تعطيل العقل المصرى.. فتوى لم يطلبها أحد
- أفتت دار الإفتاء المصرية بأن التهنئة بالعام الجديد جائزة شرعًا
- تستسلم دار الإفتاء إلى ما يمكن اعتباره حالة ابتزاز من الجماعات المتطرفة
على حسابات دار الإفتاء المصرية قرأت، كما قرأ الجميع، الفتوى التى ساقتها الدار بين يدى العام الجديد، وتقول فيها نصًا: إن التهنئة بالعام الجديد جائزة شرعًا، ففيها الامتثال للأمر القرآنى العام بتذكر أيام الله تعالى، وما فيها من نعم وعبر وآيات، قال تعالى: «وذكّرهم بأيام الله»، وتجدد الأيام على الناس هو من النعم التى تستلزم الشكر عليها.
ولست أدرى على وجه اليقين: هل كتبت دار الإفتاء ما كتبته ردًا على سؤال وصلها من أحد المواطنين يطلب فيه فتوى عن حل أو حرمة التهنئة بالعام الجديد؟
أم أنها فتوى تطوعية، وإجابة عن سؤال محتمل؟.. فحتمًا هناك مواطن يدور فى ذهنه هذا السؤال، ويجعله حائرًا قلقًا متوترًا لا ينام الليل، ولا يعرف مصيره، فهل هو إلى الجنة سائر أم سيستقر فى قاع الجحيم لمجرد أنه قال لجاره أو صديقه أو زميله فى العمل أو حتى أى عابر فى الشارع: كل سنة وإنت طيب بمناسبة العام الجديد.
لا يمكننى أن أعيب على دار الإفتاء ما فعلته، فهى فى النهاية تقوم بعملها، فمعنى أن يكون لدينا دار إفتاء لا بد أن تفتى، هذا عملها الذى يتقاضى العاملون فيها أجرهم عليه، ثم إنها أرفقت هذه الفتوى بهاشتاجين: الأول هو #على- عملك- شهيد، والثانى هو #هدفنا- الوعى- والتنوير، بما يعنى أنها قدمت هذه الفتوى فى إطار استراتيجية عامة وشاملة لرفع الوعى الجمعى لدى المواطنين بما يجب وما لا يجب، وما يقره الدين وما يرفضه، ولا يمكن لأحد أن يقطع الطريق على دار الإفتاء وهى تسهم فى معركة الوعى، التى هى بالفعل أم المعارك التى نخوضها منذ سنوات.
لكن هذه الفتوى ومثيلاتها مما يمكننا اعتباره فتاوى المناسبات، مثل فتوى تهنئة المسيحيين بأعيادهم، وفتوى الاحتفال بالمولد النبوى الشريف- تعكس لنا بوضوح تجليات العقل المصرى ومن ورائه العقل العربى بشكل عام، وتطرح السؤال الذى أعتقد أن طرحه فى هذا السياق مهم، وهو: هل المشكلة فى المفتى أم فى المستفتى؟
فى ٢٢ ديسمبر ٢٠٢٤ أصدرت دار الإفتاء المصرية بيانًا ترصد فيه حصاد العام ٢٠٢٤، من بين ما جاء فيه أن الدار أصدرت خلال هذا العام مليونًا و٤٢٢ ألفًا و٩٢١ فتوى.
تتنوع وسائل دار الإفتاء فى إصدار الفتاوى، كما يكشف البيان، فهى تصدر الفتاوى شفويًا وهاتفيًا وكتابة وإلكترونيًا عبر تطبيق دار الإفتاء والبث المباشر وصفحات التواصل الاجتماعى، وذلك من خلال المقر الرئيسى فى القاهرة وعبر فروعها المنتشرة فى جميع أنحاء الجمهورية.
حددت دار الإفتاء نوعيات الفتاوى التى قامت بإصدارها.
فقد احتلت فتاوى العلاقات الأسرية والزوجية والطلاق والأحوال الشخصية نسبة تقترب من ٦٧ بالمائة من إجمالى الفتاوى، ثم تأتى بعد ذلك الفتاوى الخاصة بالعبادات والمعاملات فى المرتبة الثانية بنسبة تصل إلى ٢٥ بالمائة، وتوزعت النسبة الباقية وهى ٨ بالمائة على قضايا أخرى متنوعة تهم الناس.
لم تحدد دار الإفتاء فى بيانها القضايا الأخرى المتنوعة التى تهم الناس، وأعتقد أن الإشارة إليها كانت واجبة، على الأقل حتى نفهم تطور العقلية التى تتوجه بالسؤال إلى الدار، خاصة أن هناك فى الحياة من التعقيدات والتشابكات ما يستدعى السؤال، ويستدعى بالتبعية إصدار الفتاوى.
يعيب بعض من لا يروق لهم عمل دار الإفتاء إكثارها من إصدار الفتاوى معتبرين أن هذا العدد الذى يقترب من مليون ونصف المليون فتوى ضخم ومخيف ودال، دون أن ينتبهوا أن المشكلة الحقيقية قد لا تكون فيمن يفتى، ولكنها بدرجة أكبر فيمن يطلب الفتوى.
وهو ما يجعلنا نتساءل:
كيف يفكر الناس فى مصر؟
وكيف يتعاملون مع شئون الدين؟
وهل من يتوجه إلى دار الإفتاء أو إلى غيرها من جهات الفتوى يريد بالفعل إجابة عن سؤال يشغله؟ أم أنه يسعى لتحقيق هدف آخر، على طريقة حاجة فى نفسه يريد أن يقضيها؟
فى الثقافة الشعبية ستجد من يقول لك: ارميها فى حِجر عالم.
وهى ثقافة تعكس حالة من السلبية والتواكل وانعدام الثقة فى النفس، كما تعكس حالة من الخبث الشديد تتناسب أحيانًا مع بعض سمات الشخصية المصرية.
فإذا ما اعترضت طريقك مسألة فى الدين، ولا تعرف كيف تتصرف فيها، فما عليك إلا أن تذهب بها إلى عالم دين، تضع بين يديه سؤالك، وتحصل منه على الإجابة، ثم تعمل بها، بصرف النظر عن منطقية هذه الفتوى أو معقوليتها، وهل هى صحيحة تتسق مع الدين أم تخالفه؟
فإذا كانت الفتوى صحيحة فقد فزت بالثواب، وإذا كانت خاطئة فلا لوم عليك ولا ذنب، فهى معلقة فى رقبة العالم الذى أفتى لك، أليس هو الذى قال: فليس عليك بعدها من ذنب، بل هو الذى يتحمل عنك العاقبة.. إذا كانت هناك عاقبة للأمر من الأساس.
وهناك من يسعى إلى إجابة تريحه وترفع عن كاهله ما يشعر به من إثم، ولذلك فهو لا يرضى بفتوى واحدة فى الأمر الواحد، ولكنه يسعى للحصول على أكثر من فتوى.. حتى لو كانت متناقضة ومتباينة كل التباين.
قبل أن تنتقل مشيخة الأزهر إلى مقرها الجديد تجاورها دار الإفتاء، كانت المشيخة تقع فى مواجهة الدار فى منطقة الحسين، وحدث أن دخل أحدهم إلى دار الإفتاء حاملًا معه سؤالًا يبحث له عن إجابة ويرغب فى فتوى، وبعد أن استمع من الشيخ، حمل سؤاله مرة أخرى وعبر الشارع متجهًا إلى لجنة الفتوى فى المشيخة، وطرح نفس السؤال، طامعًا فى أن يحصل على فتوى أخرى.
فى تفسيره لما فعله، قال صاحب السؤال مبررًا سلوكه إن اختلاف الأئمة رحمة، وقد يكون لدى مفتى المشيخة فتوى مريحة أكثر من مفتى الدار أو العكس، وأنا أريد أن أريح نفسى، ولذلك أبحث عن المناسب لى.
يمكن لهذه الحالة أن تنتهى ببساطة، لو أن المؤسسات الدينية عملت منذ سنوات على تربية المواطنين تربية دينية صحيحة، فالرسول، صلى الله عليه وسلم يقول: «استفتِ قلبك ولو أفتوك»، ووضع قاعدة ذهبية ليعرف الناس الحلال من الحرام، عندما قال: «الإثم ما حاك فى صدرك وخشيت أن يطلع عليه الناس»، قاصدًا من ذلك أنك تستطيع أن تعرف الحلال من الحرام دون أن تكون فى حاجة إلى من يرشدك أو يدلك أو يأخذ بيدك.
لكن يبدو أن هناك من بين العاملين فى حقل الدعوة والفتاوى من يتجاهلون ذلك، فلا يعلون من شأنه، لأن الناس لو فعلوا ذلك، فلن يكون لهؤلاء عمل يحصلون منه على أرزاقهم، وتخيل أن يكون الرزق من إحساس الناس بالذنب والبعد عن الله؟ بئس هذا الرزق الذى يأتى من استغفال الناس واستغلال حاجتهم إلى أن يكونوا مواطنين صالحين.
لسنوات طويلة لم تكن دار الإفتاء تبادر بتقديم الفتاوى، كان كل ما تفعله أنها تنتظر الأسئلة التى ترد إليها من المواطنين، تدرسها وتفحصها وتقدم الإجابات عنها، ولم يكن لديها مانع أن تعيد فتواها كل عام فى نفس القضايا، فالأسئلة متشابهة والناس يلحون فى السؤال حتى لو كان معادًا ومكررًا ويعرفونه جيدًا، لكن كل مواطن يريد أن يحصل على الإجابة بنفسه لنفسه بشكل شخصى، ولا يلتفت أحيانًا إلى أن الفتوى نفسها قد تكون صدرت لشخص آخر، فهو ليس مسئولًا عن الآخرين، بل هو مسئول عن نفسه فقط.
لا يعنى هذا أن الدار لم تكن تبادر أحيانًا، لكنها كانت تفعل ذلك فى الغالب لأسباب سياسية.
وأذكر أنه فى عهد مُفتٍ شهير، وكانت الدولة وقتها تستعد لإصدار قانون خاص بإيجارات الأراضى الزراعية، وتحديد شكل وحدود العلاقة بين المالك والمستأجر، وبينما تتواصل المناقشات السياسية والبرلمانية تمهيدًا للاستقرار على الشكل النهائى للقانون، خرج مفتى الديار بفتوى تميل إلى جانب الملاك على حساب المستأجرين، وأرفقها بعدد من الآيات والأحاديث النبوية الشريفة التى تؤيد وجهة نظره وتدعمها.
أثارت الفتوى حرجًا شديدًا للدولة، وبدأت صحف المعارضة تتحرش بها سياسيًا متهمة إياها بأنها توظف الدين لخدمة أهدافها وتحقيق ما تخطط له.
تواصل أحد أركان النظام مع المفتى ليستوضح منه الأمر.
سأله بوضوح: ما الذى دفعك يا مولانا لإصدار هذه الفتوى الآن؟
فرد عليه المفتى بثبات شديد: لقد قرأت المشهد، ورأيت أن اتجاه الدولة إلى الملاك أكثر، فأردت أن أخدم.
بضيق شديد قال السياسى الكبير: الخدمة ليست فى مكانها يا مولانا.. وما حصل أنك أسأت إلى الدين ولم تحسن إلى السياسة.
منذ سنوات ودار الإفتاء تجتهد فيما تقوم به، ويمكننا أن نمسك بالمرحلة العلمية فى عملها، وهى التى بدأت بتنصيب الدكتور «على جمعة» مفتيًا يتولى شئونها فى الفترة من ٢٠٠٣ حتى العام ٢٠١٣، ثم جاء الدكتور «شوقى علام» ليتولى المهمة فى فترة صعبة للغاية، استطاع خلالها تحويل الدار إلى صرح عالمى، ولعبت دورًا مهمًا فى تطوير منظومة الفتوى على أساس علمى، والآن يعمل الدكتور «نظير عياد» ليستكمل ما بدأه سابقوه.
لكن ورغم الجهود الكبيرة التى تبذلها دار الإفتاء، فإنها لم تنتبه إلى المأزق الذى يضعها الآخرون فيه، فلا تلتفت إلى أن الفتوى فى الأساس يمكن أن تكون أداة من أدوات تطوير العقل المصرى، فعندما تفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، وعندما تضع نفسها بشكل كامل فى خدمة تجديد وتحديث الفكر الدينى، من خلال اشتباكها مع القضايا الحقيقية التى تعترض حياة الناس وتؤثر عليها، فإنها يمكن أن تقود العقل إلى المكان الذى يستحقه.
تستسلم دار الإفتاء إلى ما يمكن اعتباره حالة ابتزاز من الجماعات المتطرفة، وهو ابتزاز يعمل بنشاط كبير فى مساحات خلافية المفروض أنها محسومة، السؤال فيها وعنها يشير إلى أن هناك أزمة فى هذا العقل، وهو ما يجب أن تغلق دار الإفتاء الباب أمامه تمامًا، ولا تشغل بالها بما يمكن أن يجعل هذا العقل يترنح فى تفاهات الأمور.
أغلب الظن أن أحدًا لم يسأل دار الإفتاء عن التهنئة بالعام الجديد، وهل هى حلال أم حرام؟
وأغلب الظن أن أحدًا لا يحمل سؤالًا إلى دار الإفتاء كل عام ليسأل هل تهنئة المسيحيين بعيديهم «الميلاد- القيامة» حلال أم حرام؟
وأغلب الظن أن أحدًا لا يشغل باله بحل أو حرمانية السلام على المسيحيين ومشاركتهم فى أفراحهم وأعيادهم ومناسباتهم السعيدة، ولذلك فلا أحد يسأل عن ذلك الآن.
وأغلب الظن أن أحدًا لا يمكن أن يراسل دار الإفتاء عبر المنصات المختلفة، ليسأل هل الاحتفال بالمولد النبوى حلال أم أنه بدعة من البدع؟
لقد تابعت باهتمام ردود الأفعال على فتوى دار الإفتاء الأخيرة الخاصة بالتهنئة بالعام الجديد، ووجدت أن المواقع الإلكترونية التى نشرتها قدمت لها بمقدمة واحدة تقريبًا وهى أن الجدل يتجدد فى مصر كل عام حول مسألة التهنئة بالعام الجديد، ولذلك قدمت دار الإفتاء الفتوى الخاصة بذلك، وبحثت عن أثر لحالة الجدل التى يتحدث عنها هؤلاء، فلم أجد لذلك أثرًا، والسبب البسيط والمباشر لذلك أنه لا توجد حالة جدل من الأساس، اللهم إلا أن يكون من صاغ الفتوى وحرص على أن يضعها على منصات دار الإفتاء رصد جدلًا فى مكان آخر لا نعرفه، وهو ما دفعه لأن يقول ما قال.
سيقول المسئولون فى دار الإفتاء، وهم علماء أحترمهم وأقدرهم وأثمن الدور الذى يقومون به، إنهم لا يستطيعون أن يتجاهلوا ما يسأل عنه الناس، مهما كان تافهًا وصغيرًا ومعادًا ومكررًا، فمن حق كل من يسأل أن يحصل على إجابة لسؤاله.
أحترم هذا المنطق بالطبع، لكن الدار إذا استسلمت له فإنها بذلك تسهم بقدر كبير فى تسطيح العقل المصرى، ولن أبالغ إذا قلت إنها تعمل على تعطيله، فلا ينطلق للتفكير فى قضاياه الحقيقية والقضايا التى تهمه.
وإذا أردتم الحقيقة فإن دار الإفتاء والمؤسسات العاملة فى مجال الفكر الدينى يجب ألا تتماهى مع ما يهتم به الناس طول الوقت، بل من المفروض أن تضع هى الأجندة التى تحدد اهتمامات الناس، يجب عليها أن تدفع إلى ساحات النقاش بالقضايا الجديرة بالاهتمام، لا أن تضع نفسها على مدار الدائرة المفرغة التى نتحرك فيها، فلا نتقدم خطوة إلى الأمام.
لا يعنى ما أقوله إن دار الإفتاء لا تقوم بدورها، ولكنى أعتقد أننا فى حاجة إلى تصحيح مسار بقدر كبير، فالطريق الذى نسير فيه لن يؤدى بنا إلى شىء له قيمة.. اللهم بلغت.. اللهم فاشهد.