Godfather.. ريا وسكينة.. رواية أخرى
- أسس أول بيت دعارة فى قنا ثم انتقل إلى القاهرة وأنشأ 15 «دارًا للمتعة»
- سخر 150 عاملة جنس وأنشأ حانات لتقديم الرقصات الماجنة للزبائن بمقابل
فى تمام الثامنة والنصف صباح يوم الإثنين الموافق 16 مايو 1921، عقدت محكمة استئناف الإسكندرية المعروفة بـ«سراى الحقانية»، أقدم وأعرق محكمة فى مصر، الجلسة الأخيرة من محاكمة الشقيقتين ريا وسكينة على همام، ليتم النطق بالحكم بإعدامهما.
فى ذلك الوقت، اهتمت الصحف المصرية بشكل كبير بتفاصيل القضية، ونشرت صحيفة «الأهرام» كواليس تنفيذ حكم الإعدام فى سجن «الحضرة» بشكل تفصيلى. وركزت جريدة «الأهالى» المتحدثة باسم حزب «الوفد» آنذاك، و«الأخبار» و«اللطائف المصورة»، اللتان كانتا من أبرز الصحف المصرية فى هذه الفترة، على نشر كل الوقائع المتعلقة بالجرائم التى ارتكبتها عصابة ريا وسكينة.
لكن الغريب فى الأمر هو ما كشفه بعض الوثائق من أن نفس هذه الفترة شهدت ذروة نشاط عصابة كبرى كان يتزعمها إبراهيم الغربى، الشهير بـ«إمبراطور القوادة»، وارتكبت جرائم بشعة تتنوع بين وقائع اتجار بالبشر واختطاف فتيات وفتيان، وتنظيم عمليات دعارة واسعة النطاق فى أنحاء متفرقة من مصر، دون أن تسلط الصحافة الضوء عليها، أو تذكر تفاصيلها التى تواكبت مع سقوط تشكيل «ريا وسكينة» العصابى.
هذا السياق التاريخى المتضارب، دفعنا فى «حرف» لطرح سؤال مهم وهو: هل تم تصدير قضية «ريا وسكينة» للتغطية على جرائم عصابة «إمبراطور القوادة» لأغراض سياسية؟
تاريخ العصابتين
كانت «ريا وسكينة» أول سيدتين يتم تنفيذ حكم الإعدام عليهما فى تاريخ مصر الحديث، بعد توجيه تهمة القتل العمد فى القضية مع سبق الإصرار والترصد بدافع السرقة لـ١٧ سيدة؛ وتوجيه نفس التهمة لكل من حسب الله سعيد مرعى، ومحمد عبدالعال، وعرابى حسان وعبدالرازق يوسف؛ وتوجيه الاتهام بالاشتراك وبالتستر معًا لكلّ من على حسن نصر، الصائغ الذى اشترى مصوغات جميع الضحايا، وأمينة بنت منصور الشهيرة بـ«أم أحمد النص»، ومحمد على القادوسى الشهير بـ«نُص»، وسلامة محمد خضر الشهير بـ«سلامة الكبت».
وفى السابعة والنصف صباحًا من يوم ٢١ ديسمبر سنة ١٩٢١ وتحديدًا فى سجن الحضرة بمدينة الإسكندرية، أقتيدت «ريا» ومن بعدها «سكينة» إلى غرفة الإعدام؛ وتم تنفيذ الحكم بحضور أعضاء هيئة تنفيذ الحكم، ومحمد حداية باشا، محافظ الإسكندرية فى ذلك الوقت، ومدير أمن الإسكندرية.
ولأن الرقابة كانت قد فرضت على الصحف منذ ٦ مارس ١٩٢٠ خاصة على المواد الصحفية التى من شأنها التشهير بالحكومة البريطانية أو الجيش البريطانى أو حكومة صاحب العظمة السلطان، أو المشاركة فى تشجيع الإضراب والمظاهرة لأسباب سياسية، ركزت صحف تلك الفترة بشكل كبير على متابعة القضايا الاجتماعية الداخلية، وبشكل كبير على قضية «ريا وسكينة».
أما «إمبراطور القوادة» أو إبراهيم الغربى الذى ولد فى ١٨٥٠ فى قرية كوروسكو بمحافظة أسوان، نفس المحافظة التى ولدت فيها ريّا على همام، فقد أسس أول بيت دعارة له فى قنا سنة ١٨٩٠، ثم طرد منها وجاء إلى القاهرة ليستأجر بيتًا كبيرًا فى شارع وابور المياه فى حى بولاق الدكرور ويحوله إلى بيت دعارة، حتى ألقى القبض عليه لأول مرة فى عام ١٩١٢.
واستطاع «إمبراطور القوادة» الذى اشتهر بارتدائه الملابس النسائية، أن يخرج من السجن بعد عام من حبسه، ليكمل بناء إمبراطوريته حتى إلقاء القبض عليه مرة ثانية بحلول عام ١٩٢٢ بعد أن تزايدت حوادث اختفاء الفتيان والفتيات القاصرين فى البلاد، وارتفعت الشكوك حوله بين عامة الناس، خاصة أن معظم الشكاوى الرسمية المتعلقة بهذه القضية كانت تُغلق ويُلاحظ أن المجرم لم يُقبض عليه أبدًا.
وتوسعت حدود إمبراطوريته فى الدعارة لدرجة أنه وقتها كان يمتلك نحو ١٥ بيت دعارة، وكان يعمل لديه فيها نحو ١٥٠ عاملة جنس، كما كان يمتلك عددًا غير معروف من الحانات التى تقدم بعض الرقصات الماجنة للزبائن بمقابل.
والغريب فى الأمر، أنه بعد صدور حكم الإعدام على «ريا وسكينة» بشهور قليلة، سقطت إمبراطورية «الغربى»، حيث تم القبض عليه فى عام ١٩٢٢، وتم نقله إلى سجن مصر فى القاهرة، إلا أن السجناء رفضوا السماح له بدخول السجن وهددوا بالثورة إذا تم وضعه معهم، لأنهم لم يقبلوا بوجود قواد يرتدى ملابس نسائية بينهم، ومن ثم إرساله إلى سجن آخر فى صعيد مصر لم يكن معروفًا لقضاء مدة حبسه التى بلغت عشر سنوات؛ حتى توفى فى هذا السجن عام ١٩٢٦.
والأكثر غرابة هو أن الصحافة وصفحات الكُتب التاريخية، لم تذكر تفاصيل سقوط تلك الإمبراطورية ولم يتم ربطها أو ذكر تفاصيلها خلال محاكمة «ريّا وسكينة»، ما يدعنا للتساؤل: هل تم إغفال ذكرها عن عمد أم سقطت سهوًا من الدفاتر؟
مملكة البغاء
كشفت الوثائق عن أن هناك ثلاث شخصيات وردت أسماؤها فى أوراق قضيتى «إمبراطور القوادة و«ريا وسكينة» فى نفس الوقت، ما يدعم فكرة وجود رابط بين العصابتين، أو أن عصابة «ريا وسكينة» كانت جزءًا من عصابة إبراهيم الغربى».
وتذكر الوثائق المتعلقة بواقعة القبض الثانية على إبراهيم الغربى، أنه رافقها واقعة القبض على صديقين شخصيين لـ«إمبراطور القوادة»، هما «سنتى باشا»، رئيس مكتب الآداب العامة، و«جورج فيليبدس»، نائب رئيس شرطة القاهرة، وأنه تم الحكم على الأول بالسجن لمدة خمس سنوات على الرغم من أنه كان أحد المسئولين الأكثر ثقة لدى «هارفى باشا»، قائد شرطة القاهرة عام ١٩١٦، وكان يحظى برعاية «ج.ج. ماكسويل» القائد العام للقوات الإنجليزية فى مصر.
هذه الواقعة شرحها الدكتور «رافاييل كورماك، الأستاذ المساعد باللغة العربية فى جامعة «دورهام» بالمملكة المتحدة، فى كتابه «Midnight in Cairo: the Divas of Egypt’s roaring ‹٢٠s» أو «الحياة الليلية فى القاهرة كما لم ترها من قبل» والصادر فى عام ٢٠٢١.
وقال إن الصحفيين الأجانب وقتها، وكذلك «هارفى باشا»، كانوا يتعاملون مع «الغربى» باشمئزاز بسبب ميوله الجنسية، ونوع العمل الذى يقوم به، كما كشف عن أن الأخير لم يكن فقط فاحشًا وصريحًا بشأن ميوله الجنسية، بل كان متورطًا أيضًا فى الاتجار بالبشر، وجمع ثروة هائلة من بيع الفتيات القاصرات فى العديد من بيوت الدعارة التى يمتلكها.
وعند اندلاع الحرب العالمية عام ١٩١٤، أسندت السلطات الإنجليزية مهمة اعتقال وترحيل الأجانب المصنفين كأعداء لسلطة الاحتلال لأحد المسئولين الأكثر ثقة أيضًا لدى «هارفى باشا»، وهو الشاب «فيليبيدس» الذى استخدم منصبه لتصفية حسابات قديمة مع خصومه.
ولكن لحسن الحظ، تمكن المسئول الأمنى توماس راسل، الذى أصبح فيما بعد شخصية قوية فى الشرطة المصرية، من الإيقاع بـ«فيليبيدس» بتهمة تسهيل الدعارة وسط قوات الجيش، وتم القبض عليه وزوجته فى عام ١٩١٦، خاصة بعد انتشار الأمراض التناسلية فى قوة التجريدة المصرية التى وصلت إلى نسبة ١٢٪، كما وصل معدل الإصابات فى بعض الوحدات إلى ٢٥٪.
وقرر «راسل» إنشاء سجن فى الحلمية يودع فيه من يمارسون الدعارة دون ترخيص ولمن اعتبرهم فاسدين أخلاقيًا، ورغم تلك الإجراءات، لم يتم القبض على «الغربى» صديق «فيليبيدس»، حتى لاحظ نائب رئيس الشرطة توماس راسل باشا وجود ارتباط بينهما، وأمر باعتقاله، وتم القبض عليه لكنه قضى عامًا واحدًا فقط فى السجن، وبعد إطلاق سراحه أعلن نفسه «الإمبراطور الذى انتصر على الحكومة».
ورأى بعض الكتّاب حينها أن العلاقة المباشرة بين «الغربى» الذى كان يتجول فى شوارع القاهرة مرتديًا زى امرأة، ويرتدى حجابًا أبيض على رأسه، ويضع المكياج فى وجهه، والحلى فى رأسه وذراعيه ورقبته وأصابعه بغرض التخفى ولطبيعته الجنسية الشاذة، وبين «سانتى باشا» و«جورج فيليبيدس» هى السبب وراء انتشار بيوت الدعارة وخطف القاصرات فى مصر.
كما رأوا أن ذلك المناخ المجتمعى هو ما دفع ريّا بنت همام لأن تصطحب «سكينة» شقيقتها التى ولدت فى كفر الزيات فى عام ١٨٨٥، وأن يكونا من بنات «إمبراطورية الغربى» ومملكة البغاء التى أقامتها عصابتهما، خاصة أنهما استقرا بالإسكندرية بعد هروبهما من صعيد مصر، ثم كفر الزيات فى بدايات القرن العشرين وبدآ عملهما غير المشروع فى تسهيل تعاطى المخدرات والخمور عن طريق إنشاء محال سرية ثم تسهيل الدعارة والقوادة.
البعض أجزم أيضًا أن بنتى «همام» كانتا بشكل رسمى ضمن «إمبراطورية الغربى» التى كان قوامها ٤٠٠ فتاة قاصر من إسنا إلى الإسكندرية التى ازدهرت فى بداية الحرب العالمية الأولى مع توافد جيوش الحلفاء إلى مصر، فى ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التى كانت تمر بها المحروسة آنذاك، وهو ما جعل على سبيل المثال لا الحصر منطقة مثل الأزبكية، مركزًا للتنوع الثقافى والاجتماعى؛ حيث كانت من أكثر الأماكن فى مصر التى تعج بقاعات الرقص والملاهى وتسليع واستغلال أجساد النساء.
وكان مشهد نهاية «إمبراطور القوادة» معبرًا للغاية، حيث رمى الناس نعشه بالبيض، ولم يرغب أى إمام فى الصلاة على جثمانه حتى شيع إلى مثواه الأخير، ومعه أسرار إمبراطوريته الغامضة.
مؤامرة «فيليبيدس»
كشفت الوثائق عن أن «جورج فيليبيدس» كان أحد الأشخاص الذين لعبوا دورًا كبيرًا فى إخفاء وحماية «إمبراطورية القوادة» وربما أكثر بكثير مما فعله صديقه «سانتى باشا».
و«فيليبيدس» من أصل يونانى، وتجنس بالجنسية المصرية، ودخل الخدمة فى الحكومة عام ١٨٨٥ تحت وظيفة مترجم، لإجادته الإنجليزية والفرنسية، رغم أن سجله خالٍ من الشهادات الدراسية، لكن لما يتمتع به من ذكاء استطاع أن يصل فى عام ١٨٩٦ إلى درجة وكيل قلم، وفى عام ١٩٠٠ عين رئيسًا لأقلام الضبط فى بورسعيد، ثم مأمور الضبط فى المحافظة، وقد أعجب به «هرفى باشا» حكمدار القاهرة فعينه فى عام ١٩٠٩ مأمورًا للضبط فى العاصمة.
ولعب «فيليبيدس» دورًا فى غاية الخطورة فى العديد من القضايا السياسية التى هزت المجتمع المصرى، بعد أن أنشئ المكتب السياسى، الذى عين مأمورًا له، بعد أن نال عطف الحكمدار وثقة مستشار الداخلية، وثقة صاحب الدولة حسين رشدى باشا رئيس الوزراء آنذاك، والذى قربه منه إلى درجة أثارت حسد طبقة الكبراء عليه، ليصبح العدو رقم واحد للحركة الوطنية المصرية؛ خاصة بعد مقتل بطرس غالى، رئيس وزراء مصر على يد إبراهيم الوردانى فى عام ١٩١٠م.
وأشارت وثائق تاريخية إلى تورط الزعيم محمد فريد فى اغتيال «غالى»، وأن هناك جمعية سرية تحت اسم «التشجيع على التعليم الحر» ساعدت على إمداد «الوردانى» بالسلاح، وهى جمعية أسسها الشيخ عبدالعزيز جاويش؛ الذى انضم إلى الحزب الوطنى بقيادة مصطفى كامل «١٨٧٤-١٩٠٨».
كما أشار العديد من الوثائق التاريخية الأجنبية إلى دور الشيخ «جاويش» الذى ترأس البعثة الأزهرية فى مونبلييه بفرنسا عام ١٩١٢، فى تنظيم عمليات تهريب الأسلحة إلى مصر، حيث التقى أحد الشباب المصريين فى فرنسا يدعى على إمام واكد، ودعاه لتهريب بنادق وأسلحة إلى مصر، ومحاولة لاغتيال الخديو عباس حلمى الثانى فى ساحة محطة القطار، وكذلك اللورد كرومر، المندوب السامى البريطانى فى مصر.
وتورط «فيليبيدس» فى تلك القضية التى عرفت وقتها باسم «مؤامرة شبرا» فى عام ١٩١٢، وتم القبض على المصريين الثلاثة: على إمام واكد، ومحمود طاهر العربى، ومحمد عبدالسلام، وهم جالسون على مقهى فى حى شبرا البلد.
وفى كتابيه «اثنى عشر عامًا فى السجون» و«هذا المجتمع الظالم» اللذين ألفهما محمود طاهر العربى المتهم فى «قضية شبرا» مع آخرين، شرح كيف تم التخطيط ومحاولة قتل الخديو، واللورد كرومر؛ وكشف فيهما كواليس لقائه مع «فيليبيدس» فى السجن، وقال إنه لم يسمع أى شىء عن المتهم الثالث «محمد عبدالسلام»، كما شكَّك فى جميع أوراق القضية، وفى أقوال الشهود.
وكشف عن أن «فيليبيديس» سعى مُبكرًا لتدمير الحزب الوطنى عبر الدسِّ بين أعضائه، ولما فشل فى ذلك جنَّد مصطفى المحلاوى الصحفى فى جريدة اللواء، التابعة للحزب الوطنى، وعبره دبَّر محاولة الاغتيال الوهمية من أجل الإيقاع برجال الحزب.
وشكَّك الزعيم الوفدى سعد زغلول فى مذكراته فى هذه القضية، معتبرًا أنها مسرحية من تدبير «فيليبيديس»، الذى منح «المحلاوى» رشوة قدْرها ٢٠٠ جنيه للإيقاع بزملائه، وعلى جانب آخر هللت الصحافة الموالية للإنجليز، مثل جريدة «المقطم» للقضية وباركت عملية القبض على المتهمين، وأفردت مساحات مُطوَّلة للحديث عن تفاصيل المؤامرة، وحنكة المكتب السياسى بقيادة «فيليبيديس»؛ الذى كُشف تدليسه وتورطه فى القضية كما أشار «طاهر» فى كتابيه، وهو ما يدعم الأقاويل عن استخدام نفوذه لرعاية إمبراطور القوادة إبراهيم الغربى، وبث الفتن والتخطيط للمؤامرات السياسية فى مصر.