى كتابه «ما يطهى فى الكرملين: من راسبوتين إلى بوتين، كيف بنت روسيا إمبراطورية بالشوكة والسكين»، البعد الشهى للكرملين فى قصة لا تقاوم، ذات تاريخ سرى.

حاز «زابلوفسكى» العديد من الجوائز عن أعماله الصحفية ومؤلفاته، حيث يعتبر هذا الكتاب هو السادس والأحدث بين إصداراته التى يعتبر من أهمها كتاب «الدببة الراقصة» عام ٢٠١٤ الذى يستكشف اختلافات النظامين الشيوعى والرأسمالى، وكتاب «كيف تطعم ديكتاتورًا» عام ٢٠٢٠.
وفى كتابه الأحدث الصادر فى نوفمبر ٢٠٢٣ عن دار نشر «بنجوين بوكس» الإنجليزية، ويقع فى ٣٨٤ صفحة، ووصل إلى القائمة القصيرة لجائزة أندريه سيمون لكتب الطعام لعام ٢٠٢٣- يرسم صورة لروسيا من خلال سلسلة من القصص المتعلقة بالطعام، مستمدة من فترات مختلفة من تاريخها.
ويروى «زابلوفسكى» من المطبخ، حكايات عن الولائم والمجاعات، لروسيا، وهى واحدة من أكثر الأمم تعقيدًا وفتنة على وجه الأرض، وهو ما يجعل الكتاب أكثر أهمية من أى وقت مضى، فى ظل المفاوضات الأمريكية لبحث هدنة محتملة للصراع مع أوكرانيا.
أداة دعائية
تعقّب المؤلف وتبادل الخبز مع طهاة عملوا فى مطابخ الكرملين على طول صفحات كتابه، وهو ما يضفى نكهة مفاجئة لفهمنا لواحدة من القوى العظمى فى العالم، ويظهر استخدام روسيا للطعام كأداة مهمة للدعاية والسلطة.
ومن خلال المطبخ ووصفاته، يظهر الكاتب أنماط سيطرة الإمبراطورية السوفيتية بالسكين والمغرفة والشوكة التى استخدمها الحكام الروس دائمًا، من القيصر نيكولاس الثانى «آخر أباطرة روسيا»، إلى لينين «أول رئيس للاتحاد السوفيتى بعد تأسيسه»، وستالين «رئيس الاتحاد السوفييتى سابقًا»، وبريجنيف «الأمين العام للحزب الشيوعى للاتحاد السوفيتى سابقًا»، إلى الرئيس الحالى بوتين.

حيث يشير «زابلوفسكى» إلى أن استخدام الطعام، أو بالأحرى التهديد بعدم وجود طعام من خلال منع شحن الحبوب الأوكرانية، دائمًا ما كان لعبة سلطة مشروعة، ويروى أن فى حملة الرئيس بوتين الرئاسية الأولى استغل بوتين حقيقة أن جده كان طباخًا ماهرًا، وقد أعطاه المعالج الروسى راسبوتين عملة ذهبية، وعمل فى أستوريا فى سانت بطرسبرج وطهى للينين وستالين.
ولفت إلى أنه لم يتمكن من العثور على أى دليل على صحة أى من هذه الادعاءات عن جد الرئيس بوتين، وكان الشىء المهم هو أن الناس صدقوا هذه الدعاية الرائعة. ويضيف: بدا وكأن فلاديمير بوتين يقول «بما أن قادة الاتحاد السوفييتى وثقوا بجدى، فبإمكانكم أن تثقوا بى»، وهذا ما فعلوه.
ويعلّق المؤلف بأنه يمكن تلخيص ما تعلمه عن الدعاية الروسية فى جملتين: «لا يهم إن كانت القصة صحيحة، المهم هو أن يصدقها الناس».

طبقة خاصة
يحفل الكتاب بعدة قصص إنسانية عن الأشخاص الذين كانوا يحضرون الطعام للنخبة الروسية، بدءًا من «إيفان خاريتونوف»، رئيس الطباخين الذى أعدم مع القيصر نيكولاس الثانى عام ١٩١٨، ووصولًا إلى «بولينا إيفانوفنا»، التى طهت العشاء الأخير للاتحاد السوفيتى.
ويكشف الكاتب عن أن جميع الطهاة الشخصيين للحكام الروس، أو «الليتشنك» كما كان يطلق عليهم، والذين عينوا، كانوا عملاء فى المخابرات السوفيتية، ما يعنى أنه لم يكن يسمح لهم أبدًا بالحديث عن عملهم أو حتى مغادرة البلاد.
ولأن فى روسيا كانت الوجبة سلاحًا أحيانًا، ففى ٢٦ ديسمبر ١٩٣٦ دعا لافرينتى بيريا، وكيل ستالين، مرشدًا تحول إلى منافس، إلى عشاء «لنكن أصدقاء مرة أخرى»، وقدم له نبيذًا مسمومًا، ثم رافق بيريا إلى الأوبرا، حيث شاهد ببرود الرجل وهو يستسلم.
وللحماية جزئيًا من هجمات مماثلة، أنشأ الكرملين طبقة كاملة من الطهاة الشخصيين لأقوى أعضاء النظام. وفقًا لزابلوفسكى، بمجرد ترقية الطهاة إلى صفوف الليتشنك، أقسموا على السرية الدائمة، وبمجرد تقاعد رؤسائهم أو وفاتهم، يتم تكليفهم بأنواع أخرى من العمل، وعدم الطهى مرة أخرى أبدًا.

قصص إنسانية
يحكى المؤلف قصصًا خاصة لطهاة الكرملين، فى رواية لا تشبه أى رواية أخرى عن روسيا الحديثة، ويذكرنا بالقصص الإنسانية وراء هذا التاريخ القوى، ويكشف عن الوجبات المفضلة للقيصر نيكولاس الثانى ولينين، ولماذا علّم طباخ ستالين طباخ جورباتشوف الغناء لعجينته.
وكيف كان لدى ستالين جهاز اختبار الطعام، وما هى وصفة أول حساء تم إرساله إلى الفضاء الخارجى، ولماذا كره بريجنيف الكافيار، وماذا كان يتم تقديمه لقادة الاتحاد السوفيتى فى اللحظة التى قرروا فيها زوال الاتحاد السوفيتى.
ويتعرف الكاتب على المرأة الأوكرانية التى نجت من «هولودومور»، أو المجاعة الكبرى التى سببها ستالين فى أوكرانيا عامى ١٩٣٢-١٩٣٣، والجنود على الجبهة الشرقية الذين شووا القواقع وصنعوا حساء القراص أثناء قتالهم لجيش هتلر، و«فاينا كازيتسكا» الطاهية التى طبخت ليورى جاجارين أول رائد فضاء سوفيتى.
كما يروى قصص النساء الاثنتى عشرة اللواتى أطعمن رجال الإطفاء فى تشيرنوبيل بعد الانهيار النووى، وقصة تتار القرم الذين عادوا إلى وطنهم بعد عقود من المنفى، ليهربوا بعد غزو روسيا للقرم مجددًا عام ٢٠١٤.
الطاهى الرئيسي
من أبرز الشخصيات التى قابلها «زابلوفسكى» خلال إعداده كتابه، الطاهى الرئيسى للكرملين، فيكتور بيلييف، الذى عمل هناك لمدة ٤٠ عامًا، ويصفه المؤلف بأنه «روح الكتاب الطيبة».
ودخل فيكتور مطابخ الكرملين لأول مرة فى عهد بريجنيف، ثم خدم جورباتشوف ويلتسين «رئيس روسيا سابقًا» وبوتين، الذى قال للمؤلف إن طعامه المفضل هو الآيس كريم، وكان حذرًا بما يكفى لعدم الكشف عن الكثير عن الرئيس الروسى الحالى.
وأعد بيلييف ولائم فاخرة أبهرت عددًا لا يحصى من القادة والشخصيات الأجنبية المرموقة، منهم الرئيس الأمريكى الـ٣٧ ريتشارد نيكسون، ومارجريت تاتشر «رئيسة وزراء المملكة المتحدة سابقًا»، والتى أحبت فطائر البلينتشيكى التقليدية الروسية «نوع من الكريب».
وفى مقابلته مع الكاتب، وصف بيلييف- وكثيرون غيره- مدى شمولية تدريبهم، ليس فقط على الجانب النظرى، بل على الجانب العملى فى المطاعم والمقاصف فى المدن الكبرى.
وجبات القياصرة
يذكر «زابلوفسكى» الوجبات المفضلة والأنظمة الغذائية للقياصرة الروس، من غذاء القيصر نيكولاس الثانى المفضل وهو «المكرونة مع اليمام»، أما ستالين فكان يتناول سمك الحفش المدخن والكافيار الأحمر والأسود.
وكانت قائمة طعامه النموذجية: حساء اللحم مع مخلل الملفوف، أو الحنطة السوداء مع الزبدة وشريحة من اللحم البقرى، وبالنسبة للحلوى: مربى التوت البرى أو كومبوت الفاكهة.
وكان بريجنيف، يحب الجولاش المحضر من لحم الخنزير البرى والفطر، والذى كان يطهوه بنفسه أحيانًا، أما الوعاء المفضل لفلاديمير لينين فكان الحنطة السوداء المسلوقة، الذى ينسب إليه الروس «خصائص سحرية وعلاجية»، (وقد سمى الفياجرا الروسية)، والبيض المقلى والحليب الخام.
ويشير المؤلف إلى أن القيصر نيكولاس الثانى استمتع هو وعائلته بوجبات فاخرة، فى العاشر من أكتوبر عام ١٩٠٦، مع بداية المجاعة الروسية التى اجتاحت البلاد فى الفترة من ١٩٠٦ إلى ١٩٠٨، حيث تناولت الأسرة وجبة مكونة من حساء كريمة الهليون، والكركند «جراد البحر»، وفخذ الماعز البرى، وسلطة الكرفس، والخوخ، والقهوة.
أحداث تاريخية
يتتبع الكاتب أهم المعالم والأحداث التاريخية، ويقوم بوصفها من خلال عيون الطهاة مثل المجاعة الكبرى، وحصار لينينجراد، والحرب العالمية الثانية، وأول رحلة إلى الفضاء، وحرب روسيا فى أفغانستان، وكارثة تشيرنوبيل النووية، والعشاء الذى سبق حل الاتحاد السوفيتى رسميًا.
ووجد «زابلوفسكى» أن هناك سبعة طهاة نجوا من الإشعاع النووى، من بين كثيرين ممن لم ينجوا فى تشيرنوبيل، وحصلت أولجا على الوظيفة، لأنها كانت تضحك دائمًا، وهو أمر كان نادرًا فى موقع المفاعل.
وتوضح الطاهية فى الكتاب أن مهنة الطباخ لا تقتصر على الطعام فحسب، بل تتعلق بالحساسية لمزاج الناس، ولدعاية النظام. وتقول: يرى الطهاة أشياء لا يلاحظها الآخرون.
وفى يومى الأول عرفت أن الوضع سيئ للغاية. أسوأ بكثير من مجرد حادث بسيط. عندما رأيت هؤلاء الجنود، عرفت أن ما حدث غير صحيح. كانوا يحترقون.. لم يرغبوا فى أى شىء يأكلونه، حتى إنهم لم يلقوا نظرة على الشوكولاتة، بل شربوا وشربوا وشربوا.
ويروى المؤلف واقعة اجتماع ثلاثة رؤساء وزراء، هم: بوريس يلتسين الروسى، وليونيد كرافتشوك من أوكرانيا، وفياتشيسلاف كيبيتش من بيلاروسيا، فى مينسك «مدينة فى بيلاروسيا»، لتفكيك الاتحاد السوفيتى واستبداله برابطة الدول المستقلة- على عشاء من جولاش الخنزير البرى.
وهو ما كان قرارًا أثار اشمئزاز الطاهية، بولينا إيفانوفنا التى قالت: «كان يجب أن أسممهم.. أضع الزرنيخ فى خنزيرهم البرى.. ما كان يجب أن يخرج أحد من هناك حيًا».
وصفات المجاعة
تزداد الروايات الشفوية توترًا عندما يصل الكاتب إلى حكايات سنوات المجاعة المأساوية، والتى فرضت بشكل كبير نتيجة سياسات ستالين فى الزراعة الجماعية، وأودت بحياة ملايين الأوكرانيين.
ويلفت «زابلوفسكى» إلى أنه خلال تلك الفترة كان شخص فى أوكرانيا يموت جوعًا كل سبع دقائق، حيث تستذكر هانا باسارابا، البالغة من العمر خمسة وتسعين عامًا وإحدى آخر الناجين من المجاعة، من قرية روستيفكا فى أوكرانيا، كيف عاشت هى وعائلتها على الأعشاب الضارة.
وكانت وقتها فتاة صغيرة، تذهب إلى المدرسة، وتطعم حساء خفيفًا، كوجبة يومية واحدة، وكان الناس يأكلون الأغصان والأعشاب والقش المجفف، ويغلون حساء من إبر الصنوبر ولحاء الأشجار والأقماع. بينما كان بعضهم يحفر حفنات من الحبوب من جحور القوارض، والبعض الآخر يأكل بعضهم بعضًا.
ويكشف المؤلف عن أن ستالين، مهندس المجاعة، لم يكن يحب رائحة الطعام أثناء الطهى، وفى شبابه، كان يكره غسل الأطباق، لدرجة أنه أينما وطأت قدمه كان يأمر دائمًا بوضع المطبخ بعيدًا قدر الإمكان عن مسكنه.
ولأن الطعام هو أعز الأسلحة، فنحن لا نحيا بالخبز وحده، بل بالفرحة التى لا توصف التى توفرها المطابخ. يقتبس الكاتب عن طاهية روسية فى أفغانستان خلال حرب موسكو هناك، ترى كل جندى كفرد: «دعه يشعر بأن هناك من يهتم لأمره، وأن هناك من تكبد عناء ذلك، وأن هناك من يبذل جهدًا من أجله. هذا هو جوهر الطبخ، أليس كذلك؟ أن يشعر المرء بأن هناك من يهتم لأمره». هذه حقيقة عالمية، من الفلاح إلى الرئيس.. وهنا تكمن القوة.